ترجمة وتحرير: نون بوست
في المرة الأولى التي سافرت فيها خارج غزة، كنت في السابعة والعشرين من عمري. خلال نشأتي؛ كنت أعتقد دائمًا أن “السفر” يعني ركوب سيارة أجرة أو حافلة أو دراجة داخل حدود قطاع غزة. ولم تكن عائلتي تعيش بعيدًا عن شارع السكة الحديد، لكن لم تكن هناك قطارات. وسمعت قصصًا عن مطار غزة الدولي، لكن إسرائيل قصفته عندما كنت في الثامنة من عمري.
وأتذكر أنني سألت صديق طفولتي عزت، الذي كان مشجعًا لكرة القدم، عن الأماكن التي يرغب في زيارتها يومًا ما. وقال لي: “برشلونة. أريد أن ألعب إلى جانب ميسي وتشافي وإنييستا”. وفي سنة 2014، بعد أيام قليلة من تخرج عزت من الكلية، قُتل في غارة جوية إسرائيلية. لقد كانت حرية حركتنا ضحية أخرى من ضحايا الاحتلال.
كان أول مكان حاولت زيارته هو بوسطن. وكنت بحاجة إلى تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، لكن لم يُسمح لي بالسفر أربعين ميلاً إلى السفارة الأمريكية في القدس، ولا القيادة لمدة أربع ساعات عبر إسرائيل إلى السفارة الأمريكية في عمان، الأردن. وبدلاً من ذلك، أوصلني شقيق زوجتي إلى معبر رفح الحدودي مع مصر في جنوب قطاع غزة، حتى أتمكن من السفر إلى الأردن لإجراء مقابلة التأشيرة.
أتذكر وقوفي في صالة السفر في رفح، محاطًا بالصغار والكبار والمرضى، وأفكر أن حقيبتي، مثلي، لم تسافر رحلة حقيقية من قبل. وعندما أقلعت طائرتي من مطار القاهرة الدولي، شعرت أن ساقيّ لا تحملني.
في السفارة الأمريكية في الأردن، سلمني أحد الضباط قائمة بالمعلومات الشخصية التي يجب أن أقدمها، مثل عناوين منزلي، وأرقام الهواتف، وعناوين البريد الإلكتروني، بالإضافة إلى أسماء إخوتي وأبنائي. وكان تاريخ سفري الذي يمتد لخمسة عشر عامًا فارغًا، ولم أكن أعلم كم من الوقت سيستغرق القرار، وكان الأمر الوحيد الذي أدركته هو أنه لم يكن بإمكاني العودة إلى غزة أثناء فترة الانتظار. وبعد أربعين يومًا من الانتظار والعيش في شقة مستأجرة في عمّان، حصلت أخيرًا على التأشيرة. وفي السنوات التي تلت ذلك، كنت محظوظًا بالقيام بالعديد من الرحلات.
منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أصبح من الصعب مغادرة غزة على الإطلاق. وتمكنت أسرتي الأساسية المباشرة من المغادرة في تشرين الثاني/ نوفمبر لأن ابني الأصغر، مصطفى، يحمل جواز سفر أمريكي. لكن في طريقنا إلى مصر، قام الجنود الإسرائيليون بفصلي عن أسرتي، حيث تعرضت للضرب والاستجواب.
في كانون الأول/ ديسمبر؛ قدمت والدتي طلبًا للسفر إلى قطر مع شقيقتي أفنان، التي تبلغ من العمر عشرين سنة والتي تحتاج إلى رعاية طبية لعلاج اضطراب وراثي نادر، فلم تتم الموافقة على طلبها حتى أواخر آذار/ مارس. وكانت أفنان، التي تمتلك مفردات طفل في الرابعة من عمره، بالكاد تستطيع فهم اللغة العربية المكسرة للجنود الإسرائيليين عند نقطة التفتيش. وكادت والدتي أن تفقد وعيها خلال مسيرة أربعة كيلومترات تحت أشعة الشمس؛ إن هذا ما يعنيه السفر في غزة الآن.
في حزيران/ يونيو؛ قمت برحلة أخرى، حيث كانت عائلتي ستنتقل من مصر إلى سيراكيوز في نيويورك. وخططنا لزيارة أمي وأختي في الدوحة في طريقنا إلى هناك، وكنا متحمسين جدًا. وفي الطريق إلى المطار، الذي استغرق ساعتين في سيارة الفان، كنت ألتقط الصور، وكان يزن ابني البالغ من العمر ثماني سنوات ينظر من النافذة ويطرح العديد من الأسئلة.
