سبق ظهور الأمم المتحدة النكبة الفلسطينية بأعوام قليلة، فشهدت المنظمة الأممية بداية النكبة، وواكبت كل مراحلها وكان لها أقوال متعددة فيها، حتى أن البعض ذهب باتجاه أن المنظمة الدولية خلقت النكبة ثم تباكت عليها.
أيًا كان الرأي في المنظمة ودورها بالمأساة الفلسطينية حتى يومنا الحاضر، تواظب الأمم المتحدة على مناقشة القضية وإصدار القرار تلو القرار في حيثياتها، مثيرة جدلًا لا ينتهي حول أهمية وأثر تلك القرارات.
ففي الحلقة الأخيرة لهذا المسلسل الممتد، صوتت الجمعية العامة يوم الأربعاء 18 سبتمبر/ أيلول على قرار يراه كثير من مناصري القضية الفلسطينية تاريخيًا في لحظة مفصلية للقضية على المستوى العالمي. فقد طالب القرار غير المسبوق في مداه ولغته، “إسرائيل” بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 1967 ضمن جملة طلبات أخرى.
القرار الذي حصل على أغلبية أصوات 124 دولة من أصل 193 ومعارضة 14 وامتناع 43 دولة عن التصويت، يأتي في وقت تشهد فيه القضية الفلسطينية فورة في العمل الحقوقي الدولي والوطني، ونشاطًا لافتًا لوقف المقتلة المستمرة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر المنصرم، والتي تكاد تكمل سنتها الأولى فيما وُصف بحرب إبادة جماعية هي الأفظع في التاريخ المعاصر.
فما هي حيثيات القرار؟ وما إمكانية تطبيقها؟ وهل هي المرة الأولى التي تصدر الجمعية العامة قرارًا حول مسألة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية؟ وهل هناك سوابق تاريخية مشابهة أثمرت فيها جهود الجمعية العامة والأمم المتحدة ككل على المستوى الدولي؟ يلقي هذا المقال الضوء على هذه الاسئلة وغيرها.
القول الفصل للمحكمة
يتكئ قرار الجمعية العامة الأخير على الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في 19 يوليو/ تموز الماضي، والذي أحالته الجمعية العامة للمحكمة نهاية العام 2022 للإجابة عن أسئلة محددة بشأن مشروعية الاحتلال الإسرائيلي طويل الأمد للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، وهي أراضي الضفة الغربية بما يشمل الجزء الشرقي من القدس وأراضي قطاع غزة.
وأيضًا مدى تأثير التجاوزات الإسرائيلية المستمرة على حق الفلسطينيين بتقرير المصير، نتيجة احتلالها العسكري وتوسع نشاطها الاستيطاني وضمّ الأراضي غير المشروع وتبني قوانين تمييز عرقية تصل مصافّ الفصل العنصري، إضافة إلى اتخاذ سلسلة إجراءات تهدف إلى تغيير التركيب الديموغرافي والهوية والصفة الدولية لمدينة القدس.
عادت المحكمة، التي ما زالت تنظر حتى اللحظة في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” بتهمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، برأي استشاري غير ملزم بطبيعته تعلن فيه عدم مشروعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، ووقوعها تحت مسؤولية إنهاء وجودها العسكري في الأراضي المحتلة.
كما تطرّق القرار إلى ضرورة وقف النشاط الاستيطاني فورًا وتفكيك المستوطنات القائمة فعليًا على الأراضي المحتلة، مع تقديم تعويض مناسب لكل الأشخاص الطبيعيين والشخصيات المعنوية المتضررة من الاحتلال والنشاط الاستيطاني في الأراضي المعنية.
من ناحية أخرى، تطرّق رأي المحكمة إلى التزام الدول الأخرى أعضاء المجتمع الدولي بالتماشي مع الرأي الاستشاري، وعدم تقديم أي عون أو مساعدة من شأنها إدامة واستمرار الاحتلال الإسرائيلي ونشاطه غير المشروع في الأرض المحتلة، إضافة إلى تطرقه لمسؤولية الأمم المتحدة وأجهرتها المختلفة، خاصة الجمعية العامة التي طلبت من مجلس الأمن تكريم الرأي وتبنيه والعمل على تنفيذ بنوده.
