قد ينظر كثيرون للأفلام على أنها وسيلةً للترفيه والتسلية وقضاء بعضِ من الوقت في دور السينما مع الأصدقاء، ونغفل كثيرًا على أنها تمتلك قدرةً عالية على تحريك العواطف والمشاعر، إذ تجعلنا بعضها نبكي أو نحزن، وغيرها تمدّنا بالسعادة والفرح، وأخرى تُشعرنا بالخوف والشفقة، الأمر الذي يجعلنا نتساءل بحقّ عن دور السينما في حياتنا كأفراد، بعيدًا عن الجانب الفنّي لها.
وعوضًا عن أنّ السينما والمسلسلات التلفزيونية تساعدنا أكثر في فهم الآخرين من حولنا وأنفسنا وعواطفنا وأفكارنا ولحظاتنا المفصلية في الحياة ومحاولاتنا وتساؤلاتنا وبحثنا عن المعنى والمغزى من الموجود، يمكننا القول أيضًا أنها تعمل كوسيلةٍ للتنفيس أو التطهير النفسي بطريقةٍ مشابهة للطريقة التي كان ينظر بها أرسطو للمسارح والتراجيديا.
إذ آمن أرسطو منذ قرون عديدة أنّ التراجيديا المسرحية تعمل على مداواة وتطهير النفس البشرية من النوازع الشريرة المكبوتة من خلال إثارة الخوف والشفقة في نفوس المشاهدين. ومن هنا، تُعتبر التراجيديا أو المأساة وسيلةً لعلاج الإنسان، بطريقةٍ لا شعورية أو لا واعية، من كل الانفعالات العدائية والغرائز المكبوتة وتحريرها من الشر وتوجيهها نحو الخير وخدمة الصالح العام في المجتمع.
آمن أرسطو أنّ التراجيديا المسرحية تعمل على مداواة وتطهير النفس البشرية من النوازع الشريرة المكبوتة من خلال إثارة الخوف والشفقة في نفوس المشاهدين.
استخدم أرسطو مصطلح “Catharsis“\تطهير لوصف فكرته تلك. وقد طرحه بمعنى الانفعال الذي يحرّر الفرد من المشاعر الضارّة كالشفقة والخوف والغضب. فمشاهد الحزن والغضب والعنف تعمل على تنقية الشحنات الغاضبة والمشاعر الخائفة داخل نفوس المشاهدين، الأمر الذي يساعدهم على التحرّر من جزءٍ من تلك المشاعر الكامنة وتحرير بعض الرغبات الحقيقية.
وقد اقترح أرسطو أنّ مشاهدة العروض المسرحية التراجيدية تلعب دورًا مهمًا في خلق هزات داخلية عند الفرد وإرشاده للمعرفة الذاتية، فرؤية بطل المسرحية وهو يخطئ ويعاني نتائج خطئه يمكن لها أن تحفّز الخوف والرثاء عند المشاهدين، وتتركهم مع أسئلة حقيقية عن النفس والضمير والأخلاق والدين والمجتمع وغيرها الكثير الكثير.
تسعى الأفلام بموضوعاتها المختلفة إلى استخراج المشاعر الكامنة في النفس من خلال عدة أبطال يقومون بتأدية العديد من الأدوار المختلفة التي تتشابه مع حياتنا اليومية
سيغموند فرويد من جهته، اعتبر أنّ كتم تلك المشاعر سيؤدي ذات لحظةٍ إلى انفجارها بشكلٍ عنيف، ولذلك كان مفهوم التنفيس أو التطهير جزءًا محوريًا وأساسيًا في نظرياته في التحليل النفسيّ، من باب أنّ التعبير عن المشاعر الحزينة أو الغاضبة، التي تمّ قمعها أو نسيانها، سيؤدي إلى التخفيف من أعراض المرض أو الاضطراب النفسيّ الذي قد يُصيب الفرد.
يمكن النظر للأفلام بنفس طريقة النظر للمسرح من جهة، ولفكرة التنفيس في التحليل النفسيّ من جهةٍ أخرى. إذ تسعى الأفلام بموضوعاتها المختلفة إلى استخراج المشاعر الكامنة في النفس من خلال عدة أبطال يقومون بتأدية العديد من الأدوار المختلفة التي تتشابه مع حياتنا اليومية وتتقاطع معها بقدرٍ كبير.