في الدوحة، استقبلتنا والدتي وأختي عند مدخل بنايتهم. وضحكت عندما نظرت إلى ثلاجتهم، التي كانت مليئة بالأطعمة الطازجة التي كان من المستحيل العثور عليها في غزة خلال زمن الحرب. وقلت لأمي: “انظروا ماذا لديكم! المانجو، والكرز، والخيار، والجبن، وغيرها”.
لقد بدت مذنبة وغير سعيدة، وقالت لي: “ليتني بقيت مع والدك وإخوتك وأطفالهم”. لقد انتظرت شهورًا لتأتي إلى الدوحة، لتتساءل الآن عما إذا كان ينبغي عليها المغادرة. وأوضحت أن أفنان كانت تشعر بالخوف من العودة إلى المنزل لدرجة أنها كانت ترفض مغادرة الشقة لأيام متتالية.
بقينا لمدة أسبوع، ثم استيقظنا مبكرًا في صباح الثامن عشر من حزيران/ يونيو وجمعنا حقائبنا. وقفت أمي في صمت، متجنبة النظر إلينا، ووعدتُها بأننا سنلتقي قريبًا في غزة، لكننا كنا نعلم في قرارة أنفسنا أننا قد نبقى بعيدين عن المنزل لفترة طويلة.
وفي طريقنا إلى المطار، كانت الشمس تشرق برشاقة فوق الخليج العربي، وشعرت بالفخر لأننا وصلنا إلى هذه المسافة. وكنا جالسين في انتظار رحلتنا عندما نظر إليّ شاب كان ينقر على شيء ما في هاتفه وتحدث بالعربية قائلاً: “هل أنت مصعب؟ مصعب أبو توهة؟”.
تظاهرتُ بأنني لا أعرف الاسم، لكن أطفالي كشفوا الأمر، فقالت ابنتي يافا: “نعم، هذا مصعب! إنه يمزح”.
ابتسم الرجل، وابتسمتُ للأطفال، ثم ابتسمتُ له وسألته: “كيف تعرفني؟”،
قال: “أعرف قصتك. ألستَ أنت الذي احتجزك الجيش الإسرائيلي؟”
رددت قائلًا: “نعم، في الواقع، لقد تم اختطافي وليس اعتقالي”.
كان الشاب فلسطينيًا مثلنا، وكان يدرس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، لكنه ساعد عائلته مؤخرًا في إخلاء غزة وإعادة توطينها في قطر. وشعرت بالدهشة عندما التقيت بغزاويين بالصدفة، مثل سمكتين وجدتا بعضهما في المحيط. إن هذه هي طبيعة الشتات: فالفلسطينيان اللذان ربما التقيا في غزة يومًا ما يلتقيان الآن في المطارات.
عندما هبطت عائلتي في بوسطن، خلال إحدى محطات التوقف، قفز مصطفى على إحدى حقائبنا المحمولة وطلب مني أن أسحبه معي. لقد أصبح هذا النوع من السفر هو المفضل لديه. وفي طابور الجوازات، بدأ يتسلل من تحت الحواجز ضاحكًا، ووجهه الصغير يعبّر عن انتصاره. ثم جاء دورنا للصعود إلى الكشك، حيث قمت بتسليم جوازات سفرنا وتأشيراتنا إلى امرأة ترتدي الزي الرسمي.
عندما رأيت رد فعل المرأة، بدأت أشعر بالقلق عما إذا كان هناك خطأ ما. فبدأت تتحدث إلى جهاز لاسلكي، ثم جاء شاب مفتول العضلات يحمل شارة معدنية ويعتمر صاعقًا ومسدسًا وأصفادًا على سترته، ليقودنا إلى منطقة الانتظار. شعرتُ بالتوتر بعد تجربتي مع الجنود الإسرائيليين، لكنني لم أرغب في أن تلاحظ عائلتي ذلك، وقال يزن بفارغ الصبر: “يجب أن نذهب إلى منزلنا الجديد”، وأخيرًا، جاء ضابط جمارك شاب ليتحدث معي.
فوجئت بلطف الضابط، الذي بدا قلقًا بشأن ما إذا كانت عائلتي في غزة آمنة ولديها ما يكفي من الطعام. وعندما أنهى طرح أسئلته، أعاد لنا جوازات سفرنا وعرض مساعدته في حمل حقائبنا. بدأتُ أشعر بالراحة، فأرسلت رسالة نصية إلى بعض الأصدقاء، كتبت لهم: “كل شيء على ما يرام. ونحن نجمع حقائبنا”.