وعليه تبنّت الجمعية العامة قرارها الحالي استجابة لطلب المحكمة، والتزامًا بمسؤوليتها الدولية في ظل القانون الدولي الذي تعمل بموجبه، حيث استدعت عددًا من المبادئ الرئيسية لهذا القانون، خاصة تلك التي وردت في ميثاق الأمم المتحدة، وعلى رأسها حق الشعوب بتقرير المصير وعدم مشروعية الاستيلاء على الأراضي بالقوة.
طالب القرار الذي أيّدته أغلبية دول الجمعية العامة بينما عارضته “إسرائيل” والولايات المتحدة و12 دولة أخرى مؤيدة تاريخيًا للكيان الصهيوني، “إسرائيل” بإنهاء وجودها العسكري في الأراضي المحتلة، والانسحاب منها خلال سقف زمني لا يتجاوز الـ 12 شهرًا من تاريخ صدور قرار الجمعية العامة.
كما تطرق القرار لتفاصيل متصلة بالاحتلال مثل النشاط الاستيطاني والحملة العسكرية في قطاع غزة، وجدار الفصل العنصري، وضمّ مدينة القدس والتشريعات التمييزية ضد الفلسطينيين، مطالبة “إسرائيل” بإنهاء كافة هذه المظاهر وعكس أثر الواقع منها، وتعويض الفلسطينيين عن كافة الآثار المترتبة عنها. لكن، هل يعدّ هذا القرار تاريخيًا بتفاصيله الحالية وغير مسبوق حقًّا؟ وكيف يتقاطع مع سابقاته وبمَ يختلف عنها؟
قرار تاريخي أم قرار من التاريخ؟
يحمل القرار امتيازًا على سابقاته من قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، من حيث اتساع مداه وتعدد مواضيعه ووضوح لغته ومباشرتها من جهة، وحساسية اللحظة التاريخية التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني في ظل حرب الإبادة السائرة على قدم وساق في قطاع غزة والضفة الغربية، والتي تهدف إلى تصفية وجوده من جهة أخرى.
غير أن القرار ليس منقطع النظير على المستوى الفلسطيني، فمنذ استيلاء “إسرائيل” على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد حرب عام 1967 وإعلانها إقامة نظام عسكري فيها، وأجهزة الأمم المتحدة، خاصة الجمعية العامة ومجلس الأمن، تحتفظ ببند شبه دائم على أجنداتها بخصوص الأراضي المحتلة.
منذ عام 1967 أصدرت الجمعية العامة وحدها ما يقارب الـ 150 قرارًا يتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بالاحتلال الإسرائيلي وتهويماته المختلفة، بينما أصدر مجلس الأمن ما يقارب 30 قرارًا مشابهًا، حيث ركزت القرارات الأممية على عدم مشروعية الاحتلال ولا ما نتج عنه من عمليات استيطانية وتهويدية لمدينة القدس وتفرقة عنصرية في الأراضي المحتلة، وما قرار 242 لعام 1967 الصادر عن مجلس الأمن إلا فاتحة لسيل قرارات مشابهة تالية كلها تطالب “إسرائيل” بالانسحاب من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والجزء الشرقي من القدس المحتلة.
من الجدير ذكره أن الجمعية العامة تطرقت إلى نطاق زمني ومكاني معيّن، وهو أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية فقط ومنذ عام 1967، ما يعني مثلًا أن الإشارة إلى عودة اللاجئين لا تشمل من تم تهجيرهم بين عامي 1948 و1967، رغم أن هؤلاء مشمولون بقرارات أخرى للأمم المتحدة وعلى رأسها قرار 194 للجمعية العامة.
لكن على العكس من ذلك، ألمح القرار في طياته إلى أن إنهاء احتلال 1967 قد يشكّل حلًّا عادلًا للقضية الفلسطينية، وينهي صراعًا دام عقودًا في الشرق الأوسط حتى تعيش كل من “إسرائيل” وجيرانها العرب في وئام ووفاق.
