أعلن رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، خلال اجتماع مغلق للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، أمس الأحد، عن دراسة حكومته لعدد من الخطط المطروحة فعليًا على موائد النقاش والتباحث، التي تستهدف تفكيك سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، وذلك للمرة الأولى منذ بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وكشف نتنياهو عن دراسته لما يعرف بـ“خطة الجنرالات” التي كانت قد كشفت عنها وسائل إعلام إسرائيلية مطلع الشهر الجاري، لافتًا إلى أنها واحدة من جملة خطط عدة يتم دراستها بشكل مكثف خلال الأيام الأخيرة، بهدف القضاء كليًا على حماس رغم استبعاد الكثير من خبراء النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية لقدرة الاحتلال على تحقيق هذا الهدف.
وتأتي مناقشة مثل تلك الخطط بينما تدخل حرب غزة يومها الـ353، ارتكبت خلالها قوات الاحتلال كل أنواع جرائم الإبادة الوحشية، ما أسفر عن سقوط أكثر من 137 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، فيما يعاني أكثر من مليوني غزي من ويلات النزوح بعدما تم تدمير أكثر من ثلثي القطاع وتعريض حياة عشرات الآلاف للموت بسبب الحصار وحرب التجويع الممنهجة.
وتعكس “خطة الجنرالات” كغيرها من الخطط الساعية لكسر حماس، فشل الاحتلال في تحقيق أهداف الحرب والعجز عن بلوغ أي انتصار عسكري ميداني على المقاومة التي تواصل صمودها وتكبيدها جيش المحتل الخسائر تلو الأخرى، الأمر الذي دفعه للبحث عن أدوات ووسائل أخرى يخرج بها من المستنقع.. فما تفاصيل تلك الخطة؟
خطة الجنرالات.. الهزيمة بالتجويع
في بدايات الشهر الجاري كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عن ملامح وثيقة اعتمدها منتدى الجنرالات والمحاربين الإسرائيليين، بمبادرة من اللواء متقاعد غيؤرا آيلاند، الرئيس السابق لقسم العمليات في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وبدعم من عشرات من كبار الضباط، تنطوي على خطة للقضاء على حماس وتفكيك قدراتها عبر خطوات تدريجية.
الوثيقة جاءت كرد فعل على مقتل الأسرى الإسرائيليين الست في رفح 31 أغسطس/آب الماضي، الذين كانوا بحوزة حماس التي حمّلت جيش الاحتلال مسؤولية قتلهم في أثناء عملياته العسكرية جنوب القطاع، حيث تم رفعها إلى الوزراء وأعضاء الكابينت، من أجل مناقشتها وإقرارها، ولإصدار الأوامر للجيش بتطبيقها ميدانيًا.
انطلقت الوثيقة ابتداءً من قاعدة قدرة حماس على ترميم جدرانها في أسرع وقت، وأنها رغم كل تلك الأشهر من القتال ما زالت قادرة على استعادة ثقلها وتجنيد مقاتلين جدد ودعم ترسانتها التسليحية بأي وسيلة كانت، مشددين على أن مسؤولية الحركة عن توزيع الغذاء على سكان القطاع هي النقطة المفصلية في التعاطي مع حماس، وعمود الخيمة في استمرارها وصمودها حتى اليوم، وعليه فإن أول خطوة في القضاء على الحركة هي تجريدها من هذا العمود.
وارتأت الوثيقة أن تحقيق هذا الهدف إنما يأتي من خلال تنفيذ 4 خطوات مرة واحدة: “منع الأموال، تدمير قدرة حماس على تجنيد عناصر جديدة، ضرب الإمدادات، القضاء على الحوافز لمواصلة القتال والحكم”، لافتة إلى أن آلية التطبيق تتطلب فرض حالة من الحصار والتجويع تقود في النهاية إلى الاستسلام أو الموت جوعًا.
