“بعد 10 سنوات من العمل في السعودية بات من الواضح أن الإقامة فيها درب من الخيال، فلم أعد أتحمل صنبور الرسوم المفتوح على طول الوقت دون انقطاع أو توقف، هذا بخلاف التضييق الذي نواجهه هنا سواء من الكفيل نفسه أم من الشرطة، الأمر أصبح لا يحتمل، لكن قرار الرحيل يتطلب التفكير جيدًا”.. بهذه الكلمات استهل أسامة، الشاب الأردني الذي يعمل مدير تسويق بإحدى الشركات السعودية في منطقة جدة، حديثه عن المعاناة التي يواجهها الأردنيون العاملون في السعودية على وجه التحديد.
أسامة أضاف لـ”نون بوست” أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها بلاده دفعته للتفكير مليًا قبل اتخاذ قرار الرحيل، متسائلاً: “لو عدت إلى بلدي ماذا أعمل”؟ مجيبًا عن ذاته: “الاحتجاجات المتصاعدة هناك من العمال بسبب تردي أوضاعهم وارتفاع زيادة معدلات البطالة دفعتني أكثر من مرة لأن أؤجل فكرة العودة رغم ما أواجهه هنا من إهانات وذل ما كنت أقبلهم لو كانت الأوضاع في الأردن أفضل حالًا مما هي عليه الآن”.
مصير مجهول وخيار مؤلم يواجه العمالة الأردنية بالسعودية، ما بين البقاء في ظل أوضاع يرونها تنتهك آدميتهم وتسلب حقوقهم وتبتزهم صباحًا ومساءً، وواقع اقتصادي ومعيشي في بلادهم أكثر سوءًا وتراجعًا خاصة خلال السنوات الأخيرة، وما بين مطرقة الابتزاز السعودي وسندان الاقتصاد الوطني المتدني، يقبع عشرات الآلاف من العمالة الأردنية في انتظار مصير لم تتضح معالمه بعد.
شهادات مؤلمة
لم تكن حالة أسامة الوحيدة التي كشفت النقاب عن معاناة ما يقرب من ربع مليون أردني يعملون في المملكة، فهناك العديد من الشهادات الحية التي أماطت اللثام عن تفاصيل أخرى صادمة للبعض ومؤلمة للبعض الآخر، غير أن جميعها يصب نهاية المطاف في مستنقع الانتهاكات المتتالية التي تتعرض لها العمالة الأجنبية في دول الخليج عامة.
خالد شاب أردني يعمل صحفيًا، التحق بأحد المواقع الإلكترونية في منطقة الرياض قبل 4 سنوات تقريبًا، كان يتقاضى راتبًا يتراوح ما بين 4 – 7 آلاف ريال شهريًا، بخلاف بدل السكن والانتقالات وتذاكر السفر سنويًا، لكنه فوجئ العام الماضي ببعض القرارات المفاجئة التي دفعته للتفكير في الرحيل، إذ ما عاد يستطيع التماشي مع المستجدات الأخيرة.
“سأعود إلى بلدي مهما كان الوضع، على الأقل سنعمل ونحيا بكرامة دون تجاوز أو ابتزاز من أحد”، هكذا أجاب مصطفى على سؤال “نون بوست” عن إمكانية عودته لبلاده مرة أخرى بعد سنوات من العمل قضاها في السعودية
في يوليو 2017 فوجئ بقرار من رئيس التحرير بخفض رواتب العمالة الأجنبية في الموقع 50% على الأقل، مع تحمل الصحفي تكاليف تجديد إقامته وتحمله نصف كلفة تذاكر السفر، كما أن شهر الإجازة السنوية مدفوع الأجر أُلغي، ليتحمل هو فترة إجازته على نفقته الخاصة.
وحين توجه لرئيس التحرير للاستفسار عن أسباب هذه القرارات المفاجئة، أخبره أن هذا الوضع ليس خاصًا بموقعه الإلكتروني فقط، بل تعميم على كل المؤسسات، قائلًا له: “لو مش عاجبك تقدر تاخد مغادرة (رحيل)”، هكذا استطرد خالد مختتمًا حديثه “الخليج لم يعد مثل الأول، كل شيء تغير”.
