“اللي يضحون عشان سمعة بلادهم مثل ما يضحون في اليمن اليوم”، تلك رسالة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد لجنوده، وهم صغار السن، وبلادهم لم تكن مهددة في اليمن، لكن قيادتهم رأت أن يذهبوا فذهبوا، وأن يتجندوا ففعلوا، وأن يضحي هؤلاء كما يفعل أولئك الذين سبقوهم إلى أرض المعركة، يقاتلون فيقتلون ويُقتلون، وبعضهم عاد إلى دياره في توابيت خشبية.
بلاد هذا الرجل ماضية فيما يُقال إنها تورطت وورطت غيرها فيه، وهي الحرب هناك، وعلى وقع المعركة التي تنخرط فيها القوات الإماراتية في اليمن، تسلم أبو ظبي رسالة إلى مجلس الأمن، خلاصتها أن ما تسميه “تحرير” الحديدة – وهي إحدى محافظات اليمن لا الإمارات – أصبح أمرًا ضروريًا من أجل ضمان انخراط الحوثيين في محادثات السلام، فأي سلام هذا الذي يأتي بالتصعيد العسكري؟
باسم مَنْ تبعث الإمارات رسائلها؟
على لسان الحكومة اليمنية الشرعية، جاءت رسالة دولة الإمارات إلى مجلس الأمن الدولي؛ لتكشف – ضمنًا – تصعيدًا عسكريًا كبيرًا قادمًا في الحديدة، بحيث يؤدي إلى انتزاعها من الحوثيين، ولكن مع تأكيد أن العمليات في الحديدة أو ما وصفته بـ”تحرير الحديدة” بات ضروريًا من أجل ضمان انخراط الحوثيين ثانية في محادثات السلام.
تُصر أبو ظبي على الظهور كما لو أنها معركتها، على الرغم من أن ذلك بات مثار تحفظ في العديد من الأوساط اليمنية
وفي ظل المسار التي اتخذته مواجهات الأسبوع المنصرم، بين التصعيد والتهدئة النسبية، على الطريق ذاتها، مضت الإمارات تقول إن العمليات في الحديدة وغيرها “محسوبة بإمعان لتحقيق غرض واضح، ألا وهو بدء العملية السياسية مجددًا”، في محاولة لتطمين المجتمع الدولي أن هجوم الحديدة إنما هو دعمٌ لجهود السلام أو ليس بديلاً عن الحل السياسي.
الرسالة الإماراتية إلى مجلس الأمن الدولي، بشأن التطورات العسكرية في محافظة الحديدة، جاءت لتوجه الأنظار مجددًا نحو تفاصيل وتساؤلات جوهرية تتعلق بالمعركة العسكرية الأهم يمنيًا، التي بات يُنظر إليها على أنها محطة مفصلية، سيكون لخوضها من عدمه الدور الأبرز في رسم مستقبل الحرب وجهود السلام، وتُصر أبو ظبي على الظهور فيها كما لو أنها معركتها، على الرغم من أن ذلك بات مثار تحفظ في العديد من الأوساط اليمنية، بما فيها تلك التي على خصومة مع الحوثيين.
تجاهلت أبو ظبي شريكتها الرياض التي يُفترض أنها من تقود تحالفهما
الإمارات التي لم توضح الصفة التي تخولها التحدث باسم الشرعية اليمينة، وتجاهلت شريكتها (السعودية) التي يُفترض أنها من تقود تحالفهما في اليمن، أكدت نبل أهداف الحرب التي تبشر بها في الحديدة وغيرها، والمتمثلة في إرغام الحوثيين على العودة إلى مائدة التفاوض، ومن ثم الانتصار للحل السياسي وتحقيق السلام في اليمن، فما تفعله حكومة أبو ظبي ليس سوى دعم لمساعي غريفيث، كما تقول الرسالة.
وانبرى الموالون لها في الدفاع عن مضمون رسالة جاءت مترافقة مع تصعيد على جبهات عديدة في اليمن، فبحسب الكاتب السعودي عبد الله بن بجاد العتيبي، فإن الرسالة الإماراتية أكدت أن الحلول العسكرية هي آخر الحلول، لكنه شرعن أن “تحرير الحديدة” ضرورة لإجبار الحوثيين على الدخول في الحل السياسي والتفاوض، متناسيًا أن بلاده تقود التحالف العربي وليس الإمارات.