وقبل أن نتمكن من الصعود على متن رحلة المتابعة الخاصة بنا، كان علينا المرور عبر الأمن مرة أخرى. وبدا أن بطاقة الصعود إلى الطائرة قد أطلقت إنذارًا آخر؛ حيث مدّ الضابط يده إلى جهاز لاسلكي وقال: “أيها المشرف!”
وظهر المشرف خلف الضابط ونظر إلى الشاشة، ثم تبادلوا أطراف الحديث بصوت منخفض قبل أن يوجه نظره إليّ. واتضح أن سلسلة من أربعة أحرف كانت مطبوعة على تذكرتي: “إس إس إس إس”، مما يعني اختيار الفحص الأمني الثانوي. وقال المشرف: “يمكن لزوجتك وأطفالك المتابعة. سأطلب منك أن تتبعني”.
هذه المرة، طُلب مني المرور عبر جهاز الكشف عن المعادن ثم ماسح ضوئي بالموجات المليمترية، ويبدو أن أيًّا منهما لم يعثر على أي شيء. وسألني موظف من إدارة أمن النقل إن كان بإمكانه تفتيشي، فوافقت، ثم مرر الموظف أصابعه حول ياقتي وأسفل صدري. وبدا أن المارة يتجنبون النظر إليّ.
تفحصت الحشد ولمحتُ زوجتي، مرام، من بعيد، تبدو وكأنها تبحث عني. أردت أن أصرخ بها لأطمئنها، لكني خشيت أن يزيد الأمر سوءًا. ثم لمس الضابط بظهر يده أعضائي الخاصة ومؤخرتي. وكنت أعرف أن هذا يحدث أحيانًا للمسافرين، ولكن للحظة شعرت بالضيق كما كنتُ في الحجز الإسرائيلي.
بينما كان الضابط يمسح كفي بحثًا عن المتفجرات، لمحتني يافا أخيرًا وحاولت الإشارة إليّ. قلتُ لها بالعربية: “سأنضم إليك عندما ينتهي العم”، وتصرفت وكأن عميلة وكالة الأمن الداخلي قريبة مني حتى لا تشعر بالخوف. وأخيرًا، غادر المشرف لتصوير جواز سفري، وعندما عاد، قال إننا انتهينا.
أجبته: “قبل أن أذهب، يجب أن أخبرك شيئاً”، فأصغى إليّ. قلت له: “لقد اختطفني الجيش الإسرائيلي في تشرين الثاني/ نوفمبر، قبل أن يتم تجريدي من ملابسي. اليوم، جئتم اليوم وفصلتموني عن زوجتي وأطفالي، تمامًا كما فعل الجيش قبل بضعة أشهر”.
أومأ برأسه وبدا عليه الحرج؛ فسألته إذا كان سيفعل الشيء نفسه مع المسافرين من إسرائيل، وتفكرتُ في كيفية تمكن المستوطنين الإسرائيليين، الذين يعيشون على الأراضي الفلسطينية في انتهاك للقانون الدولي، من السفر إلى الولايات المتحدة دون الحاجة إلى تأشيرة. فأجابني: “هذا اختيار عشوائي. إنه ليس مخصصًا لك”.
قاومت دموعي، إذ كان بإمكان أطفالي رؤيتي، وقلت: “بالنسبة لي، هذا ليس عشوائيًا. لقد سافرتُ إلى الولايات المتحدة ثلاث مرات من قبل، ولم يحدث لي شيء من هذا القبيل”. ثم أعطاني بطاقة عمل للشكاوى موجهة إلى إدارة أمن النقل الأمريكية.
حملت حذائي وساعتي ووثائق السفر وتوجهت إلى حيث كانت عائلتي تجلس. تناولنا بعض الغداء، وسرعان ما نام الأطفال في المرحلة الأخيرة من رحلتنا. وفي سيراكيوز، أقلّنا خمسة أصدقاء قدامى وحملوا حقائبنا العشر في سياراتهم الثلاث، وساعد دفئهم، ورائحة الأشجار في الخارج، والوجبة الساخنة التي كانت تنتظرنا في منزلنا الجديد في تخفيف إرهاقي وإحباطي.
لم أكن أتوقع أن رحلتي التالية ستكون أسوأ بكثير. ففي ظهيرة يوم 1 تموز/ يوليو تقريبًا، أعادني أحد الأصدقاء إلى مطار سيراكيوز، وكنت مسافرًا إلى مهرجان للكتاب في سراييفو عبر واشنطن العاصمة وفرانكفورت. ولم أتمكن من الوصول إلى بطاقة الصعود إلى الطائرة من هاتفي، لذا جربت كشك الخدمة الذاتية، الذي أخبرني أن وثيقة سفري تحتاج إلى التحقق من صحة بطاقة سفري، وقال الكشك: “يرجى تنبيه أقرب ممثل للخطوط الجوية المتحدة”.