“سأعود إلى بلدي مهما كان الوضع، على الأقل سنعمل ونحيا بكرامة دون تجاوز أو ابتزاز من أحد”، هكذا أجاب مصطفى على سؤال “نون بوست” عن إمكانية عودته لبلاده مرة أخرى بعد سنوات من العمل قضاها في السعودية، مضيفًا أن الضغوط التي يواجهها من الكفيل (صاحب العمل) ما عادت تحتمل، مضيفًا: “أشعر كأنهم يطردودنا من المملكة لكن بشكل غير مباشر”.
وأضاف مصطفى الذي يعمل في إحدى شركات العطور بمنطقة الدمام (شرق المملكة) أنه كان يعمل 8 ساعات يوميًا على دوامين بينهما ساعة راحة، غير أن صاحب العمل أجبره على العمل 10 ساعات وألغى له يوم من يومي الإجازة الرسمية (الجمعة والسبت) وحين اعترض على ذلك فوجئ بكفيله يقلص راتبه بقيمة الثلث، هذا بخلاف المعاملة السيئة التي يواجهها من كل السعوديين الموجودين بالمؤسسة، بعضهم يتهمه بأنه جاء إلى هنا للحصول على أموالهم وإرسالها لبلاده التي لم تقدر الجميل، حسبما أشار، دون أن يدخل في نقاش بشأن تفاصيل هذا الاتهام.
في يوليو الماضي غرد وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في الأردن مثنى غرايبة، معلنًا توافر فرص عمل للشباب الأردني في السعودية بمجال تكنولوجيا المعلومات، وقال: “هناك فرص عمل في مجال البرمجيات للشابات والشباب الأردنيين أصحاب الخبرة، الذين طالموا أظهروا كفاءة وقدرة عظيمة على الإنجاز”.
أثارت تغريدته التي حذفها فيما بعد جدلًا داخل الشارع السعودي، إذ دشَن ناشطون وسمًا بعنوان “وزیر أجنبي یوظف أجانب السعودیة”، وعبروا عن استیائهم من توفیر وظائف للأردنیین دون السعودیین، في حين اعتبر آخرون إعلان توظیف أردنیین في بلادهم تدخلًا في شؤونهم الداخلیة، ویزاحمهم على فرص العمل.
يذكر أنه مع بداية هذا العام بدأ سريان قرارات زيادة الرسوم المفروضة على العمالة الأجنبية ضمن برنامج المقابل المالي للعمالة الوافدة، بواقع 400 ريال شهريًا عن كل عامل وافد، فيما ستدفع العمالة الأقل من أعداد العمالة السعودية 300 ريال شهريًا، كما سيفرض على كل مرافق للعامل 200 ريال شهريًا، في خطوة تهدف لتحصيل 24 مليار ريال (6.4 مليار دولار) في 2018 و44 مليار ريال (11.8 مليار دولار) في 2019 و65 مليار ريال (17.5مليار دولار) بنهاية 2020.
تمثل قيمة تحويلات العاملين بالخارج 12% من إجمالي الدخل القومي الأردني
240 ألف أردني ومصير مجهول
تتصدر السعودية قائمة الدول الأكثر احتضانًا للعمالة الأردنية، إذ يعمل بها ما يقرب من 420 ألف أردني بنسبة تقدر بـ40% من إجمالي أعداد المغتربين الأردنيين خارج بلادهم التي تبلغ مليون مواطن، كما بلغت تحويلاتهم الخارجية نحو 3.3 مليار دولار بنسبة بلغت 12% من إجمالي الدخل القومي الأردني، وهو الرقم الذي يفوق حجم المساعدات التي تصل للأردن من بعض الدول الصديقة.
يعاني الاقتصاد الأردني من أزمة حقيقية خلال الفترة الأخيرة، إذ يترنح تحت وطأة دين عام يبلغ نحو 38.5 مليار دولار تشكل ما نسبته 95.3% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر لعام 2017 بنحو 40.3 مليار دولار مقابل 95.1% من الناتج لعام 2016، فيما سجل عام 2017 قيمة عجز مالي قدره 1.54 مليار دولار مقابل 1.23 مليار دولار خلال عام 2016.
