يصنف العالم العربي رغم تخلصه من الاستعمار الأجنبي وإنشائه لأنظمة سياسية وحكومية ومؤسسات إدارية من مواطنيه وكوادره وسياسييه، ضمن دول العالم الثالث، وما زال يغوص في التراجع والانحدار ويهوي في التبعية والفوضى، فلا رؤية سياسية مستقلة، ولا جيش عربي صاف من تدخل خارجي، ولا اقتصاد عربي قائم بذاته، وتكاد تكون النتيجة صفرًا مربعًا للعرب في المجال الصناعي فلا تشمل حوانيتهم شيئًا واحدًا صنع بالكلية بأيد عربية، وليس للعرب كيان ثقافي يبرز مكانتهم ويظهر قامتهم، وحتى الألعاب والبطولات الرياضية مني العرب فيها بفشل مخجل وهزائم متكررة.
ليس السبب في التخلف العربي راجع لعدم توافر إمكانات النهضة والتطوير في البيئة العربية أو فقر ونقص في الموارد باختلاف أنواعها، فالوطن العربي مليء بالخيرات وزاخر بالموارد ومحظوظ في مناخه وجغرافيته، لكنه يعاني من اضمحلال الأفكار وأعمال العقل ومناهل البحث والعلوم وعدم الاهتمام بها والتورع عنها والانقطاع عن تداولها، وغارق في تقديس الأشخاص وتعظيمهم وتمجيدهم والتغني بمناقبهم وصفاتهم والانسياق خلفهم والخضوع لهم، فلا وجه مقارنة بين تعظيم الأشخاص في المجتمع العربي والاهتمام بأفكار التنمية والتطوير والتجارب العلمية والأبحاث التقنية والأعمال الفنية والإبداعية فيه، حيث سعت الأنظمة القمعية كما يقول الكاتب أسامة المصري “منذ فجر استقلال الدول العربية إلى ترسيخ فكرة الزعيم الأوحد في خيال الشعوب التي لا زالت ترزح تحت وطأة الجهل والتخلف وتركة استعمارية ثقيلة”.
عانت غالبية دول العالم مما عانت منه الدول العربية بل وأكثر سوءًا وأشد دمارًا، لكنها استطاعت أن تنهض من جديد وتستعيد دورتها الحضارية وتنطلق مرة أخرى في مضمار المنافسة العالمية
وصار من الشائع في المجتمع العربي أن يقدم الرأي التافه والفكرة النافقة الصادرة من زعيم وإن كان خاوي العقل ويفتقر أدنى أمارات الذكاء، ولا يؤخذ بالرأي الصائب والفكرة النابضة بالنجاح الصادرة من العلماء وأصحاب الفكر وأهل الاختصاص، وما نحن ببعيد عن الأحكام الجائرة المطالبة بإعدام العالم السعودي سليمان العودة والمصري صفوت حجازي، ومع الزمن تشعب التراجع والتخلف وتعقد وتشابك حتى أورث البلادة للعقل العربي وشوه الشخصية العربية وغير من كينونتها وماهيتها، وتأثرت به وبتبعاته العلاقات الاجتماعية والتعاطف والتكافل الاجتماعي والنخوة والفزعة العربية، وتراجعت الهمم وانحدرت الأخلاق وانحسرت إلى أدنى الدركات حتى بتنا نجد من العرب من يطالب بسحق أهل غزة وخنق قطر وتدمير اليمن ومحو العراق!
عانت غالبية دول العالم مما عانت منه الدول العربية بل وأكثر سوءًا وأشد دمارًا، لكنها استطاعت أن تنهض من جديد وتستعيد دورتها الحضارية وتنطلق مرة أخرى في مضمار المنافسة العالمية حتى تقدمت وصارت رقمًا لا يمكن الاستهانة به في الساحة الدولية، من ذلك نهوض ألمانيا من جديد بعد ما حل بها من هزيمة ودمار، والصين واليابان، والتجارب الحضارية الناجحة والموفقة لسنغافورة وماليزيا وتركيا ليست ببعيدة عن الناظر العربي، والواضح من تجارب تلك الدول أنها أعلت عالم الأفكار وصوت العقل وفتحت المجال على مصراعيه للفكر والبحث والتمحيص والتجريب والمحاولة، وأخلصت لخطط التنمية وانتمت لمناهج الإصلاح والتطوير.
يقول مالك بن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي إن ألمانيا “بدأت في التحرك عام 1948 نهضتها بـ45 ماركًا وهذا المبلغ تافه، أما الاستثمار الحقيقي فقد كان في رأسمال الأفكار التي هي في رأس كل ألماني وفي تصميم الشعب الألماني وفي الأرض الألمانية التي كانت فقيرة ومحتلة من الآخرين لكنها كانت السند اللازم لكل نشاط”.
