قصف “حزب الله” فجر الأحد 22 سبتمبر/أيلول مناطق في الجليل الأسفل وشرق حيفا برشقات صاروخية ثقيلة أدخلت إلى معادلة الاشتباك للمرة الأولى، إذ أعلن الحزب استهداف قاعدة رمات دافيد الجوية الإسرائيلية، ومجمعات الصناعات العسكرية التابعة لشركة رفائيل، ضمن أول عملية توسيع نوعي من حيث الأهداف والجغرافيا منذ بدأ الحزب اللبناني ما يصفها بالحرب الإسنادية للمقاومة في قطاع غزة في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تأتي عملية القصف وتوسيع مساحة الاستهداف وزيادة حجم الصواريخ بعد أيام من تنفيذ الاحتلال سلسلة ضربات كبيرة استهدفت “حزب الله” اللبناني، بدأت مع تفجيرات “البيجر” والأجهزة اللاسلكية في أكثر من منطقة، وصولًا إلى اغتيال قائد العمليات الخاصة في الحزب، إبراهيم عقيل، وقادة آخرين، في غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت.
عمد الاحتلال خلال الأشهر الأخيرة إلى إحداث شرخ كبير في معادلات الاشتباك الذي حاول الحزب اللبناني تثبيتها منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول، تكلل بدرجة كبيرة بعد تحديث المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والعسكرية في حكومة الاحتلال أهداف الحرب في 16 سبتمبر/أيلول الجاري، بإضافة هدف “إعادة سكان الشمال إلى مناطقهم بأمان”، سبقه إعلان وزير الحرب في حكومة الاحتلال، يوآف غالانت، في 10 سبتمبر/أيلول من الشهر ذاته نقل مركز الجهد العسكري إلى الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، مُضيفًا أن أمام الحكومة الإسرائيلية مهمة “تغيير الوضع الأمني وإعادة السكان إلى منازلهم”، على حد تعبيره.
لا يرغب “حزب الله” اللبناني في التدحرج إلى حرب واسعة، تجنبًا للثمن المتوقع لمثل هذه الحرب على البنية التحتية في لبنان وعلى مقدرات الحزب ومؤسساته وبنيته التحتية، فيما تزيد الضربات الأمنية الأخيرة التي تلقاها الحزب من تعقيد الحسابات المُعقَّدة أصلًا، وهو ما دفعه إلى حساب خطواته في الرد على العدوان الإسرائيلي بميزان الذهب الدقيق، فما بين الحاجة إلى إعادة الاعتبار لمعادلات الردع وقواعد الاشتباك، والحرص على تجنّب التدحرج إلى حرب واسعة، يكمن جوهر الحسابات الدقيقة لتصميم رد يلبي الغرض الأول ولا يوصل إلى المحذور الثاني.
قواعد الاشتباك بين “حزب الله” و”إسرائيل”
منذ تأسيس “حزب الله” في لبنان، والتطور النوعي لدوره في معادلات الاشتباك مع الاحتلال، اتخذ الحزب مسارًا يهدف إلى خلق إطار واضح لقواعد الاشتباك، يفضي إلى تركيز الضربات ومعادلات الاشتباك لتكون وفق قاعدة “عسكر مقابل عسكر”، ما يسهم في تجنيب الحاضنة الشعبية والبنى التحتية نيران المواجهة والاشتباك، وهي مراحل استعرضها الأمين العام ل”حزب الله”، حسن نصر الله، في خطابه الأخير محاولًا استذكار أسباب امتناع الحزب عن توسيع رده على الاعتداءات الإسرائيلية باستهداف عمق الأراضي المحتلة.
مرت قواعد الاشتباك بسلسلة من التفاهمات غير الرسمية والاتفاقيات الميدانية التي تطورت بمرور الزمن، كان أبرز محطاتها التالي:
المنطقة العازلة على الحدود الجنوبية 1985
إثر الانسحاب الإسرائيلي من معظم الأراضي اللبنانية في العام 1985 وبقائها في الحزام الأمني الذي حددته “إسرائيل” لحماية مستوطناتها في شمالي الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ تمركزت فيه بمشاركة من جيش موالٍ أنشأته “إسرائيل” في حينه لينفّذ مهام عسكرية، سُمي بجيش لبنان الجنوبي.