تجاهلت الرسالة تمامًا تلك الواجهة التي كثيرًا ما اختبأت خلفها، كما تجاهلت شريكها المفترض، وهي الرياض
في السياق، أثارت الرسالة انتقادات وتعليقات يمنية متعددة، إذ لم تتوجه الرسالة إلى المجلس من قيادة التحالف، بقدر ما جاءت من الإمارات، التي يرى يمنيون أن ظهورها على هذا النحو، وبصرف النظر عن الدور الذي تلعبه في الحديدة، يعزز كما لو أنها واحدة من معاركها المرتبطة بأجندتها الخاصة، وليس معركة الحكومة اليمنية بدعم من التحالف، مع الأخذ بالاعتبار أن المعركة في الحديدة وآثارها على المسارين العسكري والسياسي في اليمن، لها ما لها من الأبعاد، لا يمكن النظر إليها من زاوية واحدة.
ورسميًا يُفترض أن تصدر رسالة كهذه عن الشرعية اليمنية، فهي نظريًا على الأقل صاحبة القرار، بينما تحالف الرياض أبو ظبي يعضد ويسند، لكن الرسالة تجاهلت تمامًا تلك الواجهة التي كثيرًا ما اختبأت خلفها، كما تجاهلت شريكها المفترض، وهي الرياض، إذ هي تتحدث جهرًا عن خططها هي لا سواها، ومن شاء أن يشارك فليتبع ويلحق.
أي سلام يأتي بالقصف والقتل؟
رؤية إماراتية لا يُعرف إلى أي مدى ستؤثر على جهود المبعوث الدولي إلى اليمن مارتن غريفيث الذي تزامنت الرسالة الإماراتية مع وصوله إلى صنعاء للقاء قادة الحوثيين، فالرجل لم يصب باليأس بعد، وهؤلاء (الحوثيون) لم يلبوا الدعوة إلى محادثات جنيف حين مُنع وفدهم من مغادرة العاصمة، ولديهم قائمة طويلة من الأسباب التي يقولون إنها حالت دون مشاركتهم، أهمها عدم ثقتهم في تحالف الرياض – أبو ظبي.
يُعتقد أن تحالف الرياض أبو ظبي في أسوأ حالاته بعد تزايد الدعوات الأممية
يعود غريفيث إلى صنعاء، بعد محادثات جنيف التي “وُلدت ميتة”، في محاولة لإحياء المسار السياسي، وهي زيارة تتزامن مع استمرار المعارك في الحديدة، كما تأتي في وقت وقعت الأمم المتحدة مذكرة تفاهم مع الحوثيين لإنشاء جسر جوي طبي إنساني لنقل المرضى ذوي الحالات الحرجة لتلقي العلاج بالخارج، وهو ما اعتبره التحالف السعودي الإماراتي والحكومة اليمنية تطورًا خطيرًا وسقوطًا مدويًا.
غريفيث لا يتفق مع طروحات إعلان الفشل، فقد حاول أن يترجم تفاؤله بمواصلة مشارواته ولقائه مع الحوثيين في محاولة لإنعاش السلام، لكن اللقاءات الأممية على تفاؤلها لم تؤثر على طبيعة الوضع الميداني في جبهة الساحل الغربي، حيث تدور أعنف المعارك بين الحوثيين وقوات هادي المدعومة من تحالف الرياض – أبو ظبي.
وفي ضوء تأكيد أبو ظبي اتجاهها للتصعيد العسكري “لحمل الحوثيين على التفاوض”، فإن فرص نجاح الجهود الدولية لاستئناف مفاوضات اليمن تقل، وبذلك تتحول “الحديدة” إلى ورقة تُطوى في رسالة الإمارات إلى الأمم المتحدة التي تجري في الوقت نفسه مشاروات مع الحوثيين.
تأتي رسالة أبو ظبي الأخيرة لتصب في رواية الحوثيين الكبري عن عدوان شُن على بلادهم، وأطماع تكشف لنهب اليمن
تأتي رسالة أبو ظبي الأخيرة لتصب في رواية الحوثيين الكبري عن عدوان شُن على بلادهم، وأطماع تكشف لنهب اليمن، بل واحتلاله بذريعة “الشرعية” التي طلبت فلبوا النداء، فكيف لمن ينشد سلامًا أن يُصعِّد، بل ويُبلغ الأمم المتحدة بذلك، ويُتوقع أن يُصفق له، وأن يُشاد بخططه؟
ذلك ما يدركه الحوثيون والمبعوث الدولي، وهو ما يفسر تعاطفًا خجولاً بدأ يظهر للعلن مع خطاب الحوثيين، وها هي الأمم المتحدة تستجيب لأحد مطالبهم التي طرحوها كواحد من الشروط للذهاب إلى جنيف، وهي نقل المرضى ذوي الحالات الحرجة إلى الخارج للعلاج، على أن يكون ذلك لمدة 6 أشهر، وليس لرحلة واحدة.
