لم تعد فضائح الشهادات التعليمية المزورة قضية المجتمع العربي الذي تفشت فيه وأصبحت تجارة نشطة، تربح ربما أسرع من المخدرات، بل تعدت الحدود الجغرافية وانتقل الفيروس للغرب، صانع التعليم والحضارة الحديثة، وطوق إسبانيا التي تعيش أزمة كبرى بعد اتهام رئيس الحكومة بدرو سانشيز، بالتزوير والغش لنيل شهادة الدكتوراة الخاصة به في الاقتصاد.
وتضرب شواطئ وزارة بدرو “الاشتراكية” عاصفة من التشكيك في أهليتها التعليمية بسبب التزوير والغش في مؤهلات أعضائها التعليمية، خاصة بعد الضغط على وزيرة الصحة كارمن مونتون التي أجبرت على الاستقالة، بعد أن كشفت وسائل إعلام، حصولها على شهادة الماجستير في ظروف مشبوهة، ليجد رئيس الحكومة نفسه أشبه بالغارق في طبق من الماء المغلي، ولم يجد مفرًا من توضيح وجهة نظره في تغريدة مرتبكة، قال فيها إن المعلومات التي نشرتها بعض وسائل الإعلام، وتشير إلى تدليس في كتابة رسالة الدكتوراة كاذبة جملة وتفصيلاً.
كان لافتًا حجم التعليقات على منشور سانشيز الذي لم يجد إلا الغضب وتصدير التوتر، للنجاة من مقصلة الإقالة إن لم يستقل هو، وهدد باللجوء إلى القضاء دفاعًا عن شرفه وكرامته، إذا لم يتم تصحيح ما نشر وإعادة الاعتبار لرسالة الدكتوراة الخاصة به في الاقتصاد التي حصل عليها عام 2012 من جامعة كاميلو خوسيه سيلا، مبررًا أنه عندما حصل عليها لم يكن وقتها شخصية معروفة لأحد.
واتهم رئيس الحكومة الإسبانية باقتطاع فقرات طويلة من مقالات للعديد من الاقتصاديين، وضم أجزاء من تقارير حكومية وموضوعات منشورة في الجريدة الرسمية دون أن ينسبها إلى مصادرها، حسب الحملة التي تشنها عليه بعض الصحف المحافظة المعارضة له، التي لجأت لصد هجوم رئيس الحكومة بنشر صور لمقاطع من الرسالة التي حملت عنوان “ابتكارات الدبلوماسية الاقتصادية الإسبانية .. تحليل القطاع العام (2000 – 2012)”، ورصدت الجريدة الفقرات الكاملة التي استعان بها من مقالات منشورة، ولم يقم بأي شيء فيها غير تغيير بضع الكلمات فيها، للتشويش على محركات البحث حال التدقيق فيها.
يبدو أن الأزمة خلفت صراعًا في الحزب الذي ينتمي إليه بدرو سانشيز، بعدما استشعر أن هناك من داخل طائفته السياسية، من يشارك في إحكام الحبل حول عنقه
يعيش رئيس الوزراء الشاب أجواءً مرعبة، بسبب مزاحمة أحلامه، بالضجة التي أجبرت وزيرة الصحة الإسبانية على الاستقالة الثلاثاء الماضي، بعد جولات من التنظير لم تستمر كثيرًا، بعدما استطاعت الصحف، إثبات حصولها على شهادة الماجستير، بطرق ملتوية والغش والتدليس في رسالتها.
إسبانيا.. تاريخ من تزوير الشهادات
لم يكن رئيس الوزراء بدرو سانشيز الإسباني، ووزيرة الصحة في حكومته، أول من يتعرضان لهذه الضجة في المجتمع الإسباني، ولكن قبلهما كانت حاكمة مدريد كريستينا سيفوينتس، تغامر بمستقبلها السياسي لنفس الأزمة، التي أنهت عليها واضطرتها إلى الاستقالة، بعد حملة منظمة استطاعت من خلالها الصحف إثبات تزويرها في شهادة ماجستير القانون الخاصة بها.
ومن الحكومة للمعارضة، ضبط في نفس الأعمال المخلة بأساسيات البحث العلمي والمنافية للغة البحثية المنضبطة واستباحة التعدي على حقوق الملكية الفكرية للغير، رئيس الحزب الشعبي اليميني وزعيم المعارضة بابلو كاسادو، الذي لم يستطع المواجهة طويلاً، وانتابت الرجل صحوة ضمير جعلته لا يكتف بالاستقالة من موقعه، بل واعترف على نفسه بالحصول على مؤهله الجامعي من العدم بعد عدم الحضور في جامعة الملك خوان كارلوس بمدريد، وبسبب عدم كشف أحد المسؤولين لذلك، أكمل طريقه للحصول على درجة الماجستير في القانون الإداري، دون حضور فصول أو تقديم أطروحة.
وكأي مجتمع مفتوح، لا يمكن تمرير هذه السقطات داخل الأسرة أو الحزب الواحد، بل إن الضغوط الداخلية، أحيانًا تكون أشرس من الخارجية، وهو ما يحدث حاليًّا مع رئيس الحكومة الإسباني الذي يتعرض لضغط عنيف من زعيم حزب اليمين الوسط سيودادانوس ألبير ريفيرا، الذي هاجم بدرو سانشيز، بسبب لجوئه إلى أسلوب التهديد مع ما يكتب عنه، وطالبه بالذهاب فورًا أمام النواب والتحدث.