على الأرض، ركز “حزب الله” ضرباته على استهداف القوات الإسرائيلية داخل الشريط، بينما كانت “إسرائيل” ترد على تلك العمليات في أغلب الأحيان بقصف جوي ومدفعي، ما أظهر أول نوع من التوازن الميداني تدريجيًا.
تفاهم أبريل/نيسان 1996
في 10 أبريل/نيسان 1996 شنت “إسرائيل” عملية عسكرية واسعة ضد “حزب الله” استمرت لمدة 16 يومًا حملت اسم “عملية عناقيد الغضب”، لتنتهي بالتوصل حينها إلى اتفاق “تفاهم نيسان” بوساطة أمريكية وفرنسية، الذي أعلن بتاريخ 26 من الشهر ذاته، ويقضي بالامتناع عن استهداف المدنيين من الجانبين.
كان الهدف من هذا التفاهم تقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين خلال المواجهات بين الطرفين، مع بقاء ساحة المعركة في إطار الشريط الحدودي. بموجب تفاهم نيسان، أصبح من غير المقبول استهداف “إسرائيل” للقرى أو المدن اللبنانية مباشرة، في مقابل امتناع الحزب عن مهاجمة المستوطنات الشمالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
شكَّل تفاهم نيسان النموذج الأول الذي منح “حزب الله” المساحة الكافية لتركيز ضرباته على الأهداف العسكرية دون المخاطرة بأن تلجأ “إسرائيل” إلى سياستها المعتادة في توجيه ضغطها على المجتمع والسكان.
الانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان 2000
في مايو/أيار 2000، انسحبت “إسرائيل” انسحابًا مفاجئًا من جنوبي لبنان بعد 18 عامًا من الاحتلال. جرى هذا الانسحاب دون تفاهمات أو اتفاقيات رسمية مع “حزب الله” أو الحكومة اللبنانية.
مع الانسحاب، تحولت الحدود إلى نوع من الجمود المسلح. عَدَّ “حزب الله” الانسحاب انتصارًا واستمر في العمل بصفته قوة دفاع عن لبنان، لكنه حافظ على توازن رادع مع “إسرائيل”، إذ كانت الاشتباكات محدودة وعادةً ما كانت تنحصر في منطقة مزارع شبعا المتنازع عليها.
حرب لبنان الثانية يوليو/تموز 2006
في يوليو/تموز 2006، اندلعت حرب واسعة النطاق بين “إسرائيل” و”حزب الله” اللبناني بعد أن أسر الحزب جنودًا إسرائيليين عبر الحدود. استمرت هذه الحرب 34 يومًا وانتهت بقرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي دعا إلى وقف الأعمال العدائية بين الطرفين، ونص على تعزيز وجود القوات الدولية “يونيفيل” في جنوبي لبنان لمنع حدوث مواجهات مباشرة.
على إثر قرار 1701، تبلورت قواعد اشتباك جديدة غير رسمية تقوم على الردع المتبادل، إذ تجنب كل من “إسرائيل” و”حزب الله” الصدام المباشر واسع النطاق، في حين جرت مواجهات محدودة في منطقة الحدود.
ما بعد 2006.. الردع المتبادل
منذ نهاية حرب 2006، كُرّست حالة الردع المتبادل بين “إسرائيل” و”حزب الله”. ركز الحزب على بناء ترسانة صاروخية كبيرة، فيما نفَّذت “إسرائيل” عمليات قصف متفرقة لمنع نقل الأسلحة إلى “حزب الله” من سوريا وإيران.
كان ثمة نوع من التفاهم الضمني الذي يُبقي المواجهات بين الطرفين محدودة وغير شاملة. وفي هذا السياق، استمرت الاشتباكات العرضية، خاصةً على الحدود وفي منطقة مزارع شبعا.