ويلخص الخطة الجنرال آيلاند الذي صاغ الوثيقة، بالإشارة إلى إصدار أوامر بالنزوح فورًا إلى الجنوب لكل السكان الغزيين المتبقين في المنطقة شمالًا من محور نتساريم بما فيه غزة المدينة، والبالغ عددهم نحو 300 ألف، عن طريق ممرات يوفرها الجيش وتحت حراسته.
وأضاف إلى أنه بعد أسبوع واحد فقط من أمر الإخلاء سيتم فرض حصار عسكري مطبق على من تبقى من السكان في مناطق الشمال، بحيث يتم قطع أي سبل إمداد بالغذاء أو الماء أو الدواء، معتبرًا أن كل من تبقى من أهالي تلك المناطق هم من عناصر حماس، على حد قوله، وعليه ليس أمامهم سوى خيار واحد، إما الاستسلام وإما الموت، كخطوة أولية نحو فصل الشمال وعزله بشكل كامل عن بقية القطاع.
ويميل الجنرال الإسرائيلي إلى الرؤية المتطرفة التي تقول بأن “التجويع حتى الموت هو سيد الموقف”، زاعمًا أن صفقة تبادل الرهائن التي تمت بين حماس و”إسرائيل” في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 تكللت بالنجاح بسبب تلك السياسة، مرجعًا ذلك إلى عدم إدخال دولة الاحتلال للقطاع سوى حافلتي مساعدات فقط يوميًا، وهو ما مثل ضغطًا على المقاومة وأجبرها على قبول الصفقة وفق مزاعمه.
من جانبه، يقول رئيس منتدى الجنرالات الذي أعد الوثيقة، الجنرال حيزي نحاما، أن تلك الخطة هي “الوصفة المؤكدة لهزيمة حماس والقضاء عليها”، على حد زعمه، لافتًا إلى أنه كان يفترض تطبيقها في حي الزيتون قبل نصف عام تقريبًا، لكنها لم تنفذ.
تطبيق كربوني لرؤية نتنياهو واليمين المتطرف
تتناغم تلك الخطة شكلًا ومضمونًا مع رؤية كل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزيري ماليته وأمنه القومي، سموتريتش وبن غفير، التي دومًا ما عبروا عنها أكثر من مرة منذ بداية الحرب، وتعتمد في المقام الأول على فرض الحصار المطبق على الفلسطينيين وتجويعهم حتى الاستسلام.
وعلى مدار أشهر الحرب الـ12 لم يتوانَ سموتريتش وبن غفير عن إصدار التصريحات العنصرية التي تطالب بقطع كل سبل الإمداد الغذائي عن سكان القطاع، وتركهم عرضة للجوع والعطش والبرد حتى الموت، هذا بخلاف سن حزمة من القوانين والإجراءات التي تهدف في المقام الأول إلى تسهيل قتل الفلسطينيين، مثل ترخيص حمل المستوطنين للسلاح بحجة الدفاع عن النفس في مواجه الشعب الفلسطيني الأعزل.
ومنذ بداية الحرب يمارس الوزيران المتطرفان ضغوطًا شرسة على نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت لشن حرب تجويع كاملة، من خلال قطع المساعدات وغلق كل المنافذ والمعابر التي تسمح بمرور الشاحنات، سواء عبر معبر رفح أم كرم أبو سالم، أم على أقل تقدير التحكم في توزيع المساعدات بما يضمن لهم تحقيق المخطط لكن بشكل تدريجي.
ويتسق هذا الطرح بنسبة كبيرة مع سياسة الأرض المحروقة التي انتهجها نتنياهو مع بداية الحرب، وتعززت بشكل أكبر بعد الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة سابقًا (تحرير الأسرى والقضاء على حماس وضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا للداخل الإسرائيلي)، وهو الطرح الذي يعتبره البعض في الداخل الإسرائيلي مغامرة لحسابات شخصية يحاول من خلالها رئيس الحكومة المأزوم البحث عن أي انتصارات زائفة يداري بها فشله في تحقيق الأهداف المحددة سلفًا.
