نتابع عمليات شفط النواب بين طرفي الخصومة السياسية، فنسمع عن اجتماعات تهديد بالإقصاء والرفت أو بالطرد من الحزب، نستمع إلى حديث رومانسي حزين بانتقال حزب الحكومة إلى المعارضة، وضع سريالي غير مسبوق في تونس، فالحزب الفائز في انتخابات 2014 الذي شكل أربع حكومات فاشلة ينتهي معارضًا لرئيس حكومة عينه من صلبه.
نضحك قليلاً ونضع أيدينا على قلوبنا، فقد أعلنوا الحرب الأهلية داخل الحزب أو ما تبقى منه، وحتى اللحظة لا نشم رائحة الدماء ولكن لا نتوقع أن يطول زمن الحرب النبيلة بين الإخوة الأعداء، فالقبض على سيارة من طاقم الرئاسة توزع المخدرات وتملك مخزنًا سريًا لها، كشف أن الحرب قد بدأت، والمعارضة الفايسبوكية تهلل طربًا وتمعن في فضح الشقوق وتقف عند ظاهر الخبر والخبر له بواطن مخيفة.
الخبر وبواطنه
سيارة تستعمل ضمن طاقم سيارات الرئاسة موضوعة على ذمة مركز الدراسات الإستراتجية الذي يترأسه ناجي جلول وزير التربية المقال والمستشار غير الرسمي المقرب من الرئيس وأحد المراهنين عليه، قبض عليها بسائقها الموظف في الرئاسة يوزع المخدرات وبمداهمة إقامته تبين أنه يحوذ مخزنًا للمخدرات والعملة الأجنبية.
كان يمكن للخبر أن يكون عاديًا وأن يمر في ظلام الأحداث المتراكمة بسرعة عجيبة، لكن الربط فرض نفسه بين أخبار كثيرة، فالصحافة الموالية لشق الرئيس أمعنت منذ مدة غير يسيرة في سرد جرائم الاغتصاب والقتل وسرقة المواشي في الأرياف وجرائم التهريب، وحصل جزع كبير وظهر تعاطف الفقراء مع الضحايا ولكن لم يتم الربط بين زمن إقالة وزير الداخلية واستشراء الأخبار التي تطعن في كفاءة الأجهزة.
وجاء الرد بالقبض على سيارة الرئاسة، قال الشاهد لأعدائه في القصر بيتكم من البلور وفضائحكم كانت مستورة والآن بدأت الحرب وأجهزتي قادرة على الوصول إليكم وليس لكم مناعة.
رئيس الحكومة المهدد بالطرد من حزبه يزداد قوة في موقعه، لأن لديه الآن كتلة نيابية معتبرة
نجمع هذا إلى إقالة وزير الطاقة وطاقمه بتهم تتعلق بالتلاعب بالثروات النفطية يتبين أن اسم الرئيس وأسرته ومكتبه للمحاماة غير بعيد عن القضية ويتبين أن النقابة الموالية لابن الرئيس ليست بريئة، وأن الضربة آلمتها حتى قفزت من الوجع تدافع عن الوزير الذي كانت قبل يوم واحد تنعته بالفشل ضمن تقويمها للحكومة الفاشلة، فإذا هو شخص نظيف.
قلنا في قراءة أولى (مطمئنة من طيبة أو غباء) أن حربهم ستخرج للتونسيين حقائق مرعبة عن وضع البلد بما يسهل قراءتها وتصحيحها ولو بعد حين، ولكن يبدو أن الحرب ستكون مدمرة حتى إن الناس لن يجدوا وقتًا للاستفادة من المعلومات والفضائح التي تخرج إلى السطح.
لا مؤشرات على تراجع الشاهد
لا شيء ينبئ عن رغبة في التهدئة خاصة بعد عملية شفط النواب، فرئيس الحكومة المهدد بالطرد من حزبه يزداد قوة في موقعه، وعنده الآن كتلة نيابية معتبرة وهناك بعض النواب المعروفين بالسياحة الحزبية اتخذوا موقع الربوة في انتظار تبين موازين القوى والشاهد يعد بأكثر مما يعد الباجي، مغامرة اقتحام معمل البسكويت وكسر أنف النقابة هناك كشف عزيمة لا تلين للذهاب إلى آخر المعركة، ردت عليها النقابة بسيل من التهديدات.