وحدقت مندوبة الخطوط المتحدة في مكتب تسجيل الوصول في شاشتها لفترة طويلة لدرجة أن زميلة لها جاءت لمساعدتها. ثم سألتني بصعوبة في نطق اسم وجهتي: “أين تقع سراييفو؟”.
فأجبتُ: “إنها عاصمة البوسنة والهرسك”، وسادت لحظة صمت أخرى، ثم سألت إن كانت هناك مشكلة.
قالت إحدى المندوبات: “نعتقد أنه لا يمكنك العبور في ألمانيا”. فوجئتُ بذلك، فقد كنتُ قد سافرت عبر ألمانيا عدة مرات في الماضي.
وأشارت المرأة الأولى إلى رقم جواز سفري، وقالت: “إنهم يسمحون فقط بالأرقام التي تبدأ بأربعة أو ثمانية أو تسعة، بينما رقمك يبدأ بستة”.
وجدوا لي مسارًا جديدًا عبر واشنطن العاصمة وأثينا. ولم أكن سعيدًا بذلك، لأن الرحلة ستكون أطول مما كانت عليه من قبل، لكنني لم أعتقد أن لدي خيارًا آخر، فقبلت بطاقات الصعود إلى الطائرة الجديدة وتوجهت إلى الأمن.
نظر إليّ موظف أمن المطار الذي فحص تذكرتي ثم اتصل بمشرفه، وكان مكتوبًا على تذكرتي “اختبار فحص أمني ثانوي” مرة أخرى. وقرأ لي شاب صغير قواعد الفحص الثانوي – وكانت صفحتين من الطباعة الصغيرة – بسرعة كبيرة.
مرت حقائبي عبر الماسح الضوئي، بينما مررت عبر جهاز الكشف عن المعادن وجهاز الموجات المليمترية. وسألني أحد الضباط إذا كنت قد خضعت للتفتيش من قبل، فأجبت: “لسوء الحظ”. كنت أعرف ما يجب فعله، فقد مرر يديه على كل جزء من جسدي، وتذكرت الجنود الإسرائيليين مرة أخرى. وأخيرًا، سُمح لي بالانضمام إلى المسافرين الآخرين.
وجدتُ بوابتي وأخرجت هاتفي، وعندما بحثت عن قواعد السفر عبر ألمانيا، أدركت أن ممثلي الخطوط المتحدة قد أخطأوا. إذ كانوا ينظرون إلى قائمة بأرقام بطاقات الهوية المحظورة، وليس أرقام جوازات السفر. وكان الرقم الموجود على بطاقتي الشخصية يبدأ بثمانية، مما يعني أنه كان مسموحًا لي بالسفر عبر ألمانيا، لكن الآن فات الأوان، فقد كنتُ بحاجة للصعود إلى الطائرة وإلا سأفوت رحلتي.
عندما هبطنا في العاصمة، اتصلت بالخطوط المتحدة. وأخبرني أحد الوكلاء أنه لا زال لدي حجز على رحلة لوفتهانزا إلى فرانكفورت. وسألتُ: “هل أنت متأكد؟”، فقد كانت بطاقة الصعود إلى الطائرة في يدي تشير إلى أثينا. للحظة، شعرت بالارتياح. كانت الساعة 5:20 مساءً، ورحلتي إلى فرانكفورت كانت مقررة في الساعة السادسة.
وعند البوابة؛ واجه موظفو لوفتهانزا مشكلة في طباعة بطاقة الصعود إلى الطائرة “الجديدة”. واتصلوا أيضًا بأحد المدراء، فأسرعتُ في سرد قصتي. وكنت محبطًا للغاية لدرجة أنني كنت أفكر في إلغاء الرحلة بأكملها. ثم قالت لي المديرة: “أخشى أنه يتوجب عليك الذهاب وإعادة تسجيل الدخول”. وأشارت إلى بطاقة الصعود إلى الطائرة الجديدة، حيث كان مكتوبًا عليها “اختيار الفحص الأمني الثانوي”.
أخبرتها، وأنا في حالة من الصدمة، أنني قد خضعت للفحص قبل ثلاث ساعات فقط. فقالت: “أنا آسفة، لا يمكنك الصعود إلى الطائرة بدون هذا”، وكانت الساعة قد أصبحت 5:33 مساءً.
