تعيش الساحة الفلسطينية حالة غريبة ومستعصية من التيه السياسي، فبعد المؤشرات القوية لاقتراب تحقيق حلم المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وإعلان تهدئة طويلة الأمد مع “إسرائيل” في قطاع غزة لرفع الحصار، عاد التشاؤم والغموض ليسيطرا على الموقف ويتصدران مشهده.
الفلسطينيون عاشوا خلال الفترة التي سبقت عيد الأضحى المبارك، حالة مفرطة من التفاؤل والأمل، وذلك بناءً على التصريحات التي صدرت عن مسؤولين مصريين وفلسطينيين، بأن القادم بعد العيد سيكون أفضل، لكن على أرض الواقع كان عكس ذلك، فكل أحلامهم وآمالهم طارت في الهواء.
“مصالحة فاشلة، تهدئة معلقة، اتهامات، اتصالات وتحركات، وطبول الحرب تقترب”، كلها عناوين باتت ثابتة وتتصدر المواقع الإخبارية والصحف المحلية الفلسطينية، لتعكس حقيقة وطبيعة الوضع الفلسطيني “الهش” الذي يعيش حالة استثنائية، يبدو أنها خرجت عن سيطرة الفلسطينيين وكذلك الدول العربية.
ارتفعت وتيرة التصعيد الإسرائيلي على غزة، بعد أسابيع من الهدوء النسبي خلال مباحثات التهدئة بين المقاومة ودولة الاحتلال برعاية مصرية، فيما عادت البالونات الحارقة للانطلاق من قطاع غزة صوب المدن والبلدات المحتلة المحاذية له
وسبق عيد الأضحى المبارك مباحثات حثيثة أجرتها مصر مع الفصائل بشأن إبرام تهدئة مع “إسرائيل”، على أن تستأنف المباحثات بعد عيد الأضحى وهو الأمر الذي لم يتم، إذ رفضت حركة فتح والسلطة الفلسطينية هذه المباحثات ووضعت تحقيق المصالحة الفلسطينية شرطًا لاستئناف مباحثات التهدئة.
خيارات متاحة
على ضوء تلك الأحداث والمشاحنات الجارية والتهديدات التي تطلق من كل مكان، وخاصة من مصر و”إسرائيل”، تبقى العديد من التساؤلات التي قد تحدد الإجابات عنها الخريطة الفلسطينية، وتكشف ملامح صورتها المبعثرة، ولعل أبرزها: ما الخيارات التي تملكها حركة حماس للتعامل مع الوضع الراهن وحصار غزة الخانق؟ وكيف ستخرج من عنق الزجاجة؟ وهل ستستمر الهبة الشعبية على الحدود وتطلق الطائرات الورقية، أم ستشعل “إسرائيل” فتيل الحرب الرابعة لتُنهي الجدل في ذلك؟
ارتفعت وتيرة التصعيد الإسرائيلي على غزة، بعد أسابيع من الهدوء النسبي خلال مباحثات التهدئة بين المقاومة ودولة الاحتلال برعاية مصرية، فيما عادت البالونات الحارقة للانطلاق من قطاع غزة صوب المدن والبلدات المحتلة المحاذية له، بعد توقف شبه كامل دام خلال الشهر الماضي، في إشارات واضحة لمرور مباحثات التهدئة في طريق ممتلئ بالتعرجات السياسية.
وقد تكون المرحلة الحاليّة هي لتقييم الأوراق ونقاط القوة لدى كل طرف للدخول في مباحثات حقيقية، وهو ما أيده الكاتب والمحلل السياسي وسام عفيفة، مشيرًا إلى أن البُعد الشعبي المرتبط بمسيرات العودة هي الورقة الأبرز والقوة التي من خلالها يمكن أن تتشكل حالة الضغط على كل الأطراف المباشرة كالاحتلال، وغير المباشرة كالسلطة، وتدفع الوسطاء لأن يكونوا أكثر سرعة وجدية.
ولفت إلى أن الحراك لم يكن ليجري لولا المسيرات التي تطورت بأشكال مقاومة مختلفة، كما أن موجات التصعيد العسكري كانت نتاجًا لتعاطي الاحتلال مع المأزق من خلال العنف والقوة المفرطة مع المسيرات.
ويعتبر عفيفة أن حفاظ المقاومة على صمودها ومقدراتها وتحكمها بزمام المبادرة تعد ورقة ضغط وقوة بيد فصائل المقاومة، خاصة أن استثمارها لا يعني بالضرورة استخدامها.
الصواف: عودة إطلاق البالونات الحارقة وعودة الاحتلال للتصعيد العسكري الملحوظ، مؤشران على مرور التهدئة في أفق مسدود
وقد تكون إحدى الخيارات الأخرى التي تملكها غزة في ظل حالة التعنت من السلطة هي الشعور من القوى الوطنية بأن السلطة باتت بعيدة عن أي نبض مرتبط بالشراكة كما حصل أيضًا مع شركاء المنظمة، وهو ما قد يؤدي إلى تشكيل جبهة فلسطينية غير معلنة لتتعاطى مع الحالة الراهنة.
أوراق الضغط
ويذكر عفيفة أن القوى الوطنية في حال باتت قوة ونظمت صفوفها وشكلت حالة وازنة من الممكن أن تكون ورقة ضغط تتعاطى معها الأطراف الوسطية، وتمثل تهديدًا للسلطة وتدفعها لرفع عقوباتها.