شهد الأردن في غضون الأشهر الأخيرة عودة مئات الأسر الأردنية العاملة بدول الخليج، إذ لا يكاد يمضي يوم إلا ويعود مغترب أردني بصورة نهائية إلى المملكة
انعكست تلك الأوضاع بطبيعتها على سوق العمل، فارتفعت معدلات البطالة بصورة غير مسبوقة، إذ بلغت خلال الربع الثاني من العام الحاليّ 18.7% بارتفاع مقداره 0.7 نقطة مئوية عن الربع الثاني من عام 2017، وحسب تقرير دائرة الإحصاءات العامة بلغ معدل البطالة للذكور خلال فترة القياس 16.6% للذكور مقابل 26.8% للإناث، في ارتفاع لمعدل البطالة للذكور بمقدار 3.2 نقطة مئوية وانخفاضه للإناث بمقدار 7.1 نقطة مئوية مقارنة مع الربع الثاني من عام 2017.
وعليه تصاعدت الاحتجاجات الميدانية جراء هذا التردي الواضح في الأوضاع والأحوال المعيشية والاقتصادية، إذ كشف التقرير السنوي عن الاحتجاجات العمالية في الأردن الذي أعده مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية وبرنامج المرصد العمالي الأردني بالتعاون مع مؤسسة فريدريش إيبرت، وقوع 229 احتجاجًا خلال عام 2017، فيما كانت في 2016 نحو 288، و236 في 2015 بانخفاض ملحوظ عن 2014 وبلغت 474 احتجاجًا.
تزايد معدلات الاحتجاجات العمالية جراء الأوضاع الاقتصادية المتردية
بين الابتزاز والضغوط
التحركات السعودية الأخيرة بحق العمالة الأجنبية تأتي في إطار سياسة إعطاء الأولوية لتوظيف السعوديين في القطاع الخاص، في سياق “رؤية السعودية 2030” التي تهدف إلى تنويع موارد الاقتصاد وعدم الاعتماد على النفط وحده، وهي التحركات التي راح ضحيتها ولا يزال مئات الآلاف من الأسر من مختلف دول العالم.
الإستراتيجيات المتبعة لتنفيذ هذه الرؤية وتعبيد الطريق أمام مواطني المملكة للحصول على الوظائف الملائمة بعدما ارتفعت معدلات البطالة بها إلى أعداد لم تشهدها خلال العقود الأخيرة، التي بلغت 12.8% بحسب آخر مسح للهيئة العامة للإحصاء خلال الربع الثاني من 2017، تعتمد في المقام الأول على وضع العراقيل أمام العمالة الأجنبية ودفعهم للرحيل أو ابتزازهم عبر رسوم إضافية وتضييقات من صاحب العمل.
وشهد الأردن في غضون الأشهر الأخيرة عودة مئات الأسر الأردنية العاملة بدول الخليج، إذ لا يكاد يمضي يوم إلا ويعود مغترب أردني بصورة نهائية إلى المملكة، وهو ما أثار قلق المسؤولين هناك، إذ تجد الحكومة نفسها أمام معضلة الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تعيشها البلاد أصلًا، ما يجعل اقتصادها على المحك حال فقدان هذا المورد الذي يمثل جزءًا ليس بالقليل من الدخل القومي، بخلاف الأعباء الإضافية المتوقعة إن عاد هذا الكم الكبير من العمالة في ظل ارتفاع معدلات البطالة بطبيعتها.
موقف صعب بات فيه الأردنيون العاملون في المملكة، إما القبول بالرسوم الإضافية المفروضة عليهم التي أثقلت كاهل معظم الأسر المقيمة بالسعودية ما دفع أغلب العاملين لترحيل عائلاتهم وذويهم، فضلًا عن تحمل تجاوزات الكفيل والرضوخ لأوامره ونواهيه وإن خالفت مواثيق حقوق العمل التي أقرتها المنظمات الدولية، أو العودة إلى بلادهم حيث الاحتجاجات المستمرة والوضع الاقتصادي المتردي، وبين هذا وذاك يقبع ربع مليون عامل أردني في انتظار مصيرهم المجهول.