من يقول بأن الشاهد صار المنقذ من الخراب القادم هو واحد من اثنين: إما طامع في غنيمة يمهد لها بالولاء لمن يراه قوة قادمة أو يائس يبحث في شخص الشاهد عن الحد الأدنى من الاستقرار الضامن للخبز اليومي
فقد توالت خلال هذا الأسبوع تصريحات القيادات النقابية مهددة بتحريك الماكينة/النقابة وهي تصريحات وإن كشفت عن خوف من ملفات كان الشاهد هدد بها القيادة النقابية (منهجية بن علي في إخضاع النقابيين) إلا أنها تنذر بفصل آخر من معركة كسر العظم بين الشاهد من ناحية والجهة التي توظف النقابة وتحميها (وتحتمي بها)حتى الآن.
هذه العصا الغليظة في يد لم تفكر أبدًا في مصلحة التونسيين وخاصة الفقراء منهم، ولذلك فإنها ستكون أداة بلا رحمة، ننتظر معارك بين الشاهد والنقابة تحت غلاف الدفاع عن الفقراء ولكن لم يعد يخفى على أحد أن النقابة قطعت خط الرجعة وهي الآن في حرب مفتوحة لن يكون لها وقود إلا حياة التونسيين ومدرستهم وأولادهم، وكل صفقة تهدئة محتملة ستكون على حساب البلد والناس.
هل صار الشاهد أملاً للتونسيين؟
من يقول بأن الشاهد صار المنقذ من الخراب القادم هو واحد من اثنين: إما طامع في غنيمة يمهد لها بالولاء لمن يراه قوة قادمة أو يائس يبحث في شخص الشاهد عن الحد الأدنى من الاستقرار الضامن للخبز اليومي وإن ارتفع سعره حتى صار مرًا.
أول رسائل الصنف الأول جاءت من حزب التيار في تصريح للأمين العام السيد غازي الشواشي الذي كان قبل شهرين يرفض التعاون من حزبي النداء والنهضة في البلديات بدعوي أنهما حزبين فاسدين أضرّا بمصلحة البلد، ثم أرسل رسالة تعاون لما بعد 2019 هي عبارة عن استعداد مبدئي للعمل مع الحزب الفائز في 2019 ضمن حكومة ائتلافية، قراءة متسرعة تعتقد أن الشاهد قد فاز في معركته مع ابن الرئيس وأن الريح صارت مواتية له وهذا أوان إرسال رسائل التعاون.
هذا أوان التميز خارج معركة الشقوق وليس أقدر على ذلك نظريًا من حزب النهضة القوي في الشارع بجمهور ثابت
تغيير في المبادئ أم تغيير في التكتيك؟ في الحالتين هو بداية اصطفاف جديد يشارك في معركة الشقوق ويعمق خلافاتها طمعًا في فيئها، بما ينذر بانقسام حاد بين تونس الشاهد وتونس حافظ، فهل كان الصمت أفضل في هذه المرحلة؟ خيال المعارضة التونسية الآن ليس من الرحابة بحيث يتصور تونس ومستقبلها خارج سيطرة شق من المنظومة القائمة، حيث يصير أفضل تموقع هو الوقوف مع شق ضد آخر وهكذا ينقل المتصارعون حربهم إلى صفوف المعارضة.
النهضة ترى الحبال أفاعي
هذا أوان التميز خارج معركة الشقوق وليس أقدر على ذلك نظريًا من حزب النهضة القوي في الشارع بجمهور ثابت، لكن حزب النهضة يفضل التريث أو يتظاهر بالغياب ويكتفي بمراقبة المعركة رغم أنه كان مبدئيًا في نقطة مهمة هي الحفاظ على المسار الانتقالي عبر الانتخابات والتوافق بين فرقاء الوطن.
