ترجمة وتحرير: نون بوست
في الصورة، يحدق مكي عاشور في العدسة بعينين لامعتين، وشعر مصفف بشكل عصري؛ على غرار العديد من أبناء جيله العراقيين. كما يظهر هذا الشاب النحيف مرتديا الزي العسكري، وهو يبتسم بفخر عندما كان يحارب في صفوف وحدات الحشد الشعبي، خلال المعركة التي خاضها العراق ضد تنظيم الدولة.
انتشرت الصور التي تضم بعض الوجوه اليانعة الشابة، ناهيك عن وجوه يظهر عليها الضرر الذي ألحقته بها هذه الحياة، عن طريق متظاهري البصرة وتمت مشاركتها على الشبكات الاجتماعية كعلامة على التضامن معهم. وقد استشهد مكي عاشور في الثالث من أيلول/ سبتمبر، برصاصة في رأسه أثناء مظاهرة نُظمت أمام مقر محافظة البصرة، عاصمة جنوب العراق. وقد أصبح مكي عاشور رمزا لهذه المظاهرات، الذي أحيى موته، في سن تناهز 26 سنة، ظاهرة الاحتجاج الاجتماعي، التي تهز جنوب العراق الشيعي، منذ شهر تموز/يوليو (التي أسفرت عن مقتل 27 شخصا).
تعاقب احتجاجات المتظاهرين
أدى ارتفاع درجات الحرارة هذا الصيف إلى تفاقم الاضطرابات في هذه المقاطعات، حيث تراجعت مساحة الأراضي الزراعية نتيجة التصحر، فضلا عن أن السكان لا يستفيدون من عائدات النفط، التي تعد ثروة محلية كبيرة. وبسبب انقطاع الكهرباء، والنقص في مياه الشرب، وارتفاع معدلات البطالة، خرج الآلاف من العمال اليوميين، والخريجين العاطلين عن العمل، والنشطاء البارزين، والمدونين، إلى الشوارع احتجاجا على تدهور الخدمات العامة وتفشي الفساد في البلاد. لكن، على الرغم من الوعود التي قدمتها الحكومة والتدابير الأمنية التي اتخذتها، لا يبدو أن نيران غضب هؤلاء المتظاهرين ستخمد.
وفقاً لأستاذ العلوم السياسية في جامعة البصرة، محمد عطوان، يختلف “جيل 2018″ عن أسلافه في تحرره من كل الأيديولوجيات السياسية أو الدينية، فهو لا يملك أي انتماء لدكتاتورية صدام حسين القومية ولا للإسلام الشيعي، الذي يدعمه محمد باقر الصدر أو ثورة الخميني في إيران”
في الواقع، يجسد هؤلاء المحتجون من الشباب جيلا يضفي أنفاسا جديدة وروحا فريدة من نوعها على هذه الحركة الاحتجاجية، التي تعد جزءا من سلسلة الاضطرابات الاحتجاجية التي عاشت على وقعها البلاد منذ سنة 2011. كما يتسم هذا الجيل الجديد بالعفوية وأحيانا بالعنف، كما أنهم لا يخضعون لقيادة أي قائد أو حزب، ويتشاركون الطموحات ذاتها.
وفقاً لأستاذ العلوم السياسية في جامعة البصرة، محمد عطوان، يختلف “جيل 2018″ عن أسلافه في تحرره من كل الأيديولوجيات السياسية أو الدينية، فهو لا يملك أي انتماء لدكتاتورية صدام حسين القومية ولا للإسلام الشيعي، الذي يدعمه محمد باقر الصدر (مؤسس حزب الدعوة الإسلامية) أو ثورة الخميني في إيران. ويعد هذا الجيل نتاجا لما بعد سنة 2003 (سنة سقوط نظام صدام حسين)، وشبكة الإنترنت والشبكات الاجتماعية، والانفتاح على المجتمع العالمي، والتعددية الثقافية، غير أنه يقطع مع الكثير من الطبقات السياسية”.