تبنى “حزب الله” سياسة “كل ضربة ترد بضربة” على الحدود، بمعنى أن أي اعتداء إسرائيلي على عناصره أو مواقعه في لبنان كان يقابله رد عسكري مباشر، لكن دون توسيع نطاق النزاع.
المعركة بين الحروب وقواعد المواجهة
على مدار سنوات الهدوء، طورت “إسرائيل” استراتيجيات تهدف إلى مواجهة محاولة “حزب الله” تعزيز ترسانته التسليحية ومعادلات بناء القوة ومراكمتها. وقد عكفت أجهزة الأمن الإسرائيلية والاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال على تطوير مفاهيم تفضي إلى إتاحة المساحة لتوجيه الضربات دون المخاطرة بالانجرار لموجات مواجهة مع الحزب اللبناني.
في العام 2013، ومع تشخيص أجهزة أمن الاحتلال لمدى تعاظم قوة “حزب الله”، إضافةً إلى التطورات المتلاحقة في الساحة السورية، أطلق جيش الاحتلال حملةً لمواجهة هذا التعاظم حملت اسم “يركبون الأمواج”، مرت بمراحل متدحرجة في إطار استثمار تصاعد الأزمة السورية في إيجاد فرصة ملموسة لإطلاق عمليات للسيطرة بالنيران على طرق ومحاور نقل الأسلحة، خصوصًا تلك المُصنَّفة بأنها “مخلة بالتوازن”، خاصةً أنظمة الدفاع الجوي والصواريخ الدقيقة. وقد أخذت هذه الأنشطة الطابع الهجومي السري، وترسخت تحت مفهوم “المعركة بين الحروب”، وعَدَّت الساحة السورية الساحة الرئيسية للعمليات من هذا النمط إلى جانب ساحات أخرى.
في مقابل هذه السياسة، طور “حزب الله” معادلة رادعة تهدف إلى مواجهة الاستهداف المتكرر لكوادره خارج الأراضي اللبنانية، خاصةً في سوريا من جانب “إسرائيل”، وقد تكلل هذا بإعلان “حزب الله” أنه سيرد على عمليات اغتيال أي من كوادره في أي مكان في العالم، برد عسكري على “إسرائيل” انطلاقًا من الأراضي اللبنانية، وهو ما أسهم تدريجيًّا في خفض استهدافات الاحتلال لكوادر الحزب بعد عدة عمليات اغتيال، رد عليها “حزب الله” ونتج عنها اشتباكات محدودة على الحدود اللبنانية.
الوضع الحالي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023
منذ إطلاق “حزب الله” معادلة الاشتباك الإسنادي للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، حاول الحزب أن يثبت معادلة حصر الاشتباك بمعادلة “العسكر مقابل العسكر”، وركز استهدافاته على المواقع العسكرية الإسرائيلية الحدودية في شمالي فلسطين المحتلة، وحافظ على استيعابه للضربات الإسرائيلية التي تستهدف كوادره الميدانية في مواقع الاشتباك.
في المقابل، رد “حزب الله” على كل استهداف إسرائيلي للمدنيين، برشقات صاروخية استهدفت مستوطنة “كريات شمونة” على نحو التحديد، ثم توسع ليشمل مستوطناتٍ أخرى في الجليل الأعلى.
حاول الحزب حصر الاشتباك جغرافيًّا بالمناطق الحدودية في جنوبي لبنان والمناطق الحدودية في شمالي فلسطين المحتلة، إلا أن هذا قد اختُرق بشكل فاقع إثر عملية اغتيال القيادي الفلسطيني ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، في يناير/كانون الثاني الماضي، خلال وجوده في الضاحية الجنوبية بالعاصمة اللبنانية بيروت، وهو ما ضرب قاعدتين أساسيتين ضمن قواعد الاشتباك: استهداف العاصمة اللبنانية، واغتيال شخصيات على الأراضي اللبنانية.