الوثيقة تخدم كذلك توجه نتنياهو ويمينه المتطرف في الهجوم على غالانت وقائد أركان جيش الاحتلال هرتسي هليفي، ومحاولة إزاحتهما عن المشهد، كونهما أبرز المعارضين لتحويل الحرب إلى معركة مكاسب خاصة لنتنياهو وفريقه، وحجر العثرة الأبرز في مواجهة رؤية رئيس الحكومة المُساق بشكل كبير من اليمين المتطرف لصالح حسابات سياسية شخصية.
قفز على الفشل في تحقيق الانتصار العسكري
يأتي مثل هذا الطرح بعدما قاربت الحرب على نهاية عامها الأول، وهنا تساؤل: هل مثل تلك الخطط والوثائق كان لها أن تخرج إذا كانت الحرب قد حققت أهدافها التي وضعتها القيادة العسكرية الإسرائيلية؟ بطبيعة الحال فالإجابة لا بالقطع، وعليه فالقراءة الأولى لتلك الخطوة تأتي في سياق فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه من الحرب رغم الفوارق الكبيرة بينه وبين المقاومة التي تعاني من حصار خانق منذ اندلاع المواجهات، وعليه فهو يبحث عن أي وسيلة أو استراتيجية أخرى يحقق بها انتصارًا يداري به عورته التي كشفها الطوفان ونسفه للصورة الذهنية الخيالية عن الجيش الذي لا يقهر والاستخبارات الأقوى في العالم.
واستطاعت المقاومة رغم تواضع إمكانياتها، قياسًا بالجيوش النظامية التقليدية بصفة عامة وجيش الاحتلال المدعوم من أقوى جيوش العالم على وجه الخصوص، تكبيد المحتل خسائر فادحة على المستويات كافة:
عسكريًا.. أسقطت المقاومة، بتكتيكاتها القتالية المتنوعة والمتطورة حسب مستجدات المعارك، مئات الإسرائيليين، ضباط ومجندين، وباتت صور النعوش والطائرات التي تحمل الجرحى من ميدان المعركة، كابوسًا يؤرق الإسرائيليين ليل نهار، وتحولت فصائل المقاومة إلى شبح يطارد كل عسكري داخل الجيش، ما فرض حالة من الارتباك أدت في النهاية إلى تكرار الحوادث الفردية، حيث قتل الجنود الإسرائيليين لبعضهم البعض، ومعاودة عشرات آلاف العسكريين لعيادات الطب النفسي.
سياسيًا.. أصاب الفشل في تحقيق أهداف الحرب العسكرية المشهد السياسي بحالة من الانقسام والتفسخ الشديد، لم يعرفه الكيان المحتل منذ عقود طويلة، صراعات واستقالات واتهامات متبادلة ومؤامرات تُحاك من البعض ضد الآخرين، ما نجم عنه فجوات واسعة بين الإدارة السياسية والعسكرية لتلك المعركة.
التفسخ نفسه وصل إلى الجبهة الداخلية التي تواجه مخاطر التفتت والتشرذم والانقسام البيّن، حيث الكفر بالحكومة والتنديد بإدارتها للحرب، والتظاهرات التي لا تتوقف في الشوارع والميادين، وحالة الفوضى التي تخيم على المشهد بصورة لا تتناسب مطلقًا مع جيش وحكومة يزعمان النصر في معركة قاربت على العام.
اقتصاديًا.. تسببت الحرب في استنزاف “إسرائيل” اقتصاديًا، حيث الكلفة الباهظة غير المتوقعة والصمود الأسطوري للمقاومة، ما أسفر في النهاية عن خسائر بالجملة، قد تصل إلى 120 مليار دولار، أو 20% من الناتج المحلي الإجمالي لـ”إسرائيل”، وفق بعض التقديرات، هذا بخلاف تراجع تصنيف الكيان، وهروب المليارات من الاستثمارات للخارج، وغلق عشرات آلاف المصانع الصغيرة.
ديموغرافيًا.. لا يتوقف نزيف الخسائر على المستويات التقليدية سالفة الذكر، سياسي واقتصادي وعسكري فحسب، بل وصلت إلى المدى الديموغرافي لـ”إسرائيل”، حيث تحولت البلد إلى بيئة طاردة للسكان رغم الجهود المبذولة على مدار عقود طويلة لتحويلها إلى قبلة جاذبة لليهود وغير اليهود.
