لطالما أثارت العلاقة الثنائية ما بين الشعر والسياسة جدلًا واسعًا وإشكاليةً كبيرة يرجع أصلها إلى مئاتٍ بل آلافٍ من السنين الغابرة، لدور الشعر في وتأثيره بقوى السياسة والسلطة من جهة، ونزعة السياسة لإخضاع الشعر والاستحواذ عليه والتحكّم في أشكاله ونصوصه. وبالتالي، يجد الشاعر نفسه أمام خيارين اثنين؛ مهادنة السلطة والخضوع لها أو التصدّي لها ولهيمنتها ومناكفتها بطرقٍ عديدة.
وعن تلك العلاقة الجدلية يقول الشاعر الروسيّ الحائز على جائزة نوبل للآداب “يوسف برودسكي” أنّ الحاكم يعرف في قرارة نفسه أنه لا يمثّل على الأرض سوى سلطةً مؤقتة وعابرة، فيما يحتفظ الشاعر لنفسه بسلطةِ الدائم والأبديّ. أمّا الضغينة والخلافات التي قد تحدث بينهما، فيُرجع برودسكي سبب ذلك إلى شعور الحكّام وأصحاب السلطة العارم بالنقص إزاء سلطة الشعراء العالية على مرّ الزمان.
وقد عُرف الشعر السياسيّ العربيّ منذ القِدم، أي منذ الجاهلية، كوسيلةٍ لمناصرة القبيلة والدفاع عنها ومدحها وهجاء أعدائها، أو لأغراض الدعوة للحروب وبثّ الحماسة في نفوس المقاتلين والمحاربين. وبالتالي، نستطيع القول أنّ العداوة والخلافات ليستا دومًا ما يحكم علاقة الشاعر بالسلطة، ثمّة العديد من الشواهد والأمثلة التي شهدها تاريخ الأدب والسياسة العربيّ على علاقاتٍ وصداقاتٍ عميفة بين ثنائيّة السلطة-الشِعر أو الحاكم-الشاعر، لا سيّما حين يسلك الشاعر مسارًا مناصرًِا أو مؤيّدًا للحاكم أو الحزب أو الدولة.
أبو الطيّب المتنبّي وسيف الدولة الحمدانيّ
قد تكون العلاقة الثنائية المشهورة بين كلٍ من أبي الطيّب المتنبّي وسيف الدولة الحمدانيّ واحدةً من أهم الأمثلة التي يمكننا طرحها في هذا السياق. وكثيرًا ما يُقال أنه لولا المتنبّي وشِعره لما ذاع صيت سيف الدولة ولما خلّده التاريخ أو عرف الناس والأجيال اللاحقة من أمره شيئًا، ولربّما أصبح مثله مثل غيره من الأمراء والحكّام الذين لا نعرف عنهم ولم تخلّدهم ذاكرتنا الجَمعية كما خلّدت اسم “سيف الدولة”.
قام المتنبي بكتابة 22 قصيدة في مدح سيف الدولة الحمداني
ترجع بداية القصّة إلى عام 343 للهجرة، حين حقّق سيف الدولة أبرز انتصاراته ضدّ الروم قرب قلعة الحدث الحدودية على الرغم من قلة عدد جنوده بجنودهم. ولمّا عاد سيف الدولة بجيشه إلى حلب منتصرًا، استقبله عددٌ من الشعراء مرحّبين مادحين، لكنّ قصيدةً واحدةً دون غيرها كانت هي ما خطف الألباب ونالت إعجاب الجموع، لتخلّد معها اسم سيف الدولة لأكثر من إحدى عشر قرنٍ لاحقًا، وهي قصيدة المتنبّي الشهيرة “على قدرِ أهل العزم تأتي العزائمُ”.
ومنذ تلك القصيدة أصبح المتنبي مقربًا إلى الأمير ونديمًا له في مجالسه، ورفيقًا له في سفره ومصاحبًا له في حروبه وغزواته. وقد أمضى المتنبي ما يقارب التسع سنوات في بلاط الحمدانيّ، قام خلالها بكتابة 22 قصيدة في مدح سيف الدولة. ولكثرة حاسديه ومنافسيه في اللغة وفي حبّ سيف الدولة، ساءت العلاقة بين الأمير والشاعر لدرجة أنّ المتنبي اضطر لترك حلب والخروج إلى مصر.
أمّا بداية النهاية فكانت مع قصيدة “واحرَ قلباه”، والتي بدأ فيها المتنبّي مادحًا سيف الدولة ومبجّلًا فيه ومعظّمًا إيّاه، لكنه تحوّل عن ذلك ليمدح نفسه وشعره وقدراته اللغوية الفذّة، فما كان من سيف الدولة سوى الغضب ورمي المحبرة في وجه أبي طيّب، لا سيّما وأنّ علاقتهما في تلك الفترة كانت تتزعزع مع أقوال الوشاة والحاسدين.