كانت الاتجاهات إلى نقطة التفتيش في إدارة أمن النقل معقدة، لذا رافقتني موظفة لطيفة إلى هناك بينما كانت حقيبتي ترتد على ظهري مثل مطرقة الباب. وأكدت إحدى المشرفات في إدارة أمن النقل أنه سيتعين علي الخضوع للتفتيش مرة أخرى، وبدا أن الضابطة التي فتشت حقيبتي تلمس كل غرض فيها؛ أكياس الشاي، والأقلام، ودفتر الملاحظات، ومشط.
ووضعت يدها في كل جورب من جواربي، وكأنها تبحث عن شيء يبرر وجود “اختيار الفحص الأمني الثانوي” على تذكرتي. وتجمع حوالي خمسة موظفين من إدارة أمن النقل حولي وهم يراقبونني، وأدركت أن رحلتي قد دمرت بالفعل.
وبعد سبع عشرة دقيقة، ختم المشرف بطاقة الصعود إلى الطائرة أربع مرات باللون الأحمر. وعندما أخبرته بأنني عوملت بطريقة غير عادلة، أخبرني عن بوابة إلكترونية يمكنني تقديم شكوى عبرها. وعندما عدت إلى بوابة الصعود كانت الساعة 6:30 مساءً، وكانت الطائرة قد غادرت.
أعطتني الخطوط الجوية المتحدة خط سير جديد معقد يتضمن خمس رحلات: من سيراكيوز إلى واشنطن، ومن واشنطن إلى ميونيخ، ومن ميونيخ إلى فرانكفورت، ومن فرانكفورت إلى زغرب، ومن زغرب إلى سراييفو. كان موعد رحلتي التالية بعد منتصف الليل، وكافحت للبقاء مستيقظًا، فكرت في الاستسلام والعودة إلى سيراكيوز، فقد ضاع يوم من السفر هباءً، ولكنني ذكرت نفسي بالقراء الذين سألتقيهم في البوسنة، وتذكرت الحماس الذي سأحظى به عند توقيع كتابيَ الشعري باللغة البوسنية.
قبل ساعتين من الرحلة، طلبت بطاقة الصعود إلى الطائرة عند بوابة خطوط لوفتهانزا، ومرة أخرى، لم يتمكن الموظفون من طباعتها واتصلوا بالمدير، وعندما وصل بعد حوالي ساعة، سألني عما إذا كنت أحمل تأشيرة شنغن للسفر في الاتحاد الأوروبي.
سألته: “لماذا أحتاج إلى تأشيرة شنغن؟ أنا لا أقيم في بلد يحتاج إلى تأشيرة”.
فأجاب: “أنت بحاجة إلى تأشيرة شنغن لأنه لا يمكنك المرور عبر أكثر من بلد من بلدان الشنغن أثناء رحلتك”.
لم أصدق أن هذا يحدث، لقد أعطتني شركة الطيران مسار رحلة ممنوع عليّ السفر فيه. قلت: “عليكم أن تجدوا حلًا لهذا الأمر”. أمضيت اثنتي عشرة ساعة في رحلتي ولم أكن قد غادرت الولايات المتحدة بعد. كان المدير يبدو لطيفًا، ولكن بعد إجراء بعض الاتصالات استنتج أنه لن يُسمح لي بالصعود إلى الطائرة. قال لي : “ربما عليك أن تحاول العثور على رحلة لا تضطر فيها إلى العبور في منطقة شنغن”.
عندما اتصلت بشركة يونايتد وطالبت برحلة جديدة، قالت لي المرأة التي كانت على الطرف الآخر: “يمكننا أن نوفر لك رحلة إلى سراييفو، ولكن لا يمكنني أن أؤمن لك إقامة في فندق”. أوصلتني بمشرفها، فقلت له: “إن وظيفتك هي تتأكد ما إذا كان بإمكاني حجز الرحلة أم لا”.
وبقيت على الهاتف لمدة ست وثمانين دقيقة حتى الساعة 1:55 صباحًا، وكنت قد أوصلت هاتفي بمقبس الكهرباء حتى لا ينفد شحنه. قال المدير أخيرًا إن الرحلة الوحيدة التي يمكن أن تقلني إلى المهرجان في الوقت المناسب ستغادر إلى فيينا بعد أكثر من خمس عشرة ساعة، ولم تحجز لي شركة الطيران في فندق.
كنت محظوظًا لأن بوابتي الجديدة كانت بالقرب من مصلى صغير في المطار، فذهبت إلى الداخل ووجدت كومة من سجاجيد الصلاة في إحدى الخزانات. كانت الغرفة فارغة، فقمت بترتيبها على شكل وسادة وبطانية مؤقتة، واستلقيت ونمت نومًا متقطعًا لأكثر من اثنتي عشرة ساعة، قبل أن أذهب إلى البوابة، أديت كل الصلوات التي فاتتني.