وفي التجربة الصينية يقول ابن نبي “وفي الفترة نفسها عام 1984 أقلعت الصين الشعبية في شروط أشد قساوة وبدمار أكبر خلفته الحرب، وبغض النظر عن خيار الصين الإيديولوجي فقد أنشأت رأسمالها من الأفكار الأولية، وتجربتها في بيئة اجتماعية اقتصادية كبيرة الشبه بغالبية البلاد الإسلامية تلقي كثيرًا من الضوء على الوسائل البدائية للإقلاع”.
حتى تغير الحكومات في الدول العربية وتدوير المناصب والأشخاص لا يحقق الشيء الكثير ولا يغير في الواقع المتردي تغييرًا جوهريًا، لأن المشكلة أن أروقتها السياسية قائمة أساسًا على الوفاء للقائد الخالد الفاهم العارف المؤيد برعاية الله وتأييده
ثورات الربيع العربي وضعتنا وجهًا لوجه أمام فقرنا وعازتنا في ميدان الأفكار، فالجماهير العربية التي خرجت من الجوع والقهر والعبودية كانت تحمل في داخلها رغبة حقيقية وصادقة في النهضة والتطوير والخروج من مستنقع التخلف والانطلاق للحاق بركب الحضارة العالمية، لكن رغبتها تلك لم تكن مسلحة بالأفكار والخطط اللازمة لتدشين مرحلة النهضة.
وبعد أن استطاعت الجماهير الغاضبة إسقاط الأنظمة الديكتاتورية وجدت نفسها أمام معضلة ماذا بعد؟ ولم يكن لديهم سبيل لتحقيق ما انطلقت من أجله الثورة، وعجزت عن بناء أنظمة ديمقراطية جديدة تقود شعوبها للنهضة والتقدم، فوقع كثير من الثوار مرة أخرى في فخ الترويج لأشخاص جلهم من رموز الأنظمة السابقة التي ثاروا عليها وتوسلوا إليهم بالهبوط لإنقاذ الشعب والوطن والثورة! الكاتب إبراهيم البليهي يقول “أثبتت التجارب الإنسانية الظافرة بأن الانعتاق من تقديس الأشخاص يأتي في مقدمة الشروط الأساسية للنمو والتقدم في المجالات كافة”.
حتى تغير الحكومات في الدول العربية وتدوير المناصب والأشخاص لا يحقق الشيء الكثير ولا يغير في الواقع المتردي تغيرًا جوهريًا، لأن المشكلة أن أروقتها السياسية قائمة أساسًا على الوفاء للقائد الخالد الفاهم العارف المؤيد برعاية الله وتأييده، فيما استنتجت الدكتورة أسماء بن قادة “الانفتاح على عالم الأفكار وحده كفيل بفتح آفاق جديدة لهذه الأمة التي استهدفت رسالتها ابتداءً إخراج العباد من عبادة العباد، وحثتهم دومًا على التدبر والتفكر بعيدًا عن أي وصاية أو تمركز حول فكرة وثن”.
العالم العربي اليوم ليس بحاجة لشيء أشد من حاجته لصرخة مجلجلة بالعزم ومسلحة بالعلم، تقدح شعلة الأفكار في عقول شبابه وتنفض عن أدمغتهم العفن المتراكم والمتوارث جيلًا بعد جيل
صرخة أبو بكر الصديق عندما هاج الصحابة وراجوا من أثر صدمة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بمثابة الشرارة التي أيقظت المجتمع المفجوع بموت النبي صلى الله عليه وسلم ونبهته لجوهر الفكرة التي أرادها الإسلام، وأنها ليست في شخص النبي صلى الله عليه وسلم بل فيما تركه من إرث زاخر بالقوة ونابض بالحياة والحيوية والنشاط والتفاعل ويملك مقومات التقدم وإمكانيات التطور، “فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، وقد حرض أبو بكر الناس بثباته وجَلده وحرصه على قتال المنشقين فيما بعد على التمسك بهذا الإرث والاعتصام به ومناصرته والعمل من أجله، حتى أثمر حضارة عربية إسلامية أنارت الأرض بمبادئها وعلومها.
العالم العربي اليوم ليس بحاجة لشيء أشد من حاجته لصرخة مجلجلة بالعزم ومسلحة بالعلم، تقدح شعلة الأفكار في عقول شبابه وتنفض عن أدمغتهم العفن المتراكم والمتوارث جيلًا بعد جيل، عسى أن نجد طريقنا للخروج من نفق التخلف المظلم وننعم بنهار جديد تشرق علينا فيه شمس الحضارة والتطور والتقدم.