ففي حين أنّ المتنبي بدأ قصيدته قاصدًا سيف الدولة بقوله:
فكان أحسن خلق الله كلهم | وكان أحسن مافي الأحسن الشيم
إلا أنه تحوّل فجأة إلى نفسه قائلًا:
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا | بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي | وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا | وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
عبد الرزاق عبد الواحد وصدّام حسين
خلال الحرب العراقية-الإيرانية ما بين الأعوام 1980-1988، بزغ نجم الشاعر العراقيّ عبد الرزاق عبد الواحد بعد أنْ استطاع بأشعاره التي بُثّت على التلفاز آنذاك لفت انتباه الرئيس العراقيّ السابق صدّام حسين، فحظيَ بمنزلةٍ قريبةٍ منه ومكانةٍ عالية لديه، حتى أطلق عليه لقب “شاعر القادسية الثانية”، وهو الاسم الذي أُطلق على تلك الحرب.
ولطالما أحبّ عبد الواحد المتنبّي وأُعجب بأشعاره، فاعتبره أستاذه الأكبر وسار على خطاه، لا سيّما في أنّ المتنبي اتّخذ من سيف الدولة مادّة دسمة لأشعاره. وبالمثل، نظر عبد الواحد إلى صدّام حسين كما نظر المتنبّي إلى سيف الدولة الحمداني، حتى أنه -أي عبد الواحد- أطلق على صدّام لقب “سيف العرب”.
الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد: 1930-2015
وعن هذا قال عبد الواحد في واحدة من مقابلاته الصحفية: “أجمل ما في شعر المتنبي هي عناصر البطولة التي أسقطها على سيف الدولة، وأقسم لك أن أجمل ما في شعري هو عنصر البطولة الذي أسقطته على صدام حسين، لأنني اتخذته رمزًا للقائد العظيم وكتبت فيه ما أتمنى أن يكون عليه الإنسان العربي العظيم، وإذا كان هناك ما سيخلدني في المستقبل فهو هذه القصائد، لقد قلت في صدام شعرًا لم يقله المتنبي في سيف الدولة”.
وقد واصل عبد الواحد تأييده لصدّام حسين ودعمه له وكتابة القصائد في مدحه حتى بعد سقوط بغداد، وقد كتب قصيدته الشهيرة “لا يجوز الرثاء” في رثائه بعد إعدامه.
قصيدة عبد الواحد في رثاء صدام حسين
أحمد شوقي والسلطان عبد الحميد الثاني
قد تكون إحدى الأمور التي نجهلها عن أمير الشعراء أحمد شوقي، هي علاقته القريبة من السلطان عبد الحميد الثاني، إذ ناصره مطوّلًا ومدحه بقصائده في المناسبات والأحداث المختلفة، مثل القصيدة التي كتبها إبان الحرب بين تركيا واليونان عام 1897، وقصيدة أخرى في عيد جلوس السلطان أثناء زيارته لإسطنبول عام 1904، وقصيدة أخرى يهنئه بنجاته من قنبلة عام 1905، وغيرها الكثير.
وقد قال شوقي في قصيدته التي كتبها أثناء نزوله ضيفًا عند السلطان في إسطنبول:
إيه عبد الحميد! جلّ زمانٌ
أنت فيه خليفة وإمامُ
إن في (يلدز) الهوى لخلالٌ
أنا صبٌّ بلطفها مستهامُ
ثم مدحه في مناسبة أخرى وأثنى على حكمته التي اكتسبها طيلة ٣٠ سنة بقوله:
سننتَ اعتدالَ الدهر في أمر أهلِهِ فبات رضيّاً في ذراك وباتوا
أكان لهذا الأمر غيرك صالحٌ
وقد هوّنَته عندك السنواتُ!
ومن يسسِ الدنيا ثلاثين حجة
تُعنه عليها حكمة وأناةُ
وعلى غرار الكثيرين، لم يدم هذا المدح والحبّ طويلًا، فقد رحّب شوقي بالانقلاب الحاصل ضد السلطان عبد الحميد عام 1908، الأمر الذي يكون دليلًا آخر على إشكالية العلاقة بين الشاعر والحاكم أو السلطان أو الأمير، تلك العلاقة المحكومة دومًا باللبس والشكوك المتبادلة نظرًا للتصادمات الحاصلة بينهما لا سيّما لتبدّل السياسة واختلاف أحوالها دائمًا وأبدًا من جهة، ما يجعل الشاعر في موضع الخادم لبلاط أيديولوجيا ضيّقة.