القطيعة مع الطبقة السياسية
من البصرة إلى النجف، مرورا بالديوانية وبغداد، تجسد الشعارات المرفوعة منذ الصيف الماضي موجة عارمة من انعدام ثقة لم يسبق لها مثيل. لم يكن الأمر يتعلق بالمطالبة بتوفير الوظائف والنهوض بالبنية التحتية فقط، بل بالتنديد بانتشار الفساد “والحيتان الكبيرة” التي تقوم بتضخيم ثرواتها على حساب مصالح الشعب، كما هو الحال في الحركة المدنية المؤيدة للإصلاح التي ظهرت سنة 2015.
في جميع أنحاء البلاد، كان يعبر هذا الجيل الجديد عن رفضه الشديد للأحزاب” “والنظام”، وبالأحرى لكل الأحزاب الدينية الشيعية والنظام الطائفي الذي سيطر على البلاد منذ سنة 2005. كما طالب بخروج إيران من العراق، ولم يدخر جهدا في اتهام هذا الجار القوي بالتدخل في الشؤون الداخلية من خلال تقديم الدعم لهذه الأحزاب السياسية.
تكبد أهل الجنوب خلال الحرب ضد تنظيم الدولة خسائر فادحة، حيث ذهب الآلاف من المتطوعين إلى جبهة القتال
حيال هذا الشأن، أفاد المدون والناشط، خذير الطائف، البالغ من العمر 38 سنة، الذي شارك في جميع المظاهرات التي شهدتها البصرة منذ سنة 2011، أن العديد من الرموز الشيعية، على غرار المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، والقادة السياسيين، مثل الصدر وعمار الحكيم، الذين اعتاد الناس تقديسهم في المدينة، باتوا في الوقت الراهن مصدر سخرية.
من جانب آخر، تكبد أهل الجنوب خلال الحرب ضد تنظيم الدولة خسائر فادحة، حيث ذهب الآلاف من المتطوعين إلى جبهة القتال، في حين بقيت وعود الإصلاحات مجرد حبر على ورق بعد اندلاع الاحتجاجات بين سنة 2015 و2016. نتيجة لذلك، أصبح هذا الجيل في قطيعة مع الطبقة السياسية، التي أدت إدارتها الفوضوية إلى وصول البلاد إلى طريق مسدود.
في هذا الإطار، أوضح الصحفي والناشط، حسام كعبي، البالغ من العمر 39 سنة، والمقيم في مدينة النجف الشيعية، التي كانت ضحية العديد من عمليات القصف هذا الصيف، أن هناك تصعيدا واضحا في نوعية المطالبات. في الحقيقة، لم يعد المتظاهرون يقبلون بأن يتم تجاهلهم. وبدلا من ذلك، يريدون إحداث تغيير جذري، كما باتوا ينظرون إلى الأحزاب السياسية على أنها وباء.
حطم هذا الجيل الجديد حاجز الخوف تجاه الأحزاب ذات الميليشيات القوية والمسلّحة، التي تحظى بالدعم من قبل إيران
في المقابل، يزيد هذا الرفض من قلق الطبقة السياسية الشيعية، الذي ينبثق من قاعدتها الانتخابية، ويؤكد موجة السخط التي كانت جلية في الانتخابات التشريعية التي عقدت في 12 آيار/مايو. وقد بلغت نسبة الامتناع عن التصويت حوالي 57.5 بالمائة وربما أكثر بكثير في المقاطعات الجنوبية. وقد أعطت المنافسة، التي خاضتها الأحزاب المنتصرة منذ ذلك الحين لتشكيل الائتلاف الحكومي، المتظاهرين شعورا بأنهم يواجهون سياسيين لا يأبهون لمطالبهم ويهتمون فقط بخدمة مصالحهم الخاصة.
الشعور بالخيانة
فضلا عن ذلك، حطم هذا الجيل الجديد حاجز الخوف تجاه الأحزاب ذات الميليشيات القوية والمسلّحة، التي تحظى بالدعم من قبل إيران، وزادت من حجم سيطرتها ونفوذها على المدن الكبرى في جنوب العراق، في أعقاب الحرب التي شاركت فيها ضد تنظيم الدولة. وقد اتهم حسام كعبي هذه الميليشيات قائلا: “إنها تربك السلم الأهلي. فمنذ أن بدأنا بالتظاهر، أصبحت تخرج علينا بأسلحتها في الشارع. كما لديها معلومات عنا ونتوقع أن تزورنا في بيوتنا في أي وقت. ونتلقى التهديدات من قبلها غالبا، ولكننا لا نهتم!”. وفي السابع من أيلول/ سبتمبر، لم يتردد المتظاهرون في البصرة في تحدي هذه الميليشيات عن طريق إحراق مقرها الرئيسي.
