لم تلبث قمة طهران التي عُقدت بحضور الدول الثلاثة الضمانة لعملية التسوية في سوريا، تركيا وإيران وروسيا، أن انتهت، حتى ذاع سيناريو وقوع إدلب على شفا عملية عسكرية واسعة تحرق الأخضر واليابس فيها.
في الحقيقة، كان من اليسير استبعاد هذا السيناريو وترجيح سيناريو التوافق الذي قد يشوبه بعض جوانب العملية الجزئية القائمة على مناوشات طفيفة على خط التماس واستهداف بعض النقاط بطائرات عسكرية، لعدة عوامل ربما أهمها “لعبة الأوراق” التي يمتلكها الأطراف ضد بعضهم البعض؛ فتركيا التي تضمن عملية التسوية في الشمال السوري، يمكن أن تضغط على روسيا بورقة تحريك فصائل المعارضة والتراجع عن عملية التسوية، وبالتالي عودة الأمور إلى المربع الأول الذي لا ترغبه روسيا، بعد تحقيق جزء كبير من عملية التسوية.
كما يمكن لتركيا أن تضغط على إيران من خلال الورقة الاقتصادية التي تمتلكها تركيا بإعلانها الصريح عدم رغبتها في الانضمام للعقوبات الأمريكية المفروضة على الاقتصاد الإيراني، بما يعكس رغبتها في معاونة إيران في تجاوز وطأة هذه العقوبات، وبذلك تكون تركيا قد استخدمت سياسة الترغيب والترهيب أمام إيران التي خرجت من المعادلة عبر تصريحها علنًا أنها “لا تؤيد العمليات العسكرية ضد إدلب”. ومن مداد الجملة الأخيرة، يظهر أن تركيا استخدمت بعض الوسائل لتجنيب إدلب العملية العسكرية، فكيف استطاعت تركيا المناورة لإنجاح ذلك؟ وما الوسائل التي ركنت إليها لإتمام ما ترنو إليه؟
القمة حاولت، بشكلٍ أو بآخر، إحباط التحرك الروسي ـ الإيراني المشترك، بجذب إيران، عبر ورقة الدعم الاقتصادي
إظهار توافق نسبي مع موسكو وطهران
على الرغم من حالة السلبية التي اكتنفت التحليلات المُتعلقة بمُخرجات قمة طهران، فإن الحقيقة أظهرت أن الخلاف لم يكن مُطلقًا بل نسبي أو جزئي، فالقمة أسفرت عن توافق أنقرة مع موسكو وطهران على استكمال مسار اللجنة الدستورية والنظر في مسألة إصدار عفو عام لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، كما أنها حاولت، بشكلٍ أو بآخر، إحباط التحرك الروسي ـ الإيراني المشترك، بجذب إيران، عبر ورقة الدعم الاقتصادي والصفقات التي من شأنها مواجهة العقوبات الأمريكية.
تجديد تعهدها بتفكيك هيئة تحرير الشام
وفقَا لأحد رموز المعارضة السورية المشاركة في محادثات أستانة 10 ـ سوتشي 2 الأخيرة، فإن موسكو طالبت أنقرة بالتعجيل بتفكيك هيئة تحرير الشام في فترةٍ زمنيةٍ لا تتجاوز الشهر على أقصى حد، وفيما يبدو أن تركيا لم تستطع، أو لم ترد، حل الهيئة قبل تحقيق “دسترة” للمجالس الإدارية الخاصة بالمعارضة في إدلب، حاولت تجديد عهدها لموسكو فيما يتعلق بتفكيك الهيئة، لكسب المزيد من الوقت.
ذلك الوقت الذي يضمن تفكيك الهيئة على نحوٍ ناعم، بمعزلٍ عن العمليات العسكرية التي تسبب الخسارة الإستراتيجية للدول الضامنة الثلاثة التي تسعى لإيجاد حل إستراتيجي لا يترك قنابل خلاف موقوتة تنفجر بعد فترة من الزمن.
استجداء الدعم الدولي عبر ورقة اللاجئين
إعلاميًا، عبر مقال لرأس الدولة رجب طيب أردوغان، ودبلوماسيًا، عبر التواصل مع عدد من الدول الغربية على رأسها ألمانيا وفرنسا، في قمة رباعية جمعتها والدولتين المذكورتين بروسيا في إسطنبول، يبدو أن تركيا استطاعت تأجيل معركة إدلب ولو على نحوٍ مؤقت، يتحول إلى حالة دائمة بمناقشة خطتها لإنهاء حالة الاستعصاء الموجودة في إدلب عبر بذل جهود لتفكيك هيئة تحرير الشام وترحيل المقاتلين الأجانب، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الإثنين 17من سبتمبر/أيلول 2018.
إجراء مناورات عسكرية وإظهار إرادتها السياسية على نحوٍ جاد
لم تكتفِ تركيا بالعتاد الخفيف الموجود في قواعد المراقبة الاثنتي عشرة خاصتها المنتشرة في مدينة إدلب وريفي حماة وحلب، بل أرسلت حتى صباح 17 من سبتمبر/أيلول، 80 مركبة عسكرية تشمل دبابات، إلى وحداتها على حدودها الجنوب شرقية مع سوريا، بحسب ما أرودته وكالة الأناضول.
تدرك الدول الثلاثة الضامنة أن خسارة طرف لحساب الطرفين الآخرين، لا يصب في صالح عملية التسوية طويلة الأمد
من جانبه، أشار مسؤولها إلى أن تركيا لن تنسحب من نقاط المراقبة، وشدد وزير الدفاع خلوصي أكار، على أن “تركيا تسعى لحل مشكلة إدلب إن شاء الله”، وبذلك حملت هذه التصريحات في طياتها رسالتين: الأولى كانت رسالة تطمين لأهالي إدلب الذين التفوا بمسيرات حاشدة حول المطالبة ببقاء القوات التركية؛ مما أكسب تركيا قبولاً شعبيًا مشروعًا في الانتشار داخل الأراضي السورية وفقًا لمبدأ “مسؤولية الحماية” الذي ينبع من القانون الدولي، ويمنح الدول حق التدخل الشرعي لحماية المدنيين من بطش جماعات ما دون الدولة وحتى الدولة. أما الثانية فكانت لموسكو وطهران والنظام السوري بأنها لن تتوانى عن الدفاع عن مكتسباتها الجغرافية في الشمال السوري.
في الختام، تدرك الدول الضامنة الثلاثة أن خسارة طرف لحساب الطرفين الآخرين، لا يصب في صالح عملية التسوية طويلة الأمد، بل يؤدي إلى تعبيد طريق التسوية بقنابل موقوتة تنفجر بعد فترة من الزمن، وهو الأمر الذي لا تريده، مما دفعها، على الأرجح، لاختيار طريق الحل على حساب طريق الحلول العسكرية.