ما زالت توابع الحكم الصادر عن التحكيم الدولي الذي غرم مصر ملياري دولار، تعويضًا لشركة إسبانية عن مخالفة شروط توريد الغاز الطبيعي إلى مصنعها في دمياط، حديث الصباح والمساء في الأوساط الاقتصادية والسياسية المصرية، فالمبلغ الذي سيتم تحويله إلى حساب الشركة، كانت البلاد أولى به في ظل غلاء فاحش وحاجة متزايدة لإنشاء مشروعات تغطي حاجة الدولة، من بنى تحتية تساهم في نهضة طال انتظارها.
دعاوى قضائية مخيفة.. ما السبب؟
أصبح الموضوع مخيفًا، فخلال السنوات الماضية، تضاعفت حجم الدعاوى التحكيمية الدولية التي تختصم مصر، وتطالب بالإنصاف الدولي ضدها، بما جعل الأزمة في نظر العديد من الخبراء، قضية أمن قومي، فلا يوجد هناك حيثية أكثر أهمية، يمكن التعامل من خلالها أقل من ذلك، لتفادي هذه الضربات، فضلاً عن توفير الوقت والجدل الذي يصاحب كل لطمة توجه للقاهرة وتسلبها مليارات طائلة في أحكام قضائية لا راد لها ولا يجوز معها اللجوء إلى درجات أخرى للتقاضي.
على مدار السنوات الماضية، كانت مصر الحلقة الأضعف في قضايا التحكيم الدولي بشكل واضح
المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار الذي يتبع البنك الدولي، هو صاحب قرار تغريم مصر في القضية الأخيرة، ورغم تبعية المركز إداريًا للبنك الدولي، فإن الأخير لا يمكن اعتباره طرفًا في النزاع مع مصر، في ظل تبعية تلك الأحكام لهيئات تحكيم يتم تشكيها من خبراء قانونيين مستقلين، يتدخل في تشكيلهم دون شك، طرفا النزاع دون أدنى اشتباك من المركز، بما يعني أن مصر كانت على توافق كامل مع الخصم في تشكيل أعضاء اللجنة التي خففت الحكم إلى ملياري من 10 مليارات طلبتهم الشركة الإسبانية تعويضًا عن أضرار لحقت بها في مصر.
على مدار السنوات الماضية، كانت مصر الحلقة الأضعف في قضايا التحكيم الدولي، فالبعض اعتبرها حصالة تعويضات للمستثمرين، بسبب اتفاقيات الاستثمار الثنائية المثيرة للجدل التي أبرمتها لتعزيز علاقات التعاون والاستثمار مع دول العالم، ولكن الآلية زاد استخدامها عن الحد، حتى أصبحت أرض الكنانة من أكثر بلدان العالم إبرامًا لاتفاقيات الاستثمار الثنائية، حتى مع دول لم تستفد منها ولا تمثل لها أدنى أهمية، والكارثة أن هذه الاتفاقات المبالغ فيها، تجعل التحكيم الدولي، قادرًا على إلزام مصر بتحويل ما يكتب على الورق دون وعي، إلى عمليات تبادل ذات نفع حقيقي، بما وضعها في الفخ الذي تعاني منه الآن.
تكمن المشكلة الكبرى في رأي الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء الأسبق، في تحول دعم الدولة للاستثمار الأجنبي ومنحه المزايا والضمانات من أجل استقطابه لتحقيق نمو اقتصادي، إلا أن هذه الاتفاقات تتحول إلى إثقال كاهل البلاد، بسبب العقود غير ممكنة التنفيذ، بما يجعل الاتفاقات التي تقدم بحفاوة بالغة إلى وسائل الإعلام دون دراسة كافية، السبب الرئيسي كل مرة، في فتح المجال لتعريض أكبر دولة عربية للأحكام الدولية والتعويضات بسبب إخلالها بالتزاماتها القانونية.
بحسب ما يسمح به من معلومات، يثير لعاب بعض مسؤولي الدولة ويدعوهم لإبرام مثل هذه الاتفاقات، مراهنتهم على سياسة النفس الطويل مع الشركات، حال حدوث أي خلافات بين الطرفين
وتحتل مصر المركز الأول عربيًا والخامسة عالميًا في عدد معاهدات الاستثمار الثنائية الموقعة مع الدول المختلفة بنحو 100 معاهدة، التي تلزمها بقبول اللجوء للتحكيم الدولي عند نشوب نزاع، بحسب تقرير”فوق الدولة.. الشركات متعددة الجنسيات في مصر”، الصادر عن المركز المصري للحقوق المصرية والاجتماعية.