هبطت في سراييفو في الساعة الثانية بعد الظهر من يوم 3 تموز/يوليو، بعد مرور أربع وأربعين ساعة على وصولي إلى مطار سيراكيوز.
ذكرتني سراييفو بغزة، فقد رأيت ثقوب الرصاص في جدران بعض المباني والحفر في عدد من الشوارع. وعادت بي ذكرياتي إلى سنة 2014، عندما قصفت القوات الإسرائيلية منزل جاري وأصلحت عائلتي الثقوب التي أحدثها القصف في منزلنا، وتذكرت اليوم الذي حوّلت فيه الغارات الإسرائيلية منزلنا إلى ركام في السنة الماضية.
قابلتُ العديد من الكتاب والفنانين خلال الأيام الأربعة التي قضيتها في سراييفو، ودعاني أحدهم لحضور مهرجان آخر هناك، وكان من المتوقع أن يحضره العديد من المصورين والفنانين من غزة. أخبرته في البداية أنني سأكون سعيدًا بالحضور، ثم فكرت في المطارات والتفتيش والأيام التي سأقضيها بعيدًا عن عائلتي، فغيرتُ رأيي.
عندما كتبتُ إلى محرر كتابي القادم عن مدى صعوبة الرحلة، قال لي: “ربما يجب أن نرتب لك فعاليات في المدن القريبة منك حتى لا تضطر إلى دخول المطارات”. كنتُ آمل أن يجعل السفر عالمي يبدو أكبر، لكنني شعرتُ بأنه قص أجنحتي.
ومما أدهشني أن رحلة العودة سارت بسلاسة، فلم يكن هناك “اختيار فحص أمني ثانوي” على تذاكري، وعندما قمت بتسجيل الدخول في مطار سراييفو، استغرق أحد الوكلاء بضع دقائق ليتأكد مع زميل له أنه يمكنني الصعود إلى الطائرة، ثم سمح لي بالعبور. وصلت إلى سيراكيوز حسب الموعد المحدد، وشعرت وكأنني هربت من شيء ما، واصطحبني أحد الأصدقاء من المطار.
في وقت لاحق، بحثت على الإنترنت عن تصنيف جوازات السفر من جميع أنحاء العالم؛ حيث احتلت جوازات السفر الإسرائيلية، التي تسمح بالسفر بدون تأشيرة إلى مائة وسبعين وجهة، المرتبة الثامنة عشرة على مستوى العالم، وكانت جوازات سفر الأراضي الفلسطينية، التي تسمح بالسفر بدون تأشيرة إلى أربعين وجهة فقط، في أسفل القائمة.
في الأسابيع التي تلت رحلتي، حاولت أن أفهم ما حدث لي. أخبرني صديقي حسن، وهو مواطن أمريكي أمضى معظم حياته في غزة، أنه يتم إيقافه بانتظام في المطارات وطرح أسئلة تطفلية عليه، على سبيل المثال، ما الذي يفعله في بلده الذي يحمل جنسيته، أو ما إذا كان يحمل سلاحًا، واتصلتُ أيضًا بثلاثة خبراء في مراقبة المسافرين.
أخبرتني المحامية شذى عبوشي دلال، وهي محامية في منظمة تعمل على مساءلة جهات إنفاذ القانون، ومقرها جامعة مدينة نيويورك، أن الحكومة الأمريكية تحتفظ بقائمة مراقبة تشمل المسافرين، وتطلق عليها اسم “قاعدة بيانات فحص الإرهابيين”، والجزء الأكثر شهرة في قاعدة البيانات هو قائمة الممنوعين من السفر. وقالت: “لكن هناك أيضًا قائمة المختارين”، والتي غالبًا ما يتم سحب الأشخاص المدرجين فيها من الطابور لإجراء فحوصات ثانوية، كما حدث معي.
وعرفتُ من فايزة باتيل، المديرة الأولى لبرنامج الحرية والأمن القومي في مركز برينان للعدالة، أن الخبراء أنفسهم لا يعرفون عدد قوائم المراقبة الموجودة أو كيفية إضافة الأشخاص إليها. ويمكن أن يخضع الشخص أيضًا لفحوصات ثانوية دون أن يكون مدرجًا في أي قائمة؛ فبعض المسافرين يتم إيقافهم بسبب المكان الذي سيذهبون إليه، أو لأن لديهم تذكرة ذهاب فقط.
بقيت أتساءل عما إذا تم إدراجي على القائمة لأنني من غزة، أو لأن الحكومة الإسرائيلية صنفتني خطأً بأنني تهديد. قالت دلال إن العديد من الفلسطينيين أبلغوا عن مشاكل في المطارات الأمريكية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وقالت لي باتيل: “هناك تبادل قوي في المعلومات الاستخباراتية بين إسرائيل والولايات المتحدة”. ولكن لم يكن لدينا أي طريقة لمعرفة ما إذا كان ذلك قد لعب دورًا في قضيتي.