كان لافتًا وجود بعض المحاولات من أساتذة الجامعات للوقوف بجانب سانشير، وإعطاء تحليلات تبرئه من القضية
ويبدو أن الأزمة خلفت صراعًا في الحزب الذي ينتمي إليه بدرو سانشيز، بعدما استشعر أن هناك من داخل طائفته السياسية، من يشارك في إحكام الحبل حول عنقه، بما جعله يرد غاضبًا، قائلاً إن الأطروحة نُشرت وفقًا لما ينص عليه القانون، ورفض رئيس الوزراء الإسباني إعطاء المزيد من المعلومات، والحديث أمام البرلمان كما نصحه الحزب، واكتفى بالزعم أن أوراق دراسته غير متوفرة على الإنترنت، مما زاد من حجم السخط عليه، ولم يثبت كثيرًا وتراجع مؤكدًا أن رسالة الدكتوراة الخاصة به ستصبح متاحة بأكملها.
كان لافتًا وجود بعض المحاولات من أساتذة الجامعات للوقوف بجانب سانشير، وإعطاء تحليلات تبرئه من القضية، وتبنى هذا النهج كريستينا مونخى، أستاذة العلوم السياسية في جامعة سرقسطة، التي دارات بتصريحاتها بشأن القضية على وسائل الإعلام، وعبر ردود شبه موحدة، قالت إن عدم نشر الأطروحة على الإنترنت أمر شائع لا يدين رئيس الوزراء كما يريد البعض للقضية أن تسير، واعتبرت أنه من حقه عدم نشرها، فالمؤلف من وجهة نظرها له كامل الحق في عدم نشر مجهوده الشخصي على الإنترنت.
ولم يقف سيل المدافعات عن رئيس الوزراء عند كريستينا مونخي التي نالت حظ وافر من التوبيخ والسخرية على وسائل التواصل، والاتهامات بتجهيز نفسها لمنصب في الحكومة، بعد سلسلة الفضائح التي تجبر أعضاءها على الرحيل عضوًا بعد الآخر، وانضم أيضًا رئيس رابطة رؤساء الجامعات الإسبانية روبرتو فرنانديز، إلى المتطوعين لغسيل سمعة سانشيز وطالب الرجل بالحذر من التعامل في مثل هذه القضايا، باعتبار أن الأستاذ أو الدكتور الذي يعمل بدأب على الأطروحة، تناقش باستفاضة من هيئة الأساتذة المكلفين بإجازتها ومنح الطالب الدرجة العلمية الرفيعة.
هل يقف خلف القضية “صراع طبقي”؟
المتابع للأجواء السياسية في إسبانيا، سيجد أن تركيز الإعلام على الشهادات التعليمية للمسؤولين واللجوء إلى قالب صحافة البيانات للبحث والتفحيص والتنقيف، خلف أقل ثغرة يمكن التقاطها، لا يجري إلا لكل وزير يأتي من خلفية اجتماعية متوسطة أو فقيرة، بينما يغض الطرف عن الوزراء من الأوساط الاجتماعية الأكثر ثراءً، وهو ما أصبح يثير الامتعاض الشديد على وسائل التواصل، بسبب الخوف المتصاعد من وجود رغبات دفينة في تشويه أبناء الطبقة المتوسطة، والتشكيك في الجهود التي بذلها هؤلاء للترقي في المجتمع.
الظاهرة التي توحشت في المجتمع الإسباني منذ سنوات طويلة، رصدتها اليونيسيف مؤكدة أن إسبانيا، إضافة إلى لاتفيا وقبرص، هي البلد الذي يسجل أقوى اختلال اجتماعي في حماية كبار السن والأطفال، من الوقوع في شباك الظلم الاجتماعي
وبدأت الصحف الموالية للشعوبيين، تتهم اليمين صراحة بالعمل على إثارة الشكوك بشأن الاشتراكيين، عبر اتباع سياسة الكيل بمكاييل كثيرة، لتنمية شعبيته التي كانت قد تراجعت بشدة خلال الأعوام الثماني الماضية، وليس الصحف وحدها، بل ورجال الأحزاب اليسار وأصحاب البصمات التاريخية في الحياة السياسية والاجتماعية الإسبانية، اشتركوا في الحرب على اليمين، وهو ما اتضح من تصدي بابلو إغليسياس زعيم حزب بوديموس اليساري الراديكالي، للحملة الممنهجة على رئيس الوزراء، وشنه هجوم في اتجاه مواز، واعتبر أن الضحايا الرئيسيين لكل ما يحدث هم طلاب وطالبات الجامعات الحكومية الذين يتعين عليهم بذل الكثير من الجهد لنيل شهاداتهم، حتى لا يطالهم غدر وطعن طبقية اليمين.
وينعكس بشكل أو بآخر على إسبانيا، حالة الفقر التي تلازم طبقات عديدة من المجتمع، بما جعلها ثالث بلد في الاتحاد الأوروبي، من حيث أعلى معدلات الفقر، سواء كان نسبيًا أم تكرس مع مرور الوقت، ورغم شيوع العديد من أدبيات المجتمع في مواجهة الظلم الاجتماعي، إلا أن الفجوات التي تتسع يومًا بعد الآخر، تجعل من الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة غير مرحب بهم لقيادة الأغنياء.
الظاهرة التي توحشت في المجتمع الإسباني منذ سنوات طويلة، رصدتها اليونسيف مؤكدة أن إسبانيا، إضافة إلى لاتفيا وقبرص، هي البلد الذي يسجل أقوى اختلال اجتماعي في حماية كبار السن والأطفال، من الوقوع في شباك الظلم الاجتماعي، ودللت اليونسيف على صحة تقريرها، بالتراجع المحلوظ في الاستثمار بمجال حماية الأطفال، بما جلب الكثير من الضرر على الأسر البسيطة والمتوسطة، وهما المنوط بهما منذ فترات طويلة في إسبانيا، إخراج قادة قادرين على صيانة حقوق الفقراء، في عالم لا يعترف إلا بالغني وأهله ودراويشه ومريديه.