“عودة إطلاق البالونات الحارقة وعودة الاحتلال للتصعيد العسكري الملحوظ، مؤشران على مرور التهدئة في أفق مسدود بسبب جهود رئيس السلطة محمود عباس”، يقول المحلل السياسي مصطفى الصواف.
ويضيف الصواف: “منذ اللحظة الأولى من بدء مباحثات التهدئة تعهد عباس بإحباط هذا المشروع لأنه سيؤدي إلى كسر الحصار المفروض على غزة، وسيحبط عقوباته التي فرضها على الأهالي بغزة، والمؤكد أن عباس لا يريد أي انفراجه بغزة إلا من خلاله وعبر سلطته”.
وأوضح أن الدور المصري يتسم بالميول لرغبات حركة فتح ورئيسها عباس في ملفي التهدئة والمصالحة، إذ إن مصر لم تضغط على فتح بالشكل الكافي للقبول بورقتها بشأن المصالحة التي وافقت عليها حماس ورفضتها فتح.
ورأى الصواف أن حماس تسعى الآن لإحداث ضغط كافٍ على الاحتلال لجعله يذهب مجددًا إلى اتفاق يفضي لكسر الحصار المفروض على غزة الذي يحاول عباس إبقاءه بكل ما أوتي من قوة، مضيفًا “في حال نجاح عباس فعلاً بوقف التهدئة ومصر أذعنت إلى ذلك وقبلت به، فإن الأمور ستذهب بشكل أسرع نحو تصعيد عسكري في غزة وسيكون لتداعيات هذا التصعيد نتائج لن تحمد عقباها”.
الخيارات الصعبة
وفي ذات السياق، تحدثت أوساط سياسية بأن تعطيل حركة فتح المصالحة والتهدئة في قطاع غزة وضع حركة حماس في الزاوية وجعلها أمام خيارات صعبة، بل ربما مستحيلة. حيث أن “حماس شرعت أخيرًا في عقد اجتماعات مع الفصائل لاستمزاج رأيها في أفضل السبل والخيارات لمواجهة تعنت عباس ورفضه إنجاز المصالحة والتهدئة التي سعت إليها الحركة مع “إسرائيل”، والمشاريع الإنسانية”.
مصادر: منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ميلادينوف استأنف اتصالاته مع حركة حماس، بعد انقطاع منذ قرابة ثلاثة أسابيع
وأضافت أن الحركة توافقت مع عدد من الفصائل وأهمها حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على أن الخيار الأفضل لكسر الحصار على القطاع هو استمرار الضغط على كل الأطراف، وفي مقدمها “إسرائيل” التي تفرض حصارًا محكمًا على القطاع منذ أكثر من 12 سنة.
وأوضحت أن حماس والفصائل مقتنعة بأن “إسرائيل” تستدعي التدخل الدولي والإقليمي وتهتم بوضع الفلسطينيين، خاصة في القطاع في حال كانت “تحت الضغط”، مشيرة ذات الأوساط الفلسطينية إلى أن حماس والفصائل قررت الاستمرار في تنظيم مسيرات العودة وكسر الحصار، في نشاطات تنظم مركزية كل يوم جمعة، وأخرى ثانوية خلال أيام الأسبوع.
ولفتت إلى أن الحركة والفصائل التي خففت إلى حد كبير إطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة وعمليات “قص السياج” الأمني شرق قطاع غزة ومحاولات اقتحام الحدود وذلك استجابة للجهود المصرية، قررت عودة الأمور، تدريجًا، إلى سابق عهدها.
واعتبرت أن إطلاق البالونات الحارقة وعمليات قص السياج والاقتحام تُبقي “إسرائيل” وجيشها ومؤسستها الأمنية تحت ضغط متواصل لإرغامها على رفع الحصار، وأكدت أن الحركة والفصائل قررت كسر الحصار أيًا يكن الثمن، ولكن من دون أن يجرها ذلك إلى حرب مع “إسرائيل”.
ومع تصاعد تلك الأحداث وقرب اشتعال مواجهة جديدة بغزة بعد انغلاق الأفق السياسي الأخير، عُلِم بحسب مصادر أن منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ميلادينوف استأنف اتصالاته مع حركة حماس، بعد انقطاع منذ قرابة ثلاثة أسابيع. وقالت مصادر مطلعة أن ميلادينوف أكد للحركة استمرار جهوده في الوصول إلى “تهدئة شاملة في قطاع غزة” خصوصًا أن الوساطة المصرية صارت في حكم المتوقعة.
وأضافت المصادر أن عودة الاتصالات بين ميلادينوف وحركة حماس جاءت بعد أن أرسل منسق الأمم المتحدة رسالة إلى قيادة الحركة في غزة يؤكد فيها مواصلة جهوده، وأنه سيعود إلى غزة خلال الأيام المقبلة ومعه مشاريع إنسانية جديدة من المقرر تنفيذها قريبًا، إضافة إلى تفعيل الوساطة بشأن اتفاق شامل للتهدئة.
وبين حالات الحرب واللاحرب والمصالحة واللامصالحة، يبقى المواطن الفلسطيني حائرًا ومتشائمًا من الوضع القائم، ولكنه مجبر على انتظار ما ستقدمه له الأيام القادمة وما تحمله في جعبتها.