لقد مضى زمن منذ أن انضم الشيعة المتطوعون، حاملين قناعة أنهم يخدمون دينهم، للميليشيات التي تواجه تنظيم الدولة في العراق أو حتى في سوريا، من خلال دعم القوات الموالية للرئيس بشار الأسد. وقد قُتل العديد منهم في المعارك، في حين يشعر الناجون الآن بأنهم مخذولون. وقد تساءل علي قاسم، المتظاهر البالغ من العمر 27 سنة والذي التقينا به في البصرة: “ما الذي تفعله كل هذه الدماء سوى تغذية هذه الميليشيات والدفاع عن مصالح إيران؟”.
كما يتنامى هذا الشعور ذاته بالخذلان أمام التنازلات الانتخابية لمختلف قادة الحشد الشعبي، الذين هم على استعداد للتوصل إلى اتفاق مع الزعماء السنة الذين اتُهموا في السابق بدعمهم لتنظيم الدولة. وقد قال طائف خضير: “لقد غذّوا الكراهية ضد المحافظات السنية بتصويرها على أنها من أنصار تنظيم الدولة وسبب مقت إيران والشيعة. والآن هم يمدون أيديهم لزعماء السنة الذين دعموا تنظيم الدولة! إنهم يخونون الشهداء الذين ساروا خلفهم في هذه الحرب”.
مظاهرة في البصرة في جنوب العراق في الرابع من أيلول/ سبتمبر.
في ظل الإجماع على تشخيص المعاناة التي يعيشها العراق، يكافح “جيل 2018” للتوصل لاتفاق حول كيفية معالجتها. فالجميع يتحدث عن الثورة، في حين يدعوا بعضهم لإنشاء “نظام رئاسي”، ويحن البعض الآخر إلى زمن لم يعرفه، فباتوا يرغبون في عودة “الرجل القوي” من طينة صدام حسين.
علاوة على ذلك، يعتبر الكثيرون العنف وسيلة عمل مشروعة لهم. وقد قال حامد جعجع، وهو ناشط علماني يبلغ من العمر 47 سنة، ومدير مدرسة في بغداد: “إنهم متظاهرون ملؤهم الغضب، وليسوا نشطاء كما هو الحال في المظاهرات المؤيدة للإصلاح في سنة 2015، والتي خرج فيها ممثلو النخبة من جميع أديان وأطياف المجتمع”.
مشاريع التبادل
إن راديكالية هذا الجيل تجعله يثير التوترات مع من سبقه في الاحتجاج. ووفقا لحامد جعجع، ينظر النشطاء القدامى، المنضمون لتحالف الشيوعيين والإسلاميين الشيعة المنتمين للتيار الصدري الذي تشكل خلال حركة 2015-2016 والفائز في الانتخابات التشريعية في 12 آيار/ مايو، للمبتدئين بعين الريبة والشك.
على الرغم من أن بعض العراقيين قد يرغبون في مواصلة تعليمهم أو في الحصول على عمل في الخارج، إلا أن بعضهم الآخر، على غرار طائف خُضير في البصرة، يؤمن بأهمية ريادة الأعمال في العراق والمبادرة الخاصة من أجل تغيير المجتمع انطلاقا من قاعدته.
في هذا الصدد، أفادت انتصار الميالي، وهي ناشطة شيوعية بارزة معروفة بنضالها من أجل حقوق المرأة، أنه “يجب ألا نرفض جميع الأحزاب، بل الأشخاص السيئين المتواجدين في صفوفها فقط. إن المتظاهرين لا يفقهون شيئا عن دور الأحزاب والبرلمان”. وتبدو هذه الفجوة أقل عمقا حين يتعلق الأمر بالمتظاهرين الذين خرجوا بأنفسهم إلى الشوارع سنة 2015، دون أي انتماء حزبي حقيقي. في ذلك الوقت، عبّر الكثير منهم بالفعل عن رفضهم للطبقة السياسية والخطاب الديني السائد. كما كانوا يُؤمنون (خطأً)، في الوقت ذاته بأن تغييرات حقيقية على رأس السلطة ستنتج عن انتخابات آيار / مايو سنة 2018.
