في خطوة وصفها البعض بأنها “ضربة موجعة” للدولار، قرر البنك المركزي النيجيري إدراج اليوان الصيني كعملة تجارية ثانية، بعد مفاوضات دامت عامين بين الجانبين كللت بتوقيع اتفاقية نهاية مارس/آذار الماضي بين البنك الصناعي التجاري الصيني والبنك المركزي النيجيري.
القرار النيجيري الذي يأتي في إطار مساعي تنويع الاحتياطي من النقد الأجنبي من المقرر أن يفسح الطريق أمام أبوجا لتحرير 10% من إجمالي 33 مليار من العملة الصعبة باليوان الصيني، إضافة إلى إعطاء المستوردين النيجيريين الضوء الأخضر لعقد صفقاتهم بالعملة الصينية بجانب الدولار واليورو والجنيه الإسترليني.
خطوة كهذه من المؤكد أنها لن تروق لواشنطن التي تشهد علاقاتها مع العديد من دول القارة الإفريقية توترًا خلال الفترة الأخيرة جراء تباين وجهات النظر حيال عدد من الملفات الداخلية، في الوقت الذي يسير فيه قطار التغول الصيني إفريقيًا بسرعات فائقة، الأمر الذي يشي بصراع خفي بين الطرفين يأتي في إطار الحرب الاقتصادية المعلنة بينهما التي كللت بفرض رسوم جمركية جديدة على المنتجات الصينية تدخل حيز التنفيذ هذا الأسبوع، وهو ما لم تقف أمامه بكين مكتوفة الأيدي بالطبع.
أثار هذا القرار العديد من التساؤلات التي تمحورت معظمها في محورين: الأول يتعلق بتداعيات مثل هذه التحركات على العلاقات بين واشنطن ودول القارة، أما الثاني فيذهب إلى احتمالية أن تحذو عدد من دول القارة حذو نيجيريا وتدرج العملة الصينية كعملة ثانية وهو ما ينعكس بالطبع على نفوذ الدولار ليس داخل إفريقيا فحسب بل في سلة العملات العالمية بوجه عام.
الإصلاح النيجيري
جاء اعتماد الريمينبي “RMB” أو ما يعرف بـ”اليوان” كعملة تجارية ثانية في نيجيريا نتيجة جولات متعددة من المفاوضات واللقاءت التي عقدت بين أبوجا وبكين خلال العامين الماضيين، تهدف إلى تفعيل مسيرة الإصلاح الاقتصادي التي أقرتها نيجيريا منذ عدة سنوات تهدف في المقام الأول إلى إعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية عبر تنويع مواردها المتعددة.
محافظ البنك المركزي النيجيري أميدو سنوسى كشف في تصريحات له عزم بلاده خفض 79% من حصة الدولار من احتياطياتها من النقد الأجنبي مقابل زيادة حصتها من الريمينبي، مضيفًا أنه حتى وقت قريب كان الدولار العملة الصعبة المفضلة، لكن في مايو/أيار الماضي ألقى تخفيض تصنيف الديون الأمريكية من “ستاندرد أند بورز” بظلاله على الأسواق وعجل بالقرار النيجيري الذي يقضي بتنويع احتياطاته خارج الدولار.
ورغم هذا القرار وتبعاته المتوقعة سيظل الدولار يمثل الجزء الأكبر من احتياطيات النقد الأجنبي النيجيري، غير أن رقعة استخدام اليوان على حساب تراجع الجنيه الإسترليني واليورو من المتوقع أن تتسع بشكل كبير خلال الأشهر الأولى من دخول القرار حيز التنفيذ، بحسب سنوسي.
التغول الصيني داخل إفريقيا الذي جاء بلا شك على حساب الولايات المتحدة، دفع الأخيرة إلى القلق وهو ما كشفه وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون حين حذر من الأنشطة التجارية للصين في إفريقيا معتبرًا أنها تهدد استقلال دول القارة
اليوان الصيني يتصدر
نجحت العملة الصينية رانمينبى RMB – وتعنى “عملة الشعب” والوحدة الأساسية فيها هي اليوان – منذ إصدارها عام 1949 في فرض نفسها على سلة العملات العالمية حتى باتت واحدة من الـ5 الكبار في سنوات معدودة، قفز خلالها الاقتصاد الصيني قفزات هائلة أفقيًا ورأسيًا.
يحتل الاقتصاد الصيني الآن المرتبة الثانية من حيث حجم الناتج المحلى الإجمالي بعد الاقتصاد الأمريكي، وتضاعف متوسط نصيب الفرد الصيني من الدخل القومي ما يقارب 180 مرة، من 44 دولارًا في عام 1949 إلى نحو 8 آلاف دولار 2015، ورغم تراجع مكانة اليوان في التجارة العالمية فإنه خلال السنوات الـ5 الأخيرة فقط وبفضل سياسات نقدية ومالية واقتصادية مدروسة بشكل جيد، بدأت العملة الصينية تأخذ مكانتها، ومع ازدياد حجم تجارة الصين لتصل نحو 12% من التجارة العالمية بدأت المدفوعات باليوان الآن تظهر على السطح لتكون نحو 3% من مدفوعات التجارة العالمية.