ربطت ساهر سيلود، مؤلفة كتاب “مشتبه به إلى الأبد: المراقبة العرقية للأمريكيين المسلمين في الحرب على الإرهاب”، تجربتي بعهد بوش، عندما تم توسيع قاعدة بيانات الفحص. وذكرت أيضًا سياسة أخرى من تلك الفترة، وهي نظام الأمن القومي للدخول والخروج، والذي لم يعد موجودًا الآن؛ حيث تم إجبار الأشخاص من أربع وعشرين دولة ذات أغلبية مسلمة (وكوريا الشمالية) على التسجيل لأخذ بصماتهم وتصويرهم وإجراء مقابلات معهم، وقالت لي: “إذا كنت تتساءل عما إذا كان كونك فلسطينيًا جزءًا من هذا … بالطبع إنه كذلك”.
واصلتُ تفقد الموقع الإلكتروني الذي تقوم من خلاله وزارة الأمن الداخلي، التي تشرف على وكالة أمن النقل، بمراجعة الشكاوى. ولمدة عشرة أسابيع، كانت قضيتي “قيد النظر”، ثم أرسلت مجلة “نيويوركر” إلى وكالة أمن النقل أسئلة حول تجربتي، وبعد ساعتين ونصف، تلقيت “رسالة تحديد نهائي” من وكالة أمن النقل قالت في جزء منها إن بعض عمليات الفحص في المطار عشوائية، وأن الوكالة “لا يمكنها تأكيد أو نفي أي معلومات عنك قد تكون ضمن قوائم المراقبة الفيدرالية”.
وأشارت الرسالة إلى أن “الأنظمة تحتوي على معلومات من مصادر فيدرالية وحكومية ومحلية وأجنبية”، والتي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى حدوث الخطأ في تحديد هوية المسافرين، وقالت أيضًا إن الوكالة “أجرت تصحيحات على السجلات التي خلصت تحقيقاتنا إلى أنها ضرورية، بما في ذلك، حسب الاقتضاء، الملاحظات التي قد تساعد على تجنب حوادث الخطأ في تحديد الهوية”.
وردًا على أسئلة مجلة نيويوركر، قال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي: “نحن لا نعلق على المعلومات التي يتم تبادلها بين إسرائيل وشركائها الاستراتيجيين”. وشاركت وكالة أمن النقل الأمريكية معلومات أساسية حول عمليات الفحص الثانوية، وقالت: “تعمل إدارة أمن النقل الأمريكية بشكل وثيق مع مجتمعات الاستخبارات وإنفاذ القانون لتبادل المعلومات”، لكنها رفضت التعليق على تجربتي في المطار.
في يوم جمعة من شهر آب/أغسطس، كنتُ في المنزل في سيراكيوز عندما رن جرس الباب. كان الأطفال يلعبون في الخارج، وسمعتُ صوت رجل يسألهم: “هل والدكم في المنزل؟”، ووجدتُ أنا ومرام رجلين عند الباب. ظننت للحظة أنهما يعملان في المنطقة التعليمية التي كنا نحاول تسجيل الأطفال فيها، ثم رأيت أن أحدهما كان معه شارة ومسدسًا، وقال: “مرحبًا، نحن من المباحث الفيدرالية”.
أخبرني أحد العملاء أنه سمع عن تجربتي مع إدارة أمن النقل في مطار لوغان، وسألني عما إذا كان لدي بضع دقائق للتحدث عن ذلك. ظلوا واقفين بينما كنت جالساً على الأريكة، ودوّن أحدهم ملاحظات على دفتر صغير. أخبرتهم عن تجربتي في المطار، ثم بدأوا يسألونني عن مجموعة واسعة من المواضيع الأخرى: كيف كان شعورنا تجاه الحي، وماذا فعلنا في مصر وقطر، وكيف كانت حياتنا في غزة، ثم سألوني عن “تفاعلي” مع الجيش الإسرائيلي.
أخبرتهم أنني سبق أن وصفت تجربتي في هذه المجلة وعلى قناة “سي إن إن”، لكنهم أرادوا أن أتحدث عن ذلك. كنتُ قد بدأت في شرح كيف تم وضع عصابة على عيني وتقييد يدي عندما أدركت أن يزن كان يجلس بجانبي، لم أكن أريده أن يختبر ألمي مرة أخرى، لذلك أرسلته إلى الطابق العلوي قبل أن أكمل.