في كثير من الأحيان، تصور الشباب المتميزون بدرجة تعليمية عالية والمنفتحون على العالم، آفاقا جديدة في برامج التبادل التي تضاعفت على امتداد السنوات الثلاث الأخيرة. فعلى الرغم من أن بعض العراقيين قد يرغبون في مواصلة تعليمهم أو في الحصول على عمل في الخارج، إلا أن بعضهم الآخر، على غرار طائف خُضير في البصرة، يؤمن بأهمية ريادة الأعمال في العراق والمبادرة الخاصة من أجل تغيير المجتمع انطلاقا من قاعدته.
في بغداد، تلتقي هذه الأجيال المختلفة في مكان ثقافي يُطلق عليه اسم “قهوة وكتب”. وأصبح هذا المكان بمثابة مقر قيادة لأكرم الأدهب، أحد رموز المحتجين الحاليين. ولا ييأس هذا الرجل البالغ من العمر ثلاثين سنة من افتتاح وحدة وقيادة للحركة الاحتجاجية الحالية. ويُشير الأدهب، الذي كان يرتدي ملابس بلون الكاكي من رأسه إلى أخمص قدميه، إلى مجموعة من زبائن هذا المكان المنتمين إلى الطلاب والمثقفين والفنانين.
في الحقيقة، كشفت نبرة صوته الفضة حين كان يُنادي أحد الشباب، عن أصوله المتواضعة. وقبل الانتخابات التشريعية، أنشأ هذا العامل اليومي المنتمي إلى حي شعبي واقع في مدينة الصدر، الذي عاد لتوه إلى مزاولة تعليمه في المدرسة الثانوية (بعد أن كان قد انقطع عنه في وقت مبكر جدا) جماعة الضغط؛ “شباب بغداد”.
يقول أكرم الأدهب إنه يتفهم غضب الشباب المتظاهرين، لكنه يستنكر في الآن ذاته أعمال العنف علاوة على اتساع دائرة المطالب التي “تُثقل كاهل الحركة”
في الوقت الحالي، تضم جماعة الضغط هذه 50 شخصا، كما بدأت نشاطاتها تتطور في الجنوب. وقد صرح الأدهب أن “المؤسسات العراقية لا تمتلك رؤية واضحة لمستقبل البلاد. نحن نرفض كل الأحزاب الشيعية والميليشيات التابعة لها، والفاسدين فضلا عن أولئك الذين يدعمون أجندة خارجية، ولكن بطريقة ديمقراطية بعيدة عن العنف”.
يقول أكرم الأدهب إنه يتفهم غضب الشباب المتظاهرين، لكنه يستنكر في الآن ذاته أعمال العنف علاوة على اتساع دائرة المطالب التي “تُثقل كاهل الحركة”، حسب رأيه. ولا يؤمن الأدهب لا بانقلاب عسكري ولا بحكومة طوارئ، ولا حتى “برجل قوي” على شاكلة صدام حسين، حتى تتمكن البلاد من تجاوز الأزمة. بالإضافة إلى ذلك، كان قد صوّت في انتخابات آيار/ مايو لصالح تشكيل ائتلاف مدني مستقل.
في هذا الصدد، فسّر الأدهب أن “المشكلة لا تكمن في الانتخابات أو في نوع محدد من الحكومات، وإنما في القوانين والطبقة السياسية المتواجدة حاليا والفساد. ولا يفهم المتظاهرون حقيقة النظام في العراق. إن ما يحتاجه العراقيون هو نظام فيدرالي”. ويأمل أكرم الأدهب في تجسيد هذا البديل على أرض الواقع وفي تمرير حماسه إلى شباب جيله. كما يعترف من تلقاء نفسه بأن “هذا الأمر سيستغرق سنوات عديدة، حتى يُؤتي هذا المشروع أُكله”.
المصدر: لوموند