هذه الانتظارية تساهم في استدامة الخوف من المستقبل المجهول، فكثير من الناس ينتظرون أن يتحمل الحزب مسؤوليته في فض النزاع أو الحد منه أو الابتعاد عنه بما يكسر قوة الطرفين المتنازعين، فلولا الهدوء السياسي الذي تضمنه النهضة الآن لما وجد الطرفان فسحة لعراك الديكة، فالاستقرار الظاهر يعطي الطرفين فسحة من الطمأنينة أن البلد لم يتمرد بعد على الصراع وبالتالي يمكن مواصلته حتى كسر أحد الطرفين لخصمه (لعدوه).
قد يكون من الذكاء التكتيكي ترك الطرفين يكسران بعضهما فيكون المجال مفتوحًا لانتصار ساحق (من يضمن الآن الوصول إلى انتخابات في موعدها) ولكن المسؤولية الأخلاقية تجاه الناس هو التميز في هذه المرحلة والإعلان بصوت عالٍ أن كفى فالبلد لا يحتمل.
التخويف من الخراب لا يوقف مسار الخراب الذي يشاهده الجميع، لكن التردد في اللحظات الحاسمة ينتج حالة من اليأس وفقدان الأمل في من قد توكل إليه مهمة القيادة في ظرف حرج
يروعنا أن بعض محدثينا من النهضويين يروجون بعد أن كل صراع سينتهي بإعدامهم، فهم الهدف خلف هذا الصراع والفرقاء قد يتفقون في آخر لحظة عليهم، وهذا يذكرنا بحالة من لدغه الحنش مرة فصار يرى كل الحبال أفاعي تتربص به.
التخويف من الخراب لا يوقف مسار الخراب الذي يشاهده الجميع، لكن التردد في اللحظات الحاسمة ينتج حالة من اليأس وفقدان الأمل فيمن قد توكل إليه مهمة القيادة في ظرف حرج، نتحدث هنا عن مسؤولية تاريخية تقتضيها الشجاعة الأخلاقية لمن يمارس السياسة ويهتم بالشأن العام لا عن مغنم سياسي يأتي سهلاً كطريدة النمر للضبع، يستعيد النهضاويون لعبة تخويف قواعد الحزب من احتمال مجرزة فيلزمونهم بالصمت، متجاهلين قدرًا كبيرًا من الأمل المعلق على قوة الحزب لحسم النزاع بقول فصل أن كفى.
مسار الخسارات الجذرية
قد تظل العملية السياسة جارية في اتجاه انتخابات في موعدها، ولن ينتج عن الصراع الحاليّ إلا لغو فاسد وبعض المشاحنات والفضائح (وهذا تفاؤل أقرب إلى الأمنيات) ولكن البلد ينهار اقتصاديًا واجتماعيًا، والطبقة السياسية من كل الأطياف شاهد أخرس أو أصم يتحدث عن التوافق وحتمية إدارة البلد ضمن سلم أهلية لكن العنف يستعد.
بعض العنف دفاع عن النفس وبعضه انتهازية متربصين يرون في الفوضى مغنمًا، وهذه أيام لتحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية فمن تهاون فيها دفع ثمنها السياسي، والقفز في مركب الشاهد انتهازية أخرى وانتظار انهيار المنظومة تلقائيًا من داخلها انتهازية فجة.
وليس فيما أكتب نصيحة لأحد ولكن إنذار مواطن من العامة أن قد محصناكم تمحيصًا، فلا تركبوا موجة الوطنية وتذكروننا بواجب الالتزام وأنتم تتخلون عن البلد وهو زمن يستنجد بكم الناس في لهفة غريق فتحدثونهم عن كيفية رفع نسب النمو بمعرفة سبل تناسل السلاحف في الكراييب.
لماذا لا أفتح أفقًا للأمل كما في أناشيد المدارس؟ يا عمي أنا مواطن أعدمت الصراعات السياسية الغريزية قدرتي على تخيل المستقبل.