مؤخرًا، اشتعلت السوشيال ميديا جدلًا بشأن سيدةٍ تقدم برنامجًا اجتماعيًا نسويًا – هي وبس – تتبنى من خلاله خطابًا انفعاليًا يؤلب النساء المهضومة حقوقهن، على الرجال الذين يتفننون في إذلالهن وإهدار حقوقهن وإيذائهن ماديًا ومعنويًا، وكالعادة، صحب هذا الجدل الحادث بين المستخدمين جدلٌ أخر بين المتخصصين من علماء نفس ومستشاريين أسريين ورجال دين، ما بين مؤيد ومعارض.
ومع ذلك، فإننا لا نتطلع في هذه المادة إلى الانجراف في جدلٍ مشابه عن مشروعية هذا الخطاب أو واقعيته، ولكننا، سنقدم إضاءاتٍ – رصدية وتفسيرية ونقدية – لبعض الزخم الذي صاحب هذا الترند، تعين القارئ على التعاطي مع كثير من المواضيع التي تصطدم به يوميًا في عالم السوشيال ميديا.
في البدء كان الترند
في هذا العالم “المتعولم” الذي ذابت فيه كل الحدود بين الواقعي والافتراضي، أمسى “الترند” هدفًا في ذاته، ولم يعد وسيلةً معللةً مسببةً، كما كان الأمر في الماضي، فمنذ عقدين تقريبًا، وقبل ظهور ثورة الاتصال والمعلومات، كان هناك ما يعرف بـ”قضايا الرأي العام”، وهي قضايا استثنائية، غريبة، أو مستهجنة، تطرحها وسائل الإعلام التقليدية، وتلوكها ألسنة العامة والمتخصصين جدلًا.
وفي نفس الوقت، لا يخلو الأمر بطبيعة الحال من تفاعلات “نفس اجتماعية” تخلقها هذه الحالة، وإن كانت هذه التفاعلات والحاجات – على الأقل فيما يبدو لنا – ليست هدفًا تنشده الجماعة، فكشف قضية فساد أو حادث مروع أو انتصار رياضي هي أحداثٌ تهم الجماعة وتؤدي وظائف نفسية لدى أفرادها، مثل الشعور بالانتماء أو الهوية أو التحقق أو الغضب أو الأمن أو التوحد، إلخ، كما تنقل للسلطة جانبًا من مزاج الجماهير تجاه سياساتها ومواقفها، ولكن هذه التجليات تختلف جذريًا من حيث الدافع والمعالجة عن “ترندات” اليوم.
الترند، أيًا كان، هو فيض من الحماسة للدفاع أو للهجوم تجاه ظاهرة ما
فما نحن بصدده هو عملية استحداث “ترند” من العدم، وهو احتياج نشأ نتيجة لطيف من المشاعر المتناقضة التي ولدها السياق الاجتماعي المعاصر مثل السيولة والاغتراب والإتاحة والإمكانية والتردد، إذ يجد الإنسان نفسه وحيدًا أمام كم لا حصر له من الاختيارات العقائدية والفكرية والفلسفية والعلمية والمهنية والاجتماعية والأخلاقية، فساعتها يصبح تخليق “الترند” وإنتاجه مطلبًا واحتياجًا ذا أولوية قصوى لإشباع هذا الجوع الشعوري الشديد.
وقد برع الكاتب المعروف شادي عبد الحافظ في توصيف هذه الظاهرة الجديدة حينما كتب على حسابه الفيسبوكي قائلًا:
“الترند، أيًا كان، هو فيض من الحماسة للدفاع أو للهجوم تجاه ظاهرة ما، الحماسة دي بتعطي الإنسان شعور جيد بالسعادة والأهمية في هذا العالم، لذلك يمكن بعد فترة بيدمنه الإنسان ويطلب وجوده في حياته المملة بصورة دائمة.
مع وجود السوشيال ميديا أصبحت دفقات النواقل العصبية في أدمغتنا تعمل بشكل جديد يتطلب تكرار سريع لحوادث زي ديه، بمعنى أصح، إحنا أصبحنا – بصورة أو بأخرى – مدمنين للترندات، مش لترند بعينه، لكن لفكرة الترند نفسها، لتلك القفزة المثيرة للغاية وغير المتوقعة في السوشيال ميديا اللي على إثرها بينتفض الجميع للتفاعل والتغذي على الأجواء المتحمسة ثم يعود من جديد لوكره في انتظار ترند آخر، وهكذا، يستمر سيزيف في حمل الصخرة للأعلى، فتسقط، فيحملها من جديد للأعلى”.
استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لترويج سلعةٍ ما تستهدف فئات معينة من الجمهور، دون الحاجة إلى رأسمال حقيقي أو تسويق نوعي
فإذا كان الموضوع المطروح للنقاش ليس بجديد، وإذا كان الطرح الذي تتبناه المقدمة طرحًا انفعاليًا مدفوعًا بخبرة عاطفية فاشلة – كما وضحت بنفسها – ولا يتسم بأي قدر من العلمية؛ فإن الترند، خاصة إذا كان سائلًا جدليًا أشبه بمسائل “فلسفة الأخلاق” التي نقف أمامها حائرين وعاجزين، عن تبني موقف واضح تجاهها قد أصبح هدفًا يطلب لذاته.
معادلة النجاح المضمون
قد يدفعك التأمل في الحياة إلى أن تسأل نفسك: هل هناك معادلة مضمونةٌ النتائج إذا حققتها ظفرت بنجاح فريد؟
دعني أجيبك: إذا كان النجاح في اعتقادك هو الشهرة والمال، فإن ذلك ممكنًا ودون رأسمال! كل ما عليك هو أن تفتش في داخلك عن موهبة أو نصف موهبة أو خبرة أو استعداد لتقديم شيء ما، ثم فكر قليلاً في “سيكولوچية” الجمهور الذي تستهدفه واحتياجاته وآماله، وسوف تتكفل السوشيال ميديا بالباقي!
أغلب مشاهير عالم السوشيال ميديا من هذا الصنف، ويمارسون ذلك عمدًا أو دون قصد، مثلاً: ما الرابط بين شادي سرور وعمرو حسن ومحمد رمضان وأحمد الغندور ورضوى الشربيني؟
يستهدف “الدحيح” شريحة عمرية معينة، ترى في العلم واستظهار المعلومات وسيلةً للتحقق والظهور والقبول، في مجتمع لا يقدر العلم
الرابط هو استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لترويج سلعةٍ ما تستهدف فئات معينة من الجمهور، دون الحاجة إلى رأسمال حقيقي أو تسويق نوعي، وستقوم جيوش “الفانز” الذين نداعب احتياجاتهم البدائية بمهمة الحشد والترويج والحرب من أجل سلعةٍ تشبع لديهم حاجةً معينة.
فيستهدف محمد رمضان الفئات المهمشة التي لم تحظ بتعليم وثقافة كافيين، وتشعر بالقهر والتمرد وتهميش المجتمع، وتتبنى قيم البطولة والمغامرة في مواجهة الحياة غير العادلة، ويستهدف عمرو جيوشًا من المراهقين، يداعب احتياجاتهم العاطفية ببعض الكتابات الشعرية المبتذلة التي قد تتضمن جمالًا ما، وإن كان معظمها فعلاً مبتذلاً.
ويستهدف الدحيح شريحة عمرية معينة، ترى في العلم واستظهار المعلومات وسيلةً للتحقق والظهور والقبول، في مجتمع لا يقدر العلم ويعيش بالخرافات في نظرهم، فأصبحنا أمام “كانتونات هوياتية” تحقق مبدأ “Win Win Situation” بين أفرادها “الأولتراس، جمهورية شادي، دراويش عمرو، الچوكريانز، إلخ” من جهة، وأفرادها وإلهها الرمزي من جهة أخرى.
نرصد كل هذا، تفسيرًا للتحول البنيوي الذي طرأ على مقدمة البرنامج رضوى، والذي أدى بدوره إلى ارتفاع أسهم البرنامج بشكل غير مسبوق، فمن برنامج تقليدي يتناول وصفات الشعر وصيحات الموضة موضوعًا رئيسًا ومركزيًا له، إلى برنامج يقدم عصارة خبرة حياتية لرمز مناضل أبى الضيم الذكوري، وواجه الحياة بطفلتين و180 جنيهًا، بعد أن طردها زوجها من بيته.
محمد طه: طبيب نفسي.. ولكن!