أما الممارسة الإسرائيلية الفعلية للسيادة على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة فقد ظلت لعقود محل انتقاد الأمم المتحدة، بصفتها تشكّل انتهاكًا مباشرًا لميثاق الأمم المتحدة وكافة القواعد الدولية التي تحرّم ضمّ الأراضي واستخدام القوة في سبيل ذلك.
تربّع في مركز هذا الانتقاد ضمّ أراضي الجزء الشرقي من القدس وإعلانها مع توأمها الغربي عاصمة موحّدة وأبدية لـ”إسرائيل”، وما انطوى عليه هذا الإعلان من إجراءات كان من شأنها تغيير التكوين الديموغرافي والجغرافي للمدينة المقدسة وما حولها.
كان أولى هذه القرارات قرار الجمعية العامة 2253 لعام 1967، والذي ينهى “إسرائيل” عن تغيير وضع مدينة القدس بأي صورة كانت، و قرار مجلس الأمن 252 لعام 1968 الذي أدان الإجراءات الإسرائيلية لتغيير طبيعة وصفة مدينة القدس كمدينة ذات نظام دولي محمي، لتتوالى بعدها القرارات المشابهة من كل من مجلس الأمن والجمعية العامة.
كذلك حازت قضية التشريعات الإسرائيلية التمييزية المطبّقة على الأراضي المحتلة وما جرّته من تضييق على معيشة الفلسطينيين واستغلالهم لمواردهم وحرية تنقلهم وحقوقهم الأساسية على أرضهم، على اهتمام أجهزة الأمم المتحدة المختلفة، حتى أمست في مخيال العالم قضية فاقت التمييز العرقي باتجاه جريمة الفصل العنصري سيّئة السمعة.
فمنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، والجمعية العامة ومجلس الأمن يصدران قرارات تدين الإجراءات والقوانين والتشريعات والأنظمة التمييزية التي تتبنّاها “إسرائيل” في الأراضي المحتلة، وما قرارات 3525 لعام 1975 و123/37 لعام 1982 و292/58 لعام 2004 و19/67 لعام 2012 الصادرة عن الجمعية العامة إلا أمثلة على هذا النوع من القرارات.
كما أن مسألة الإستيطان التي تشكّل عصب الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي المحتلة في الضفة الغربية ليست مسألة مستحدثة في أروقة الأمم المتحدة، فقد شغلت المعضلة، التي تشكّل انتهاكًا جسيمًا لقواعد القانون الدولي وجريمة حرب متفق عليها، الجمعية العامة ومجلس الأمن لعقود من الزمان.
تواترت قرارات الجهازَين الرئيسيَّين للأمم المتحدة على المطالبة بوقف النشاط الاستيطاني وإزالة ما تم منه، مع إعادة الأراضي الفلسطينية المصادرة والتعويض عن أية أضرار لحقت بالفلسطينيين جرّاء النشاط الاستيطاني على أراضيهم.
فمنذ سبعينيات القرن الماضي ومسألة الاستيطان تلقى تنديدًا وإدانة أممية لا لبس فيها، بدءًا بقرار 446 لعام 1979 الصادر عن مجلس الأمن وليس انتهاءً بقرار 2334 لعام 2016 والذي صدر أيضًا بصبغة إلزامية من مجلس الامن، ولم تلقَ هذه القرارات آذانًا صاغية لا من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ولا من الدول أعضاء المجتمع الدولي التي تموّل وتدعم المشاريع الاستيطانية بشكل غير مباشر ومن تحت الطاولة.
مسألة الدولة الفلسطينية المستقلة وحق شعبها بتقرير المصير ليست مسألة جديدة هي الأخرى، فمنذ سبعينيات القرن الماضي وفي فورة حركات التحرر وحصول المستعمرات الأوروبية على استقلالها، والجمعية العامة تؤكد على حق الفلسطينيين بحق تقرير المصير، بل بدولة مستقلة ذات سيادة.
وما قرار 3376 لعام 1975 المشكّل للجنة الأمم المتحدة لتقرير المصير للفلسطينيين، وقرار 43/177 لعام 1988 الذي يعترف بإعلان الاستقلال الفلسطيني وحق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة، إلا غيض من فيض من قرارات الجمعية العامة في هذا السياق.