في ديسمبر 2015 اعترف صندوق النقد الدولي بأن اليوان استوفى كل الشروط ليكون ضمن العملات المرجعية المعتمدة في الصندوق، وتم ضمه إلى الدولار الأمريكي واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني في سلة عملات حقوق السحب الخاصة (SDR)، وهو إنجاز ساهم كثيرًا فيما بعد بمزاحمة الدولة الآسيوية العظمى للقطب العالمي الأوحد – الولايات المتحدة – في العديد من حلبات الصراع والنفوذ، خاصة داخل إفريقيا والشرق الأوسط.
وبفضل السياسات الاقتصادية القوية لبكين، نجحت في تشكيل تحالفات اقتصادية محورية مع العديد من القوى والكيانات في مختلف دول العالم، دفعتها لأن تتعامل بعملتها المحلية، فها هي ألمانيا – على سبيل المثال – وعلى لسان عضو مجلس إدارة البنك المركزي بها أندرياس دومبرت، تقرر ضم العملة الصينية إلى احتياطياتها من النقد الأجنبي.
وفي يونيو 2017 حول البنك المركزي الأوروبي دولارات من احتياطيه بقيمة 500 مليون يورو إلى اليوان، نظرًا لزيادة استخدام العملة الصينية وأهمية الصين كأحد أكبر الشركاء التجاريين لمنطقة اليورو.
كما أعلنت هيئة قناة السويس المصرية اعتماد اليوان الصيني كعملة رسمية للتداول وقبوله في دفع رسوم عبور السفن والحاويات في القناة، بعد سلسلة من المفاوضات بين القاهرة وبكين كللت بالتعامل التجاري بين البلدين بالعملات المحلية، في محاولة لتقليص نفوذ الدولار الأمريكي.
الصين تتعهد باستثمارات تقدر بـ60 مليار لإفريقيا خلال السنوات القادمة
تنافس أمريكي صيني إفريقيًا
استطاعت الصين بفضل توجهاتها الاستثمارية حيال القارة الإفريقية أن تعيد تشكيل خريطة الاستثمار العالمية من جديد، خاصة بعد إعلانها مؤخرًا ضخ استثمارات تصل إلى نحو تريليون دولار في الأسواق الخارجية، حيث ستحظى منطقة الشرق الأوسط بربع تلك الاستثمارات بحلول 2020.
وتشير التقديرات إلى حصول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على 294 مليار دولار، فيما تستحوذ بقية دول القارة على 154 مليار دولار، وفق الدراسة التي أعدتها لجنة تنمية العلاقات مع الصين في جمعية رجال الأعمال المصريين، هذا بالتزامن مع مبادرات إحياء مشروع طريق الحرير الخاص بالتجارة الصينية الذي يستهدف زيادة التجارة مع دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية.
العديد من الدوافع ساهمت في نجاح التحركات الصينية داخل القارة الإفريقية التي وصفها البعض بأنها “غزو جديد”، على رأسها تراجع الدور الأمريكي هناك بعد عقود طويلة من السيطرة وبسط النفوذ، إما لخلافات نشبت مع بعض الدول وعلى إثرها قررت واشنطن اتخاذ سياسات عدائية ضدها ما تسبب في تعميق الكراهية للوجود الأمريكي بها، فضلًا عن التدخلات في شؤون تلك الدول وإثارة القلاقل بها، أو لسحب الولايات المتحدة حزمة كبيرة من استثماراتها لحساب أجندات أخرى معظمها داخلية، في الوقت الذي حلت فيه بكين كبديل قوي ومنافس لواشنطن.
التغول الصيني داخل إفريقيا الذي جاء بلا شك على حساب الولايات المتحدة، دفع الأخيرة إلى القلق وهو ما كشف عنه وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون حين حذر من الأنشطة التجارية للصين في إفريقيا معتبرًا أنها تهدد استقلال دول القارة.
تيلرسون في خطاب ألقاه بجامعة جورج ماسون في واشنطن غداة جولة إفريقية شملت 5 دول فبراير الماضي، قال إن الاستثمارات الصينية مهمة لتنمية إفريقيا وتعزيز بنيتها التحتية، لكن ذلك دفع إفريقيا إلى هاوية الديون بدرجة رهيبة، لافتًا إلى أن التحركات الصينية تهدد استقلال دول إفريقيا وتحض على تبعيتها لبكين، وتابع “خلال هذه الفترة قدموا ديونًا ملغمة وقاموا بالفساد ودخلوا في اتصالات خطيرة”.
الوزير أراد أن يبعث برسالة طمأنة إلى دول إفريقيا معربًا فيها عن تصاعد حجم التبادل التجاري بين الطرفين عامًا بعد عام، حيث ارتفع من 33 مليار دولار في 2016 إلى 39 مليار دولار 2017، وأوضح أن بلاده ستقدم مساعدات إنسانية إلى القارة بنحو 533 مليون دولار، داعيًا الدول الإفريقية إلى دراسة شروط الاستثمارات الصينية، معتبرًا نموذج الاستثمار الصيني لا يفضي إلى الكثير من الفرص.
