لو تأمّلنا في فهم الإمام أبي حامد الغزالي، أحد أشهر الفلاسفة الصوفيين، من وجهة نظر علم النفس الحديث، لا سيّما مدرسة التحليل النفسيّ، لوجدنا أنّه استطاع سبر أغوار النفس وأُثر اللاوعي أو اللاشعور عليها من خلال التركيز على ثلاثة محاور أساسية؛ هي طبيعة النفس وأمراضها وطرق علاجها. ولذلك، لم يكنْ غريبًا على المترجمين العرب أنْ لجؤوا إلى المصطلحات الصوفية حين أرادوا ترجمة كتب سيغموند فرويد في منتصف القرن الماضي.
وقد تنوعت مصادر العلماء العرب والإسلاميين في فهمهم للنفس الإنسانية وأحوالها ومشكلاتها واضطراباتها، لعلّ أهمها هي ما كتبه شيوخ الصوفية وكبار فلاسفتها مثل أبي حامد الغزالي وابن عربيّ والترمذي وابن سينا وغيرهم الكثير.
النفس عند فرويد وأبي حامد الغزالي
قام فرويد بتقسيم “النفس” إلى أقسامها الثلاثة المشهورة؛ الأنا والهو والأنا العليا، على أنّ الهو هو الجزء المسؤول عن الغرائز المكبوتة التي تمنعها الأنا من الظهور، ويعمل الهو وفق مبدأ اللذة وتجنب الألم ولا يراعي المنطق والأخلاق والواقع. أما الأنا العليا فهي الجزء من الشخصية الذي يلتزم بالخير والأخلاق المكتسبة من الأسرة والمجتمع ويحاول الالتزام بها. والأنا تمثّل الشخصية الأكثر اعتدالًا ما بين الهو والأنا العليا وتسعى للتكيّف والتوافق، أي أنها حالة وسطية بين الخير والشر، بين الأخلاق وانعدامها، بين الملائكية والحيوانية، وهكذا.
عرّف الغزالي النفس على أنها المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوةٍ في الإنسان، أو أنها اللطيفة التي هي حقيقة الإنسان وذاته
أمّا الغزالي فقد عرّف النفس على أنها المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوةٍ في الإنسان، أو أنها اللطيفة التي هي حقيقة الإنسان وذاته. وقد قام بتقسيمها إلى أيضًا إلى ثلاثة أقسام أساسية، النفس الشهوانية التي تسيطر عليها الشهوات والغرائز والأهواء، والنفس اللوامة، أي الجزء من النفس الذي يكون في صراعٍ دائمٍ بين الأضداد كالشهوة والعقل، وهناك النفس المطمئنة أو العاقلة وهي التي تعارض الشهوات والغرائز وترضى بحكم العقل.
ولذلك يقول الغزالي: “لقد جمعت في باطنك صفات منها صفات البهائم ومنها صفات السباع ومنها صفات الملائكة؛ فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب عنك، وعارية عندك. فالواجب عليك أن تعرف هذا، وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة. فإنّ سعادة البهائم في الأكل والشرب والنوم والنكاح، فإن كنت منهم فاجتهد في أعمال الجوف والفرج، وسعادة السباع في الضرب والفتك، وسعادة الشياطين في المكر والشر والحيل، فإن كنت منهم فاشتغل بأشغالهم، وسعادة الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية وليس للغضب والشهوة إليهم طريق، فإن كنت من جوهر الملائكة فاجتهد في معرفة أصلك حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب.”
وبالتالي، نستطيع القول أنّ كلًا من الغزالي وفرويد توصّلا إلى حقيقةٍ مفادها أنّ النفس تنقسم في ذاتها إلى عدة أقسام أو مكوّنات، منها ما يتبع الغرائز والشهوات ولا يتبع أي منطقٍ أو أخلاق، ومنها ما يلتزم بالخير والأخلاق ويسعى إليهما، ومنها ما يوازن بين تلك الأخلاق دون إغفال النزوات والشهوات والرغبات، وهذا هو بالأساس ما بنيت عليه فلسفة الغزالي ونظرية فرويد للنفس لاحقًا.