غير أن القرار الأخير للجمعية العامة تجاوز حدود مئات القرارات السابقة التي تلت احتلال 1967، وجاء شاملًا في موضوعاته وواضحًا في لغته ومحددًا للسقف الزمني الذي ينبغي لـ”إسرائيل” الالتزام به لتنفيذ بنود القرار، بخلاف سابقاته من القرارات المطلقة التوقيت ذات الموضوعات المحددة واللغة الضبابية.
أضف إلى ما سبق استناد القرار للقول الفصل لمحكمة العدل الدولية، والتي تعدّ أعلى هيئة قضائية عالمية، وتملك سلطة أدبية واعتبارية على الدول أعضاء المجتمع الدولي. فما هي نقاط تميزه عن سابقاته؟
ضوء في نهاية النفق
كان قرار الجمعية العامة الأخير واضحًا في اتكائه على حق الشعب الفلسطيني، لا بالوجود وحسب في ظل محاولات إسرائيلية-أمريكية-غربية لمحوه تمامًا، لكن أيضًا حقه في تقرير مصيره وممارسة حقوقه المشروعة على أرضه رأسًا برأس مع بقية شعوب العالم.
كما كان دقيقًا في توصيفه للاحتلال الإسرائيلي كـ”فعل خاطئ ذي طبيعة ممتدة ومستمرة”، يستدعي مسؤولية “إسرائيل” عن تفكيكه بشكل عاجل والتعويض عن الأضرار التي تسبّب فيها، الأمر الذي ينقض ادعاءً غربيًا بمحافظة الاحتلال الإسرائيلي على نوع من أنواع المشروعية، اتكاءً على مبدأ الضرورة الأمنية التي تبرر فيها بعض أدوات القانون الدولي حالات الاحتلال، وما يرافقها من تضييق على حريات وحقوق الشعب الواقع تحت الاحتلال.
كما تجاوز القرار بلا هوادة الحجج الإسرائيلية الواهية بضبابية لغة القرارات السابقة، وعلى رأسها 242 لعام 1967 الداعي للانسحاب من الأراضي المحتلة، في محاولة للتمسك بشرعية نظامها العسكري ونشاطها الاستيطاني كونها تشكل جزءًا من مفاوضات الحل الدائم، حيث تمّ التحايل ولو مؤقتًا على وضعها القانوني باتفاقية أوسلو لدى تقسيم الأراضي إلى “أ” و”ب” و”ج” بموافقة السلطة الفلسطينية (منظمة التحرير) حينها.
أشار القرار كذلك بإصبع الاتهام إلى “إسرائيل” بمحاولة قضم أراضي قطاع غزة أثناء المقتلة الفظيعة المستمرة منذ السابع من أكتوبر المنصرم، بحجة إقامة مناطق أمنية عازلة، كتلك الحجة المستخدمة في بناء جدار الفصل العنصري، الذي أكد القرار أيضًا على ضرورة تفكيكه في أراضي الضفة الغربية بصفة عاجلة لا تتخطى السقف الزمني المحدد للقرار.
وأمرها بضرورة سحب قواتها العسكرية البرية والجوية والبحرية من الأراضي المحتلة، بما فيها قطاع غزة، أي إنهاء حرب الإبادة الشعواء عليها بوصفها أرضًا محتلة، كما رُبط القرار بالقضية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، مطالبًا “إسرائيل” بالامتثال للميثاق الدولي لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية وحماية الفلسطينيين من الوقوع ضحايا لهذه الجريمة المروعة.