ردَّ “حزب الله” على اغتيال العاروري باستهداف قاعدة “ميرون” العسكرية، التي تشكل جزءًا مهمًّا من منظومة إدارة العمليات الاستخباراتية الإسرائيلية في شمالي فلسطين المحتلة، وبالتالي حصر رده في استهداف منشأة عسكرية إسرائيلية ضمن الإطار الجغرافي في الشمال، وهو ما تكرر مع عمليات اغتيال عدد من القادة الميدانيين للحزب.
اغتيال شكر والمنحى التصاعدي الإسرائيلي
شكلت حادثة اغتيال القيادي في “حزب الله”، فؤاد شكر، المسؤول الأول عن البرامج الاستراتيجية للحزب والمساعد المباشر لأمينه العام، حسن نصر الله، الخطوة الأكبر في نهج التصعيد الإسرائيلي الذي يتجاوز كل قواعد الاشتباك، إذ مثلت عملية الاغتيال التي نُفّذت بالضاحية الجنوبية في بيروت، الاختبار الأبرز لشكل تعامل “حزب الله” مع الاختراق الإسرائيلي النوعي لقواعد الاشتباك التي حاول تثبيتها على مدار شهور حرب الإبادة على قطاع غزة.
وضع اغتيال شكر الحزب اللبناني أمام مأزق الحسابات المتداخلة ما بين الحاجة إلى تثبيت الردع وإعادة تصويب قواعد الاشتباك، والخشية من تدحرج الأوضاع في اتجاه حرب واسعة يحاول الحزب جاهدًا تجنبها، وسط إشارات إسرائيلية متعددة عن حجم الإطباق الاستخباراتي الإسرائيلي على الحزب ومقدراته.
بعد أسابيع من الانتظار، وإصرار الحزب على رد “واضح وصريح ومؤثر”، تعرضت عملية الرد في 25 أغسطس/آب الماضي إلى ملابسات مُركَّبة، بدأت بشن الاحتلال هجومًا استباقيًّا يهدف إلى تعطيل رد الحزب الذي انطلق بعد مدة وجيزة من هذا الهجوم، وأعلن الحزب أن هدفه الرئيسي كان قاعدة “جليلوت” الاستخباراتية قرب تل أبيب، إضافةً إلى رشقات صاروخية متعددة استهدفت مناطق شمالي فلسطين المحتلة، وهو رد ارتكز في جوهره على محاولة الحزب تثبيت قاعدة أن تل أبيب لن تكون بمنأى عن الاستهداف في حال إصرار الاحتلال على استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت.
لم يكن من الممكن وصف رد “حزب الله” بوصفه ردًّا رادعًا يعظم ويعقد في حسابات الاحتلال، وسط إشارات واضحة عن الإصرار الإسرائيلي بالمضي ضمن منحى تصاعدي لرفع كلفة استمرار “حزب الله” في اشتباكه الإسنادي لقطاع غزة، وهو ما عمَّده بالحشد المستمر لقواته على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة.
هجوم “البيجر” واغتيال قادة “الرضوان”
كان من الواضح من التحركات الإسرائيلية وقرار الكابينت بتحديث أهداف الحرب، أن “إسرائيل” قد تبنَّت توجهًا صريحًا وواضحًا بممارسة الضغط الأقصى على الساحة اللبنانية في إطار مواجهة تمسك “حزب الله” باستراتيجية الاشتباك الإسنادي وما يترتب عليه من إشغال لجيش الاحتلال في شمالي فلسطين المحتلة، والضغط على الجبهة الداخلية الناتج عن استمرار نزوح أكثر من 60 ألف مستوطن من قاطني مستوطنات الشمال.
على الرغم من وضوح الإشارات، جاء الهجوم الإسرائيلي مغايرًا لكل التقديرات، وصادمًا جدًا من حيث حجمه ونوعيته، بالهجوم الأمني الذي يمكن أن يُوصف بأنه من أعقد وأكبر العمليات الاستخباراتية في التاريخ، بتفجير نحو 5000 جهاز “بيجر” المُعد للاستدعاءات وتلقي الرسائل القصيرة، الذي اتضح أن “حزب الله” يستخدمه بوصفه جزءًا من تدابير الطوارئ في التواصل مع كوادره.