بحسب ما يسمح به من معلومات، يثير لعاب بعض مسؤولي الدولة ويدعوهم لإبرام مثل هذه الاتفاقات، مراهنتهم على سياسة النفس الطويل مع الشركات، حال حدوث أي خلافات بين الطرفين، خاصة إذا علمنا أن دعاوى التحكيم الدولية، تتخذ مسارات زمنية طويلة، حتى يتم إصدار حكم نهائي، بما يتيح الضغط والتفاوض واستخدام المصالح الموجودة على الأراضي المصرية لهذا الكيان أو ذاك، لإعادة العلاقة لمسارها أو على الأقل تبريد الأزمة.
ولكن يتناسي بعض المسؤولين، أن هناك من يتنمر، إذا لم يصل إلى صيغة مرضية له، ولا تفرق معه الكروت المستخدمة من الدولة المصرية، ولا يهتم أيضًا بما سيسفر بعد القضاء على علاقته بمصر ومصالحه فيها، لذا يستمر في المقاضاة لسنوات طويلة، وهذا ما حدث تحديدًا في قضية الشركة الإسبانية التي خسرتها مصر الأسبوع الماضس، رغم استمرار حلقات التقاضي 4 سنوات، منذ رفع القضية أمام مركز التحكيم بداية عام 2014.
ابحث عن الفساد.. الخصخصة نموذجًا
بعيدًا عن الأرقام الكثيرة التي دفعتها مصر في التعويضات وتناولتها العديد من تقارير الصحف ووكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية، يمكن العودة لأصل الارتباك الاقتصادي والإداري الذي تنعكس آثاره على الدولة الآن، وتأريخه منذ بداية الخصخصة التي كانت مثالاً صارخًا على الفساد، وعدم الشفافية والمكاشفة ومصارحة الرأي العام بما يجري خلف الأبواب المغلقة، فمنذ ظهور القضية وشيوع رائحة الفساد فيها بنهاية العقد الأخير من حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، والملف يزداد ثقلاً، وكل يوم يتكشف فيه ما هو أسوأ.
جاءت قضايا التعويضات التي ظهرت للنور بشكل مكثف خلال السنوات الأخيرة، لتكشف عن سوء الإدارة والارتجالية والعبث الذي ساد حقبة مبارك في التعامل مع قضايا حساسة
كانت مصر قد تخلت بشكل متدرج منذ عام 1991، عن 382 شركة، منهم 37 في حكومة الدكتور عاطف صدقي تمثل 10% من حصيلة البرنامج الذي بدأ تنفيذه آنذاك، ليأتي كمال الجنزوري ويستكمل منهج سلفه بخصخصة 115 شركة تمثل 30% من إجمالي البرنامج، خلال فترة أقل من أربع سنوات قضاها في رئاسة الوزراء، بينما كانت الطامة الكبرى في عهد أحمد نظيف، آخر رئيس وزراء في عهد مبارك.
وجاءت قضايا التعويضات، التي ظهرت للنور بشكل مكثف خلال السنوات الأخيرة، لتكشف عن سوء الإدارة والارتجالية والعبث الذي ساد حقبة مبارك في التعامل مع قضايا حساسة، استنزفت قوت شعب منهك، بما أجبر الشركات الدولية التي تحمست لخصخصة معظم المؤسسات الكبرى في مصر، على اللجوء للتحكيم التجاري الدولي منذ عام 2010، للحصول على تعويضات مناسبة، بسبب تعطل مشروعاتها، جراء الأحكام القضائية الصادرة ببطلان عقود خصخصة الشركات الحكومية، التي لم يحدث عليها توافق مجتمعي في مصر، بما جعل النشطاء الحقوقيون يلجأون للقضاء المصري الذي أدان منهج الحكومة في التعامل مع إجراءات معظم العقود، بما كان يبطلها في النهاية.
