دائمًا يتطلعون إلى الأفضل لأبنائهم، وينطلقون في رسم خارطة مستقبلهم قبل حتى أن يكتمل نموهم داخل الأحشاء، في رحلة هدفها الأساسي إنشاء خلفاء جدد أفضل مما كان عليه أولياء الأمور، نعم أنها الأحلام الوردية لدى الآباء والأمهات التي تتشكل معها فجوة صغيرة تنمو ببطء دون أن يشعروا!
في الواقع؛ قواعد التربية الصحيحة للأبناء أصبحت سهلة الاكتساب، حتى أن كُتب التربية تباع على أرصفة الطُرقات كغيرها من الكتب، بل يمكنك اكتساب تلك المهارات من خلال الإنترنت أو من خلال برامج التربية التي باتت شيئًا أساسيًا في التلفاز، لكن لماذا تلك الفجوة بيننا وبين أبائنا حتى بعد هذا القدر من الرعاية والاهتمام بالتنشئة السليمة، وهل كل ما ذكر كافٍ لردم تلك الفجوة؟
لطالما شغلتني تلك الفجوة الكبيرة المتمركزة بين علاقتي بوالداي، أليس هؤلاء من أعيش معهم؟ نأكل ونشرب معًا، تجمعنا نفس الجدران، لكن لماذا لا نتفق في شيء! حتى أنني أرى تلك الفجوة أكثر وضوحًا عندما أنظر لعلاقة أخي ذو ال13 عامًا مع والدانا!
بتحليل الطرق التي يعتمدها العديد من الآباء والأمهات في التنشئة نجدهم يحاولون جاهدين توفير بيئة حياتية لأبنائهم أفضل مما كانوا عليه في الماضي، أعني بالتحديد “المحيط الاجتماعي”، فيختارون مدارس أفضل ويحاولون دفع الأبناء إلى ممارسة نشاط أو أكثر.
محيط اجتماعي وبيئة تعليمية أفضل، ما يعني ثقافة أعلى ووجهات نظر أكثر اختلافًا تُزيد من الفجوة بين الآباء والأبناء، لكن ماذا لو قرر الآباء والأمهات أن يتذوّقوا من نفس الكأس الذي يقدموه لأبنائهم، ألن تتقارب الرؤى؟
وعلى العكس من ذلك فباتوا يؤمنون أنهم أكبر من أن يتعلموا شيئًا جديدًا، وكأن الحياة قد توقفت عندما أنجبوا وازداد عمرهم أعوامًا أخرى، وأصبح دورهم يقتصر على توفير محيط اجتماعي ينافس المحيط الذي نشئوا في ظله، دون النظر إلى مبدأ تطوير ثقافاتهم والذي بدوره يمكنهم من مواكبة هذا العصر والوسط الاجتماعي الذي دفعوا أبنائهم إليه كي ينشئوا تحت رعايته.
ليس ذلك وحسب، فالبعض منهم يتدخل بشكل صارم لدفع الأبناء إلى دراسة مجال بعينه نظرًا لكونه يعطي مكانة وبعدًا اجتماعيًا أفضل من غيره، أو لكونه يحيطهم بفئة ومحيط اجتماعي أفضل، وهم من دون وعي يُعمقون الفجوة المستقرة بينهم وبين أبنائهم.
نظرة سريعة عن علاقة الآباء والأبناء خارج الوطن العربي
كل طرف ينظر إلى الأمور من زاوية خاصة تشكلت نتيجة المحيط الذي قضى فيه الكثير من الوقت وساهم بشكل أو بآخر في تشكيل وعيه وطريقة حكمه على ما يدور من حوله، وفي الواقع فإن تلك الاختلافات في زوايا النظر إلى الأمور لم تقتصر على المجتمعات العربية فحسب، بل أن مصطلح “الفجوة بين الأجيال” منتشرًا في العالم أجمع.
تلك التباينات خلّفت فروقًا بين الأجيال في أمور مثل: قيمة الأخلاق بشكل عام، وأخلاقيات العمل، وقبول الآخر، والرؤى ووجهات النظر السياسية، والمعتقدات الدينية
في مقال عن الفجوة بين الأجداد والأحفاد نشرته سوزان أدوكس عبر موقع verywell family، وهي كاتبة محتوى وصحافية متخصصة في مجال التعليم والتربية، قالت فيه إن الفجوة بين الأكبر والأصغر سنًا ليست مستحدثة، بل أنها متواجدة على مر العصور، إلا أنها بالرغم من تلك الاختلافات الدائمة بين الأجيال ترى أن مصطلح “الفجوة بين الأجيال” لم يعد كافيًا للتعبير عن تلك الاختلافات المتواجدة حاليًا.