شرحتُ له أنني فقدت واحدًا وثلاثين فردًا من أفراد عائلتي الممتدة في غارة جوية واحدة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وأن قناصًا إسرائيليًا قتل أحد أعمام مرام خارج ملجأ في مدرسة، وفقدنا أنا ومرام أحد أجدادنا بسبب الأمراض التي تفاقمت بسبب الظروف في غزة، وأن العديد من أقاربنا يعيشون الآن في الخيام. كان لدي شعور بأنهم لم يأتوا لسؤالي عن تجربتي في المطار.
بعد مرور ساعة تقريبًا، سألني أحد العملاء إذا كان لديّ أي أسئلة أو استفسارات أو إذا كنت أرغب في إخبارهم بأي شيء، وأرسل لي رسالة نصية ودعاني للتواصل معهم. قبل أن يغادروا، طلبت منهم المساعدة في شكواي لدى إدارة أمن النقل، أو في إزالة اسمي من أي قائمة مراقبة قد أكون عليها، قالوا إنهم لا يستطيعون المساعدة مع الوكالات الحكومية الأخرى، أعطوني بطاقة عمل بدون اسم لمكتب المباحث الفيدرالية المحلي وغادروا.
نزلت مرام إلى الطابق السفلي مع يزن، وتناولنا الغداء معًا، لكنني لم أستطع الاستمتاع به. أخبرتني أنه عندما أرسلتُ يزن إلى الطابق العلوي، سألها “هل سيأخذون أبي؟”. وعندما سألت مجلة نيويوركر مكتب التحقيقات الفيدرالي عن تجربتي، رفض متحدث باسمه التعليق على المكان الذي حصل منه العملاء على اسمي أو سبب زيارتهم لي.
قبل سنتين، كتبتُ على فيسبوك أنني كنت في القاهرة لإجراء مقابلة للحصول على تأشيرة، ورأى صديقي أحمد منشوري، فراسلني قائلاً: “أنا في مصر أيضاً”، قضينا بضعة أيام بالصدفة معًا. أحمد من عشاق الطعام، وفي ظهيرة أحد الأيام التقينا لتناول الغداء في مطعم يطل على النيل، وفي يوم آخر، سافرنا معًا إلى البحر الأحمر، كنا فلسطينييْن ذاهبين لاستكشاف مكان كان عادةً بعيد المنال.
في وقت سابق من هذه السنة، كتبتُ إلى أحمد في غزة وقلت له: “لقد خطرت ببالي بالأمس. هل تذكر الوقت الذي قضيناه معًا في السويس في الصيف قبل الماضي؟ كيف حالك؟”
قال مازحًا: “أنا أقوم مثلك ببعض الرحلات. لكنني أقوم بها من ملجأ مدرسي إلى آخر”. لقد كان مؤخراً في رفح؛ حيث لجأ أكثر من مليون نازح فلسطيني، وحاول جمع المال اللازم لمغادرة غزة مع عائلته. ثم اجتاحت القوات الإسرائيلية رفح، وأغلقت الحدود وشردت العديد من العائلات مرة أخرى. وفي أواخر شهر آب/أغسطس، كان أحمد يعيش في خيمة مع زوجته وأطفاله الثلاثة في حي المواصي في خان يونس، وهو خامس مكان يقيمون فيه خلال السنة الماضية.
يبدأ أحمد يومه في السادسة والنصف صباحًا كل يوم، وقال لي: “لا يمكنك أن تنام لحظة واحدة بعد ذلك بسبب الذباب في الخيمة”. يقف أحمد في طابور لشراء الخبز بينما تقوم زوجته بإعداد وجبة الإفطار، والتي عادةً ما تكون من الأطعمة المعلبة. قال أحمد: “لإعداد الشاي، يجب أن أجد شخصًا آخر قد أشعل النار”، ثم يقضي حوالي ساعة ونصف الساعة في انتظار ملء دلاء الماء، ويظهر في الصور أنحف بكثير مما أتذكر.
لطالما حلم أحمد باصطحاب زوجته وأطفاله في رحلة إلى مصر وأبعد من ذلك، أن يركب معهم في القطارات، وأن يجرب معهم المطاعم والمقاهي، وأن يلتقط صوراً لأماكن جديدة. أما الآن فهو يحلم بالحصول على جنسية أخرى حتى يتمكن من الهرب في مثل هذه الأوقات؛ إنه لاجئ وليس مسافر، قال لي: “لقد فقدت الأمل في أن نعود إلى حياتنا السابقة. أشعر أننا سنبقى لاجئين إلى الأبد”.
المصدر: نيويوركر