الحديدة بين تصعيد أبو ظبي وسياسة غريفيث
يعزز تفرد الإمارات بالقرار قول الحوثيين إن معركة الحديدة إماراتية بامتياز، لوجود أطماع إماراتية في السواحل والموانئ اليمينة، فالعدوان الإماراتي على اليمن – بحسب هؤلاء – يأتي ضمن أجندة إمارتية خاصة، خدمةً لمصالحها الاقتصادية التي تسعى من خلالها إلى السيطرة على المياه الإقليمية في باب المندب.
وتمثل أبو ظبي بالفعل، واجهة العمليات العسكرية للتحالف في الساحل الغربي، بدعم مجموع القوات اليمنية التابعة للشرعية أو تلك المحسوبة بصورة أكبر على الإمارات، الأمر الذي بدأ، مع تدشين أولى العمليات في المناطق القريبة من باب المندب، حيث سواحل محافظة تعز (أبرزها المخا)، وصولاً إلى الأطراف الجنوبية لمحافظة الحديدة، منذ أواخر العام الماضي.
سعت أبو ظبي إلى حشد أكبر قدرٍ من الرضى من جانب الحكومة اليمنية، كغطاء لهجوم الحديدة، خلال يونيو/حزيران ويوليو/تموز الماضيين، من خلال السعي إلى التفاهم مع الحكومة اليمنية في العديد من ملفات الخلاف، التي كانت قد وصلت إلى مجلس الأمن الدولي، بشكوى يمنية من التصرفات الإماراتية في مايو/أيار الماضي، من التحركات العسكرية غير المبررة في جزيرة سقطرى، شرقي البلاد.
وقبل أيام تناقل ناشطون يمنيون فيديو يظهر فيه أحد الإماراتيين التابعين للهلال الأحمر الإماراتي وهو يلقن الأطفال في جزيرة سقطرى كلمات وأفكار الكراهية والبغضاء والسقوط الأخلاقي، كان الموظف يخاطب الأطفال قائلاً: من تحبون يا أطفال سقطرى؟ فيقولون: الإمارات، ويسألهم مرة: الله يدمِّر من؟ فيقولون: الإصلاح، فيطلب منهم تريد عبارة “تعيش الإمارات، تعيش الإمارات، تعيش الإمارات”.
وفي الحديدة، تبدو المعركة مختلفة، إذ إن إلحاق هزيمة بالحوثيين في المدينة التي باتت المنفذ البحري الوحيد والأهم الخاضع لسيطرتهم، أمر يمثل هدفًا مشتركًا تلتقي فيه أطراف الحكومة اليمنية مع أبو ظبي، وإن على سبيل التأجيل المؤقت لملفات الخلاف، ومع ذلك، يبدو الحضور الفعلي للحكومة اليمنية أقل مما هو مفترض بالحديدة، بدليل التصريحات الإماراتية.
تزايد الدعوات لمحاكمة قصف التحالف الموصوف بـ”الخاطئ” يعني ورقة إضافية بأيدي الحوثيين في لقاءاتهم مع المبعوث الأممي
واللافت أن أبو ظبي تهدد بالتصعيد العسكري، وهي ترى أن جماعة الحوثيين – المقرونة دائمًا لديها بإيران – يعدون أيامهم الأخيرة في الحديدة، ففي تقرير لقناة “سكاي نيوز عربية”، ذكر أن قوات الحوثيين تسابق الزمن في محالة لإنقاذ نفسها من غرق محتم، فمنذ أيام – بحسب القناة الإماراتية – ينفذ الحوثيون عمليات نهب، وتهريب لأموال مصارف حكومية وأهلية في الحديدة إلى العاصمة صنعاء.
تلك انتكاسة للحوثيين لا تنفصل عن أخرى تعكس حالة من التخبط والارتباك والرعب التي تشهدها صفوف الحوثيين، فبحسب القناة ذاتها، يتلقى الحوثيون ضربات موجعة، آخرها قطع طريق الإمداد الرئيسي بين صنعاء والحديدة، ما دفع الحوثيين لقصف أدى لإحراق بيوت المدنيين الذين يتخذون من الأكواخ البسيطة مساكن لهم، وهو ما أدى إلى سقوط قتلى ومصابين في أوساطهم، كما جاء في التقرير المتلفز.
وعلى عكس الرواية الإماراتية، يُعتقد أن تحالف الرياض أبو ظبي في أسوأ حالاته بعد تزايد الدعوات الأممية، وتلك الصادرة عن المنظمات الحقوقية الدولية لمحاكمة القصف الموصوف بـ”الخاطئ”، الذي خلَّف ويخلف عشرات القتل من المدنيين، وهو ما يعني ورقة إضافية بأيدي الحوثيين في لقاءاتهم مع المبعوث الأممي، تشرعن لهم القول “ارفعوا الغطاء عمَّن يقتل الأطفال، تلك مهمتكم لا الاستجابة أو التواطؤ مع من يقول لكم سيواصل القصف والقتل لإحلال السلام”.