عُدَّ الهجوم الأمني الكبير بأنه تجاوز غير مسبوق لكل قواعد الاشتباك بين “إسرائيل” و”حزب الله”، كما أنه كشف عن عوار أمني كبير يعاني منه الحزب، وهي معضلة كفيلة بأن تُربك العديد من الحسابات العملياتية وتضع مُقدّري القرار أمام العديد من المعطيات المعقدة التي تُصعب تحديد الخطوات المقبلة للحزب.
في ذروة هذا التعقيد، وبعد يوم من الهجوم الثاني لتفجير الأجهزة المفخَّخة الذي استهدف أجهزة الاتصال اللاسلكي ذات الموجات القصيرة، نفذ طيران الاحتلال الحربي هجومًا كبيرًا استهدف مبنى في الضاحية الجنوبية ببيروت، أسفر عن اغتيال القيادي البارز في “حزب الله”، إبراهيم عقيل، قائد العلميات الخاصة في الحزب، وأحد أبرز أعضاء الهرم القيادي العسكري وعضو المجلس الجهادي، ومعه مجموعة كبيرة من قادة وحدة الرضوان النخبوية في “حزب الله”، المُكلفة بأعقد العمليات العسكرية.
وضعت الهجمات الإسرائيلية الأخيرة “حزب الله” أمام استحقاقات كبرى، إلا أنها استحقاقات تستوجب الرد، لكنها تحمل معها محاذير عدة مع التزايد الواضح في مؤشرات الإخلال الأمني الذي نتج عنه وصول “المعلومة الذهبية” وفق الادعاء الإسرائيلي، بشأن مكان اجتماع قادة وحدة الرضوان ومسؤول العمليات الخاصة بالحزب ما أدى إلى استهدافهم.
قصف حيفا ومحاولة إعادة ضبط المعادلات
أطلق “حزب الله” رشقات صواريخ ثقيلة كشف أنها من طراز “فادي 1” و”فادي 2″، تستخدم لأول مرة على مناطق واسعة في الجليل الأسفل وشرق حيفا، معلنًا استهداف قاعدة رمات دافيد الجوية الإسرائيلية، ومجمعات الصناعات العسكرية التابعة لشركة رفائيل. وانطلقت صافرات الإنذار في مناطق حيفا وحولها وقاعدة رامات دافيد الجوية والناصرة والعفولة والجليل الأسفل ووادي يزرعيل.
أكد جيش الاحتلال الاسرائيلي أن “حزب الله” أطلق أعمق وابل من الصواريخ على “إسرائيل” منذ بداية الحرب الحالية، إذ أطلق 4 دفعات بأكثر من 150 صاروخًا وطائرة دون طيار على وادي يزرعيل، وأضاف الجيش في بيان أنه “في خلال الليل وساعات الصباح، أطلق نحو 150 صاروخًا وصاروخ كروز وطائرة مسيَّرة في اتجاه الأراضي الإسرائيلية معظمها موجه نحو شمالي إسرائيل”.
حرص الحزب في رده على توجيه النيران توجيهًا محددًا نحو منشآت عسكرية، وهي منشآت سبق وأن استعرض نجاحه في استطلاعها بالطائرات المُسيَّرة، وعرض جزءًا من عمليات الاستطلاع من خلال مقاطع مصورة حملت اسم “الهدهد”.
حمل استهداف “حزب الله” أهدافًا عسكرية رسالةً متعددة الأوجه يمكن قراءتها على الشكل التالي:
- تأكيد سلامة القدرات التسليحية النوعية: يهدف الحزب من خلال استعمال صواريخ ثقيلة يُعلن عنها لأول مرة إلى تأكيد أن قدراته العملياتية والتسليحية لا تزال سليمة، من حيث التسليح، ومن حيث قدرات القيادة والتحكم عبر عمليات إطلاق متزامنة لرشقات تستهدف هدفين نوعيين.