كما تضمن القرار قسمًا كاملًا لمسؤولية الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة للعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة، وتوفير التقنيات والآليات الضرورية لتعويض الفلسطينيين عن الأضرار اللاحقة بهم نتيجة الاحتلال طويل الأمد الذي تعرضوا له، إضافة إلى التفصيل في مسؤولية الدول أعضاء المجتمع الدولي بهذا الخصوص، وهذا ما يجعل من القرار قابلًا للتطبيق ولا يسبح في الفراغ مثل معظم القرارات السابقة. فكيف ذلك؟ وما هي طبيعة المسؤولية المحددة للمجتمع الدولي ومنظماته بالخصوص؟
طريق الـ 1000 ميل
لا تصدر الجمعية العامة قرارات ذات طبيعة ملزمة، فقراراتها أدبية وتعبّر عن الضمير الجمعي للدول أعضاء المجتمع الدولي، أكثر منها قرارات يستدعي عدم تطبيقها عاقبة من نوع ما كالأصل في قرارات مجلس الأمن، غير أن أجهزة الأمم المتحدة بصورة عامة، حتى مجلس الأمن ذي الطبيعة الملزمة في قراراته، بوصفها منصاعة للقانون الدولي، تفتقر لأدوات التنفيذ ذات الطبيعة المستقلة.
ولا يخفى على أحد أن القانون الدولي لا يملك مخالب ذاتية، إذ ليس هناك قوة شرطية قادرة على تنفيذ القرارات والقوانين الدولية بصورة مشابهة لتلك التي تصدر عن المشرعين والمحاكم الوطنية، والقانون الدولي يعتمد بصورة كلية على إرادة الدول الأعضاء بتنفيذ قراراته وقواعده، الإرادة المنذورة للسياسة والدبلوماسية ومصالح الدول.
عانت القضية الفلسطينية أكثر من سواها من هذه النقيصة في القانون الدولي، حيث أثبت المشروع الصهيوني أساسيته وأهميته في النظام العالمي الغربي المركز، ولم يتم حتى اللحظة تنفيذ أي من قرارات الأمم المتحدة التي تجاوزت الـ 200 حول القضية الفلسطينية.
وحتى ما يدّعيه الغرب من تنفيذ جزئي لقرارات مثل 242 لعام 1967 المطالب “إسرائيل” بالانسحاب من الأراضي المحتلة، حيث انسحبت الأخيرة من سيناء عام 1982 وقطاع غزة عام 2005، لم يأتِ تنفيذًا للقرار نفسه، حيث انسحبت “إسرائيل” من سيناء بعد اتفاقية كامب ديفيد، بينما جاء إنسحابها من غزة منقوصًا حيث حافظت على تحكُّمها بالحدود ووجودها العسكري المستتر في القطاع.
من هنا أسّس قرار الجمعية العامة الأخير لمكانته بالإشارة إلى المسؤولية الدولية بالانصياع لسيادة القانون وللنظام الدولي المبني على قواعد القانون الدولي، والمنبثقة كلها من اعتبارات العدالة والسلام العالميَّين اللذين يعدّان مسؤولية جمعية للدول، وتقتضي تعاونها حتى في غياب عنصر إجبار مباشر، كما أشار القرار بصريح العبارة لمبدأ تلك المسؤولية “Erga Omnes“، أي مهمة جميع الدول بتطبيق أحكام القانون الدولي العام والدولي الإنساني والدولي لحقوق الإنسان.
لم يترك القرار الحبل على غاربه لتلك الدول للتهرُّب من مسؤوليتها الجمعية لتنفيذ بنوده، فقد أشار إلى ضرورة اتخاذها إجراءات جمعية وفردية لتمكين الفلسطينيين من ممارسة حقهم بتقرير مصيرهم، والامتناع عن كل مساعدة ودعم من شأنه إطالة أمد الاحتلال الإسرائيلي وضمان ديموميته.
وأدرج القرار عددًا من الأمثلة التي طالب الدول بالامتناع عن الانخراط فيها، ومنها الدخول في اتفاقيات دولية وعقود مع “إسرائيل” تتضمن الأراضي المحتلة وشعبها، والدخول في علاقات اقتصادية وتجارية تشتمل على المستوطنات والنظام الإسرائيلي عامةً في الأراضي المحتلة، بما في ذلك تجارة الأسلحة والمعدّات الثقيلة والتقنيات التي تنطوي على شكوك معقولة بإمكانية استخدامها في الأراضي المحتلة، كما حذّر القرار الدول من الانخراط في علاقات دبلوماسية مع “إسرائيل” تشتمل الأراضي المحتلة، ومنها نقل سفاراتها إلى مدينة القدس.