يؤمن الغزالي بأثر التربية العميق في توجيه الغرائز وتهذيبها، إلا أنه في الوقت نفسه لا ينكر دور الطبيعة والوراثة في عمليات التعلّم والتربية والتطبّع
إذ يرى الغزالي أنّ الاعتدال في الأخلاق والصفات هو دليلٌ على صحّة النفس، أمّا الانحراف عنهما فهو علامة مرض النفس وسقمها، تمامًا كما يرى فرويد أنّ المرض النفسيّ هو نتيجة للصراع العقيم ما بين مكوّنات النفس الثلاثة، أمّا الصحة النفسية فهي نتاج التوازن والاعتدال فيما بينها.
كما يعتقد الغزالي أنّ النفس خالية من أيّ نقش؛ فإنْ تعوّد صاحبها على الخير نشأ عليه، وإنْ تعوّد على الشرّ سار عليه. ومن جهةٍ أخرى، فيؤمن بأثر التربية العميق في توجيه الغرائز وتهذيبها، إلا أنه في الوقت نفسه لا ينكر دور الطبيعة والوراثة في عمليات التعلّم والتربية والتطبّع، ليلتقي مع الكثيرين من علماء النفس الحديثين فيما يتعلّق بالنقاش الكلاسيكي القديم حول دور الطبيعة والوراثة في الإنسان، والمعروف بثنائية “الطبع-التطبّع” أو “Nature vs Narture“.
كيف يتشابه كلٌّ من الشيخ الصوفيّ والمحلّل النفسيّ؟
في الصوفية، تُعتبر العلاقة الثنائية بين التلميذ والمعلّم أو الشيخ عاملًا مهمًّا في سيرورة عملية التعلّم والتهذيب. إذ يبدأ التلميذ بالبحث عن شيخٍ يرتاده بعد أن يشعر بنقصه الخاص وتتولّد لديه الرغبة بالوصول إلى الكمال. وعندما يجده، يسلّم التلميذ نفسه لإرادة شيخه ليمرّ من خلاله عبر مراحل الوصول إلى “الإنسان الكامل”. وتُعرف هذه العلاقة باسم “الإرادة” ويهدف المريد من خلالها تزكية نفسه من أجل بلوغ أهداف هامة من خلال سيره وسلوكه الذي يتمّ توجيهه من قبل الشيخ والمعلّم.
الشيخ الصوفي يشبه إلى حد كبير المحلل النفسي، حيث يعمل كلاهما على مراقبة وتحليل الأفكار والرغبات اللاوعية لكلٍ من التلميذ والمريض من أجل تسهيل عملية التحوّل النفسانيّ
أما في التحليل النفسيّ، فتُعتبر العلاقة بين المريض والمحلّل النفسيّ أمرًا عنصر حاسمٌ في العملية العلاجية التي أطلق عليها فرويد اسم “التحويل”، وهي ظاهرة نفسية يقوم فيها اللاوعي بإعادة توجيه المشاعر من شخص إلى آخر، أي من المريض إلى المحلّل النفسي خلال جلسات العلاج، حيث يصبح الأوّل مطيعًا للثاني وواثقًا فيه. إذ يُنظر إلى المحلل على أنه شخص يمكن الاعتماد عليه وعادةً ما تحدث هذه العلاقة بشكلٍ عفوي في مرحلة ما من مسار العلاج ولا غنى عنها لأي تقدّم علاجي حقيقي وناجح.
وبالتالي، يمكننا القول أنّ الشيخ الصوفي يشبه إلى حد كبير المحلل النفسي، حيث يعمل كلاهما على مراقبة وتحليل الأفكار والرغبات اللاوعية لكلٍ من التلميذ والمريض من أجل تسهيل عملية التحوّل النفسانيّ، إلا أنّ عملية الإرادة تتطلّب من التلميذ أن يصبح مستمعًا مؤهلًا للتعلّم من شيخه وأستاذه، أما عملية التحويل النفسيّ فتتطلب من الطبيب أو المحلّل أن يكون هو المناسب للاستماع الجيد.
وهكذا، نستطيع القول أنّ كلًا من الصوفية وعلم النفس تسعيان بشكلٍ أو بآخر إلى الغوص في خبايا النفس البشرية، وعلى اختلاف أهداف ذلك والمساعي المرتبطة به، إلا أنّ ثمة تشابه كبير في مواضيع عديدة مثل اللاوعي واللاشعور والأحلام والأمراض النفسية مثل القلق والاكتئاب وطرق علاجها، وتحقيق الذات والوصول إلى الكمال وغيرها الكثير من المواضيع العديدة.