- الاستعداد لمقابلة التصعيد بالتصعيد: هدف الحزب من خلال تصعيد الاشتباك جغرافيًا ونوعيًا إلى إرسال إشارات بشأن جهوزيته للانتقال إلى طور جديد من معادلات الاشتباك، تتوسع من خلالها مساحة الجمهور الإسرائيلي المتأثر بإدخال حيفا ومحيطها ضمن دائرة الاستهداف، إضافةً إلى توسيع معدل الضرر الواقع في المنشآت المستهدفة التي تُشكل جزءًا أساسيًا من منشآت القيادة والسيطرة والتسليح لجيش الاحتلال في شمالي فلسطين المحتلة.
- التمسك بمعادلة ضرب الأهداف العسكرية: يؤكد الحزب بحصر استهدافه بالمنشآت العسكرية، أنه يتمسك بقواعد الاشتباك المرتبطة بحصر الاستهداف في الجانبين بالأهداف العسكرية، في رسالة للأطراف ذات العلاقة للضغط على الاحتلال للالتزام بهذا المُحدِّد.
- معادلة حيفا مقابل الضاحية: يدشن “حزب الله” بهذا القصف معادلة جديدة جوهرها أن استهداف الضاحية سيُقابَل باستهداف حيفا، وبهذا فإن الحزب يُرحّل مبدأ استهداف تل أبيب لمراحل لاحقة، ليترك هامشًا للمزيد من المناورة قبل الوصول إلى ذروة التصعيد الذي سيُقابل به قصف البنية التحتية لبيروت، للرد باستهداف منشآت حيوية في تل أبيب.
يحاول الحزب عبر رده الأخير إعادة ضبط المعادلات، وترميم الردع الذي تراجع تراجعًا كبيرًا في الأشهر الأخيرة، مع فتح المجال أمام محاولة حصر مساحات الاشتباك في الأهداف العسكرية والحفاظ على قواعد الاشتباك السابقة مع ضمان استمرار الجبهة الإسنادية لقطاع غزة.
كان الرد الإسرائيلي على هذه المحاولة سريعًا، إذ حملت تصريحات رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، تجاهلًا واضحًا لكون أهداف “حزب الله” أهدافًا عسكرية، بالحديث أنه “لا يمكن لأي دولة أن تتسامح مع إطلاق النار على سكانها أو إطلاق النار على مدنها”، في محاولة وضع سياق رد “حزب الله” بأنه استهداف للمدن والسكان، وهو المضمون ذاته الذي نشره الناطق باسم جيش الاحتلال عبر منصاته، باستعراض الدمار في بعض المنشآت والإشارة إلى أن الحزب قصف أهدافًا مدنية، لا قواعد عسكرية.
ويشير تعهد نتنياهو بمزيد من الهجمات “في حال لم يفهم “حزب الله” الرسالة”، على حد تعبيره، إلى أن التوجه التصعيدي في “إسرائيل” لا يزال التوجه السائد، وأن معادلات الاشتباك السابقة قد أصبحت وراء ظهر الاحتلال الذي يعمد إلى تصعيد الضغط العسكري، مراهنًا على تقدير بأن “حزب الله” سيتجنب تجاوز مسببات التدحرج إلى حرب واسعة يدفع عبرها لبنان أثمانًا كبيرة، ما يعني أن الحزب سيبقى منضبطًا في ردوده في الوقت الذي يتلقى ضربات مؤلمة ومؤثرة.
وأما مسارات توسع الاشتباك فإنها السائدة، ومحاولات الحزب لحصرها وضبطها ضمن معادلات قواعد الاشتباك السابقة ستواجه بالتعنت الإسرائيلي ورغبة نتنياهو الجامحة في توسيع الاشتباك وممارسة أقصى درجات الضغط العسكري على “حزب الله” ومحاولة فرض وقائع جديدة في المنطقة، وإصرار الاحتلال على إنهاء أي شكل من أشكال ترابط الجبهات ومعادلات الإسناد، ما سيضع الحزب اللبناني عاجلًا أم آجلًا أمام حسابات صفرية سيجد نفسه في خلالها مضطرًا إلى اللجوء لأوراق أكثر نوعية وتأثيرًا في مواجهة الاندفاعة الإسرائيلية.