كان توقيع مصر على العديد من الاتفاقيات التي تتضمن الاعتراف بحكم المحكمين الدوليين، السبب الرئيسي منذ ظهور الخصخصة في منح المدعي أمام الحكومة المصرية الحق في الحجز على أرصدتها وأصولها بالخارج، حال صدور أحكام لصالحه بمليارات الدولارات، بما طرح العديد من التساؤلات عن قدرة الحكومة المصرية خلال كل تلك السنوات على صرف هذه الأموال الطائلة، في ظل ظروف يتخللها عجز دائم في الموازنة وتراجع في السيولة.
كانت المحكمة العربية التابعة لجامعة الدول العربية، قد أصدرت حكمًا قضائيًا عام 2015، لصالح مصر، وقضت بعدم اختصاصها في نظر دعوى أقامها بعض رجال الأعمال العرب، طلبوا فيها إلزام الدولة المصرية بتعويض قدره 50 مليون دولار أمريكي
ولم تقف الدعوات القضائية خلال سنوات ما بعد ثورة يناير، وبشكل خاص أمام مركز تسوية المنازعات الاستثمارية “أكسيد” التابع للبنك الدولي بالعاصمة الأمريكية واشنطن، على الشركات الغربية، بل كان لافتًا لجوء شركات كويتية وإماراتية للمركز، لإقامة دعوات قضائية ضد الحكومة المصرية، بسبب تشكك المستثمرين العرب في مجاملة محكمة الاستثمار العربية لمصر على حسابهم.
كانت المحكمة العربية التابعة لجامعة الدول العربية، قد أصدرت حكمًا قضائيًا عام 2015، لصالح مصر، وقضت بعدم اختصاصها في نظر دعوى أقامها بعض رجال الأعمال العرب، طلبوا فيها بإلزام الدولة المصرية بتعويض قدره 50 مليون دولار أمريكي، وعبروا عن دهشتهم من قبول المحكمة رئيسي الجمهورية والوزراء، بصفتهما في أثناء سير الدعوى، بما يضر بحقوق المستثمرين ويضعف من موقفهم.
وبتتبع أصل الشكوى، تبين أن بعض رجال الأعمال العرب، أنشأوا شركة بمصر، تعمل في مجال تجارة وتسويق وتوزيع وتصدير المواد الغذائية والحلويات، وبسبب خلافات مالية، دخلوا في منازعات تجارية مع أحد رجال الأعمال المصريين، وتم نظر القضية أمام القضاء االمصري، وبسبب طول إجراءات التقاضي، لجأ رجال الأعمال العرب إلى محكمة الاستثمار العربي طلبًا للتعويض، واختصموا فيها الدولة المصرية، واتهموها بالإخلال بالتزاماتها الواردة بالاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في البلدان العربية.
لا تعتد الدول الأوروبية والمحاكم الدولية، بأي إجراءات قضائية داخلية، تجاه حكومات البلدان المختلفة التي تستسهل المساس بمصالح المستثمرين، بما يؤدي في النهاية إلى إلغاء التعاقدات
ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي أنصفت فيها محكمة الاستثمار العربي مصر، بل سبق هذا الحكم، حكمًا آخر في غضون مدد زمنية لم تتجاوز الثلاثة أشهر، انتصر أيضًا للدولة المصرية ضد مستثمرين عرب، كما حكمت المحكمة لصالح الدولة ضد المصري الدكتور أحمد بهجت مالك قنوات دريم الإعلامية، وقبل هؤلاء منحت المحكمة الحكم في عشر قضايا قبل هذه الأحكام لصالح مصر، خلال السنوات السبعة الماضية، بما جعل المستثمرون يشككون في نزاهتها، ويلجأون للخارج مباشرة لاختصام الدولة المصرية.
ولا تعتد الدول الأوروبية والمحاكم الدولية، بأي إجراءات قضائية داخلية، تجاه حكومات البلدان المختلفة التي تستسهل المساس بمصالح المستثمرين، بما يؤدي في النهاية إلى إلغاء التعاقدات، لذا يعد التحكيم الدولي، محل مسؤولية وإنصاف لدى رؤوس الأموال، في ظل احتكامه لقوانين يراها العالم في صالح الاستثمار، وبهذا المنطق يفرض قوته الكاملة على أي دولة، تبطش بحق المستثمر، ويعطيه في المقابل أحكامًا بالتعويض الضخم، وبجانب ذلك تخلف مثل هذه الأحكام إشارات سلبية لا حصر لها عن مناخ الاستثمار، بما يمنع من لديه رغبة من القدوم إلى نفس البيئة الطاردة لأي عمل.