تعمل الأفلام الحزينة على مواجهة مشاعرنا في بيئة آمنة ومحمية ما يساعدنا على التعامل معها بطريقةٍ أوعى
ووفقًا لبيرجيت ولز، خبيرة نفسية ومعالِجة بالسينما ومؤلفة كتاب “دليل للمساعدة الذاتية لاستخدام الأفلام في الشفاء والنمو“، فإنّ الأفلام الحزينة على سبيل المثال تساعدنا على التصدّي لمشاعرنا المكبوتة ومواجهتها في بيئةٍ آمنة ومحمية، خاصة وأنّنا نتفاعل مع تجارب أبطال الأفلام بمنظورٍ من خارج التجربة، أي من وجهةِ نظرِ المراقب. وعلى أنّ تلك التجارب قد تكون شبيهةً إلى حدٍ ما بتجاربنا الشخصية، فإنّنا حينما نشاهدها بدور المراقِب نستطيع تحييد مشاعرنا بشكلٍ أفضل والتعامل معها بطريقةٍ أوعى.
وبالتالي، يمكن للأفلام أنْ تلمس مشاعرنا وعواطفنا المكبوتة التي عادةً لا نستطيع الوصول إليها، لا سيّما مشاعر الحزن والبكاء، ووفقًا للعديد من الخبراء النفسيّين، فتلك المشاعر التي نجرّبها أثناء مشاهدتنا للأفلام هي نوع من أنواع الشفاء. ومن هنا، اهتمّ عدد من المعالجين النفسيين بالسينما والأفلام كنوعٍ علاجيّ.
أصبحت السينما الشكل الفنّي الوحيد الذي يمكّن من إنشاء روابط سهلة وسريعة مع المتفرّج ويحفّزه للشعور بالتعاطف تجاه شخصيات الأفلام وأبطالها
إذ أنّ المعالجِ عادةً ما يستخدم المجاز والرموز والخيال والأحلام لتفسير الأفكار والمشاعر والانفعالات عند المريض، والأفلام قادرةً تمام القدرة على الجمع بين كلّ تلك الأساليب. ففي كتابها “شريط الطاقة: النموّ الروحي عبر الأفلام“، ناقشت مارشا سينيتار كيف يمكن للمعالِج أنْ يختار أفلامًا معيّنة يمكن للمريض مشاهدتها بعد أنْ يقدّم له المعالِج عدة تلميحات لكيفية المشاهدة الواعية، ويتّفق معه حول عددٍ من الأسئلة المبدئية المهمّة التي قد تساعده أكثر في عملية التطهير أو التنفيس لاحقًا.
وفي العصر الحديث، أصبحت السينما الشكل الفنّي الوحيد الذي يمكّن من إنشاء روابط سهلة وسريعة مع المتفرّج ويحفّزه للشعور بالتعاطف تجاه شخصيات الأفلام وأبطالها. ومن خلال تلك الروابط، يمكن للمشاهِد أنْ يربط قضاياهم بقضاياه، ومشاكلهم بمشاكله، وقلقهم بقلقه، ما يساعده أكثر على الخروج بكلّ ما هو مكبوتٌ إلى السطح للتفكير به بشكلٍ أوعى وأكثر قدرةٍ على التحليل.
وبفضل التنوّع الكبير للأفلام، يمكننا كأفراد أنْ نجدَ الفيلم المثاليّ لكلّ موقف، فتارةً ما تجد في فيلمٍ ما وسيلةً لتطهير مشاعر غضبك من شريكك، أو للغوص في مشاعر خوفك من المستقبل، أو لتحليل مشاعر حزنك وكآبتك. ولا يتوقف الأمر على القضايا المحزنة والمقلقة فقط، بل يمكنك الاستعانة دومًا بالأفلام للتعامل مع أيّ نوعٍ من العواطف والمشاعر على اختلافها. ومن خلال كلّ ذلك، تعمل أدمغتنا على استكشاف تجاربنا الحياتية أكثر وأكثر وتساعدنا على خلق هزاتٍ داخلية قد تؤدي إلى المعرفة الذاتية تمامًا كما نظر أرسطو إلى المسرح والتراجيديا.