في مايو الماضي، عقدت 14 دولة إفريقية من بينها أنغولا وبوتسوانا وليسوتو وناميبيا ورواندا وزامبيا اجتماعًا في هراري (عاصمة زيمبابوي) لدراسة إمكانية توسيع احتياطياتها لتشمل عملة الصين
وفي المقابل جاء الرد الصيني في مجمله أكثر ندية، إذ أكد غانغ شوانغ المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية أن بلاده يحدوها الأمل في أن تبذل الدول الأخرى جهودًا أكبر تصب في صالح تنمية إفريقيا، وأن تتعاطى مع التعاون الصيني الإفريقي بطريقة عادلة وموضوعية.
وفيما يتعلق بالاتهامات الأمريكية بأن القروض الضئيلة الفائدة التي تقدمها الصين ودول أخرى أثقلت كاهل بعض دول إفريقيا بالديون، أشار أن هذه التصريحات عارية تمامًا من الصحة، مضيفًا “دين بعض الدول الإفريقية نتيجة تراكم طويل الأمد وليس حديث الظهور، والصين ليست المقرض الرئيسي للدول الإفريقية”، وفق ما أوردت وكالة شينخوا الصينية، وتابع المسؤول الصيني “بذلنا قصارى جهدنا لتجنب إثقال كاهل إفريقيا بالدين”.
كما استعرض الدور التنموي لبكين داخل القارة، حيث شيدت الشركات الصينية الكثير من الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية والموانئ والمطارات ومرافق الاتصالات، ما ساهم بشكل كبير في تحسين بيئة التنمية الاقتصادية لإفريقيا وساعدها على جذب الاستثمارات الأجنبية، وكانت الصين أعلنت مؤخرًا تخصيص 124 مليار دولار لخطة طريق الحرير لتعزيز الروابط بين آسيا وإفريقيا وأوروبا ومناطق أخرى.
وفي “المنتدى السابع حول التعاون الصيني – الإفريقي” الذي عقد في بكين بداية سبتمبر/أيلول الحاليّ، تعهد الرئيس الصيني بتقديم نحو 60 مليار دولار لتمويل مشاريع تنمية في إفريقيا في السنوات الـ3 المقبلة، من بينها خطوط قروض بقيمة 20 مليار دولار وصندوقان مخصصان للتنمية وتمويل واردات السلع الإفريقية تناهز قيمتهما 15 مليار دولار.
الرئيس الصيني خلال زيارته للسنغال يوليو الماضي
هل تحذو دول إفريقيا حذو نيجيريا؟
من الواضح أن إدراج نيجيريا للعملة الصينية كعملة ثانية لها في تعاملاتها التجارية لن تكون الحالة الوحيدة في عمق إفريقيا، إذ من المرجح أن تنتهج بعض الدول الأخرى هذا النهج خلال الفترة القادمة في ظل تنامي النفوذ الاستثماري الصيني داخل القارة خلال السنوات الأخيرة.
وتشهد أفريقيا حاليًّا ازدهارًا في مشروعات البنية الأساسية التي تديرها وتمولها الصين بشكل رخيص كجزء من مبادرة الحزام والطريق للرئيس الصيني لبناء شبكة نقل تربط الصين برًا وبحرًا بجنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا، هذا بخلاف تعزيز بكين لعلاقاتها مع مختلف دول القارة التي تجسدت في جولات مكوكية من الزيارات التبادلية بين الطرفين، آخرها زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ للسنغال يوليو/تموز الماضي
زيارة بينغ للسنغال (غرب إفريقيا) رغم أنها الرابعة له خلال فترة ولايته فإنه أكد خلالها حيوية ما وصلت إليه العلاقات مع دول القارة، مضيفًا “في كل مرة أزور فيها إفريقيا أرى حيوية القارة وطموحات شعوبها من أجل التنمية”، وتابع “إنني واثق تمامًا من مستقبل العلاقات الصينية الإفريقية”.
في مايو/أيار الماضي عقدت 14 دولة إفريقية من بينها أنجولا وبوتسوانا وليسوتو وناميبيا ورواندا وزامبيا اجتماعًا في هراري (عاصمة زيمبابوي) لدراسة إمكانية توسيع احتياطياتها لتشمل عملة الصين التي أصبحت الشريك التجاري الذي يمتلك المزيد من حصة السوق في إفريقيا.
وفي المجمل من الواضح أن القارة الإفريقية ستصبح خلال الفترة القادمة ساحة صراع شرسة للحرب الاقتصادية المعلنة بين أمريكا والصين، ورغم النفوذ الأمريكي الممتد طيلة العقود الماضية، فإن بكين نجحت خلال السنوات الأخيرة في تقديم نفسها كبديل قوي قادر على تعويض دول القارة عن الدور الأمريكي الذي بدأ يفقد نفوذه يومًا تلو الآخر.