وقد اعتمدت في وجهة نظرها على عدد من الإحصائيات، منها دراسة لمركز بيو للأبحاث جاء فيها أن حوالي 79% من الأمريكيين يقرّون بوجود فجوة حقيقية بين الشباب ومن هم أكبر سنًا في زوايا النظر إلى ما يدور في العالم من حولهم.
وبحسب الدراسة نفسها فإنه بالرغم من إقرار فئة كبيرة من الأمريكان بوجود اختلافات بينهم وبين الأبناء والأحفاد إلا أن نسبة منهم لا يعتبرون ذلك دليلًا كافيًا على وجود فجوة قوية بينهم، ربما يعود ذلك إلى نوع الاختلافات وطريقة تقييمهم لها، فقد صنفت الدراسة البحثية أسباب عدم التوافق بين الأجيال إلى اختلافات تكنولوجية، واختلاف في الذوق الموسيقي.
تلك التباينات خلّفت فروقًا بين الأجيال في أمور مثل: قيمة الأخلاق بشكل عام، وأخلاقيات العمل، وقبول الآخر، والرؤى ووجهات النظر السياسية، والمعتقدات الدينية، هذا كله بالنسبة لأمريكا التي تحظى بمعدل عال لاستخدام التكنولوجي بين الأكبر والأصغر سنًا، حتى أن هناك الآن مناقشات تدرس كيفية الحد من استخدام الآباء والأمهات للهواتف الذكية لتوفير مزيد من الوقت للأبناء، إذًا برأيك ماذا عن المجتمعات العربية؟ في حال بُنيت فلسفة تواصل قائمة على المشاركة الفكرية والحياتية بوجهات نظر أكثر قربًا فيما بين الآباء والأمهات ستنقلب الأمور رأس على عقب!
هل لا زال بالإمكان ردم الفجوة بين الأجيال؟
في اعتقادي أن الأمور سوف تتغير كثيرًا إذا آمن الآباء والأمهات بأن القطار لازال ينتظرهم وسعوا نحو تنمية مهاراتهم ومحو الجهل الثقافي والتكنولوجي ولو بشكل جزئي، حينئذ سيكونون على قرب ثقافي وفكري من أبنائهم أو أحفادهم وستتقلص تدريجيًا تلك الفجوة التي نمت بينهم وبين الأجيال الأصغر على مر السنين.
بإمكان الآباء والأمهات تقليص حجم الفجوة الناتجة عن اختلاف الثقافات بين الأجيال من خلال إجراء مناقشات مستمرة مع أبنائهم وهم في عمر المراهقة
بمعنى أن يسعى الآباء والأمهات إلى الخروج من دائرة الروتين اليومي التي تقتصر على العمل من أجل توفير الغذاء والشراب، بينما يمكنهم توفير بعض الوقت للتحدث إلى أبنائهم ومحاولة الانخراط في الواقع الفعلي الذي يعيشونه، كما يمكنهم كذلك توفير بضع ساعات لقراءة الكتب والاطلاع على ما يدور حول العالم.
كارل بيكهاردت وهو كاتب محتوى إلكتروني متخصص في مجال التربية ولديه حوالي 15 كتابًا حول التعامل مع الأبناء، يؤكد أن وجود تلك الاختلافات بين الأجيال أمر طبيعي لابد من وجوده، فالآباء والأمهات قد تربّوا في ظل ثقافة عامة تختلف عن الأجواء العامة التي ينشأ في ظلها الأبناء.
لكنه أيضًا يرى أن بإمكان الآباء والأمهات تقليص حجم الفجوة الناتجة عن اختلاف الثقافات بين الأجيال من خلال إجراء مناقشات مستمرة مع أبنائهم وهم في عمر المراهقة، بحيث يجعلوا أبنائهم وكأنهم مرشدين لهم في تلك المرحلة الهامة، فيخبرونهم عن التغيرات التي تحدث أولًا بأول.
في الواقع؛ الجهل الثقافي والتعليمي الذي يظهر في أبهى صوره بين بقاع كثيرة في مجتمعنا العربي سيظل متحكمًا في كافة اتجاهات الحياة، حتى أنه بات متحكمًا في المستقبل بالشكل الذي يجعلنا نتنبأ بكم المشكلات التي ستضاف إلى تلك المتواجدة الآن، والتي قد ورثناها عن أخطاء من سبقونا، لكن ربما نستيقظ ذات يوم على استجابات فعلية من الآباء والأمهات، وإن كانت فردية، تُصلح تلك الفجوة، فلم تعد الناقشات التي يقيمها علماء الاجتماع كافية للإصلاح.