وتشير التقارير الرسمية الصادرة عن دائرة الإحصاء الإسرائيلية الشهر الجاري عن تصاعد عدد الإسرائيليين الذين غادروا إلى الخارج منذ بداية الحرب، حيث غادر أكثر من 40 ألفًا، في الأشهر السبع الأولى من 2024، وهو ما يتطابق مع تقرير نُشر في يوليو/تموز الماضي عن معهد “سياسة الشعب اليهودي” كشف أن ربع اليهود في “إسرائيل” و40% من فلسطينيي الداخل أصبحوا يفكرون في الهجرة فور أن تتاح لهم الفرصة بسبب الحرب، ما يشكل تهديدًا كبيرًا على المستقبل الديموغرافي لدولة الاحتلال.
إجهاض كل المخططات.. لكن إلى متى الرهان؟
بات واضحًا وأمام هذا الفشل الذريع، إصرار الاحتلال على تسول أي إنجازات ميدانية، معتمدًا على قدراته التدميرية العالية، التي وظفها أقذر توظيف في تسوية قطاع غزة بالأرض، وتحويله إلى أرض محروقة، حيث تدمير الحجر والشجر ووأد كل مقومات الحياة.
ولم يكتف المحتل بذلك فقط، بل مارس أبشع جرائم التجويع والتعطيش والقتل البطيء (نصف سكان غزة يعانون الجوع الكارثي، و90% من الأطفال يعانون سوء التغذية الحاد حسب تقرير أممي) فأغلق المعابر ومنع المساعدات، وهدم المشافي ودور الإيواء، وجعل الغزيين يواجهون مصيرهم المحتوم في العراء، آملًا أن تسفر تلك الضغوط عن تجريد المقاومة من حاضنتها الشعبية وإجبار سكان القطاع على القطيعة مع حماس والجهاد، ما يسهل من عزلة المقاومة وبالتالي استهدافها.
لكن العدو فوجئ برد فعل مغاير تمامًا لما خطط له، إصرار على البقاء رغم انتفاء مقومات العيش، وتشبث بالحياة من رحم اليأس ومن بين ثنايا روائح الموت، ودعم متواصل ومستمر للمقاومة رغم الضريبة والكلفة الباهظة لهذا الموقف، وفوق كل هذا القفز على كل تلك الأزمات بالصبر والصمود.
وبينما كان الاحتلال يتسول النصر مع كل منطقة يدخلها ويدمرها ويحولها إلى أطلال ركام لا وجود فيها لمقوم واحد من مقومات الحياة، متوهمًا أنه فرض بذلك عزلة كاملة بينها وبين سكانها النازحين، إذ به يُصدم بعودة أهلها فور خروجه منها، لتبدأ مرحلة إعمار أولي للمنازل المهدمة، واستدعاء الحياة مجددًا ولو على أنقاض الركام، بل تجاوز الأمر ذلك إلى المقاومة التي عاودت النشاط والبناء سريعًا في مناطق الشمال والوسط، التي توهم الاحتلال أنه جردها كلية من أي أثر للمقاومة.
وأمام هذا الإفساد والإجهاض الشعبي والمسلح لمخططات التهجير والقضاء على المقاومة، لم يجد الاحتلال أمامه سوى حرب التجويع بمستوياتها القاسية، ورغم الصمود والثبات لكن إلى متى يظل الرهان على هذا التحمل والصبر؟ إلى متى يبقى المجتمع العربي والإقليمي والدولي على حالة الخذلان تلك؟ ماذا ينتظرون للتحرك؟ هل ينتظر العالم كارثة إنسانية جديدة يسقط فيها عشرات الآلاف جوعًا؟ ألم يكفيه هذا التساقط الذي لا يتوقف لأطفال في عمر الزهور، ونساء وشيوخ وشباب لا جريرة لهم سوى أنهم فقط فلسطينيين؟