طبيب النفسية والعصبية المصري المعروف، والصاعد نجمه بقوة مؤخرًا، صاحب كتابي علاقات خطرة والخروج عن النص، والمهتم بحقوق المرأة، كتب منشورًا على صفحته على “فيسبوك”، معلقًا على جدل “ترند” الساعة، بعنوان: “رضوى الشربيني.. ونظرية البالونة والدبوس”، مفاده أن مذيعة البرنامج قد ثقبت الذوات الذكورية “النرجسية”، المتضخمة ظاهرًا والفارغة حقيقةً – تمامًا مثل البالون – باستخدام دبوس! الأمر الذي أشعر هذه الذوات الهشة بالتهديد، فلم تجد أمامها إلا التسربل بوسائل الدفاع النفسي مثل الإنكار والهجوم المضاد والسخرية، إلخ.
يبدو أن الطبيب النفسي نسى القاعدة النفسية المعروفة التي تعتبر تأخر تسديد الاحتياجات النفسية أو سوء تسديدها، سببًا في حدوث الاضطراب النفسي
والملاحظ فيما كتبه طه أن ثمة أخطاء منهجية نوعية في صلب هذا الطرح، منها، على سبيل المثال: أن الرجل قد سقط في مغالطة “الاستدلال الدائري”، فالرجل المتحيز مسبقًا لصف المرأة – بغض النظر عن صدقه أو عدالة قضيته، فالرجل هادئ ولبق، ولا شك أن أحوال جميع الفئات، لا سيما المرأة، ليست على ما يرام – قد استشهد بشهادة امرأة تعرضت لخبرة عاطفية مضطربة، فالنتيجة مضمنة مسبقًا في مقدمة الاستدلال، ليس ثمة استدلال أصلاً.
أيضًا، سقط الطبيب النفسي في مغالطة “الاحتكام إلى النموذج المهيمن/ البارادايم”، فمعلوم بالطبع أن النسق المعرفي السائد – لا سيما إن كان هذا النسق مهنةً وهوية – يؤثر سلبًا على نظرة الشخص الموضوعية للأمور، مما يؤدي غالبًا لوقوعه أسيرًا لأدوات تفسيرية محدودة الفعالية، فتفسير سوء معاملة النساء بنرجسية الرجال، باعتبارهم ذكورًا، أي بناءً على تصنيف هوياتي، ممزوجًا بصبغة نفسية، أشبه باللغوي الذي يسير في الشارع لا يرى إلا الأخطاء اللغوية، والمهندس الذي لا يبصر إلا تصاميم البنايات، فهذا الموضوع تحديدًا له جذور دينية وفلسفية معروفة ومطروحة دومًا على طاولة نقاش المفكرين، ممن يستخدمون أدوات تفسيرية ونماذج معرفية أكثر عمقًا وفعالية.
كما أنه يبدو أن الطبيب النفسي قد نسى القاعدة النفسية المعروفة التي تعتبر تأخر تسديد الاحتياجات النفسية أو سوء تسديدها، سببًا في حدوث الاضطراب النفسي، وقس على ذلك التجربة غير الناضجة التي تعرضت لها رضوى نفسها، أو سوء تدبير الحاجات العاطفية للمجتمع، وبالتالي، لا يفترض أن يعالج الاضطراب باضطراب مقابل.
تزايد صراعات الهوية وغياب الرشد الإصلاحي
رصد مؤخرًا فيلسوف التاريخ المعروف وصاحب أطروحة “نهاية التاريخ”، فرانسيس فوكويوما، تزايدًا ملحوظًا فيما يعرف بسياسات الهوية التي تتبنى قضايا فئوية كأدوات نضالية وتفسيرية في آن، الأمر الذي اعتبره تراجعًا مقابلاً لسلطة الليبرالية التي تتبنى طرحًا يعزل الهوية والعرق من عملية التقييم والممارسة، لصالح مبدأ “المسافة الواحدة من الجميع”، وقد تعرضت لاعبة التنس الأمريكية المشهورة والمصنفة الأولى عالميًا سيرينا وليامز، لهجوم إعلامي شديد، بعد اعتبارها خطأ تحكيميًا في إحدى المباريات تحيزًا ضدها باعتبارها أنثى، عبر ذكر حالات أخرى كان قرار التحكيم فيها مختلفًا مع الذكور.
الذي نتبناه هو نفس ما ذهب إليه الباحث الاجتماعي مجدي عبد الهادي الذي اعتبر إثارة قضايا الهوية في مجتمعاتنا هروبًا من المشكلة الأبرز (مشكلة خنق المجال العام من جانب السلطة)، معتبرًا أن بعض الموضوعات الاقتصادية التي تخص شرائح واسعة من المجتمع أكثر أهمية وأكثر جدوى من مشكلات العالم الأول.