أشار القرار أيضًا إلى واجب الدول فيما بينها بمنع انخراط أي منها في المحاذير السابقة، وضمان عدم انخراط مواطنيها أو شركاتها أو أي من الأشخاص العامة أو الخاصة الواقعة تحت ولايتها في ذلك، إضافة إلى ضرورة تفعيل أنظمتها القضائية الوطنية لملاحقة الانتهاكات الجسيمة لبنود اتفاقية جينيف الرابعة، المعنية بحماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة على وجه الخصوص.
كما أحالت الجمعية العامة للسكرتارية العامة للمنظمة مسؤولية متابعة تنفيذ القرار وتقديم تقرير خلال 3 أشهر، يوضح جهود كل من الدول والمنظمات الدولية والأمم المتحدة و”إسرائيل” نفسها للامتثال للقرار، إلا أن التجربة المرة مع الأمم المتحدة لا تبشّر بالكثير.
فمن أكثر من 200 قرار للجمعية العامة ومجلس الأمن بخصوص القضية الفلسطينية لم تمتثل “إسرائيل” لأي منها، ولم يتم فرض تنفيذها بصورة رسمية من قبل، وظلت أرقامًا يستدعيها الأرشيف وتلوكها منظمات حقوق الإنسان دون أن تلقى آذانًا صاغية، كما ظلَّ الفيتو الأمريكي بالمرصاد لأي محاولة جادة لمحاسبة “إسرائيل” او إيقاف انتهاكاتها.
والآن ماذا؟
تاريخيًا، لم تستطع قرارات الأمم المتحدة وحدها تحرير أرض محتلة أو إعادة حق مستلب، حتى في الأمثلة الرائدة على دور الأمم المتحدة والتي تتقاطع مع القضية الفلسطينية في بعض جوانبها، مثل تحقيق استقلال المستعمرات الأوروبية في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
وأبرز أمثلتها سعي الأمم المتحدة لنيل استقلال ناميبيا من الاستعمار جنوب الأفريقي، وتقويض نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نهاية القرن الماضي أيضًا، لكنها لم تأتِ من قرارات المنظمة الأممية وحدها، بل رافقها إجماع وضغط عالمي وشعبي.
حيث عملت المنظمة جنبًا إلى جنب مع الحكومات والمنظمات غير الحكومية وحركات المقاطعة والحراك العالمي الداعم للتحرر، كما لعبت حركات التحرر الوطنية وحركات المقاومة على الأرض دورًا لا يستهان به في تكبيد نظام الاستعمار خسائر جعلت من استمرار دعمه دوليًا مجلبة للعار وحملًا بلا طائل.
نعود بهذا إلى المربع الأول، بأن النضال في سبيل تفكيك الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لن يأتِ نتاج قرارات تتخذها الأمم المتحدة وحدها، ولن يتم بين ليلة وضحاها كما طالب القرار الأخير، بل هو نتاج عملية نضال دولية ووطنية طويلة الأمد، يعمل هذا القرار كأحد أساساتها وأهم منطلقاتها الحديثة لتجديد الإطار وأساس العمل الجامع.
هناك طريق طويل ينتظر المحاكم والمنظمات الحقوقية والحراكات الشعبية والمدنية للنضال في سبيل محاصرة نظام الاستعمار الإسرائيلي، وملاحقة داعميه بالمقاطعة والمقاضاة والمحاسبة، كما أن الكثير من العمل ينتظر الشعوب للضغط على حكوماتها ومنظماتها الرسمية لمقاطعة دولة الكيان ومحاصرتها رسميًا، والتخلي عنها سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا استجابةً لقرار الجمعية العامة.
سيفتح هذا القرار أبوابًا لحركة المقاطعة “بي دي أس” ولمحاميي حقوق الإنسان ولمؤسسات المجتمع المدني وللحكومات الصديقة وللشعوب الحرة، لتسعى من كل اتجاه وصوب لضرب أساسات المشروع الاستعماري الاحتلالي الصهيوني وتجفيف منابعه وملاحقة داعميه بالعار والخسائر، لكنها بكل الأحوال طريق الـ 100 ميل التي يشكّل القرار هذا وسابقاته أوائل الخطوات فيها.