بدأ الباحث العربي المستقل الأستاذ مهنا الحبيل كتابه بالذكرى السنوية للأزمة الخليجية، واضعًا أمام أيدينا حصيلة هذه السنة من الانتكاسات، مذكرًا لنا بالبداية التي توارت عمدًا خلف الأحداث بعد أداء مهمتها، فهي لم تكن سوى مطية لأهدافٍ كُبرى.
كتاب “نكسة حزيران الخليجية” عبارة عن رحلة توثيقية حزينة، لكنها مهمة للحاضر وأهم للأجيال القادمة، ليس فقط للإنسان العربي الخليج العربي وإنما لكل أبناء المنطقة العربية، فهذه الأزمة لم تكن وليدة المنطقة الجغرافية والسياسية فقط، بل متشابكة النسب مع كل القضايا الإقليمية وحتى الدولية وبالتالي متشاركة الأثر معها.
استوقفني صاحب الكتاب وهو يقول في المقدمة عن كتابه: “إنه توثيق للحدث ومنعطفاته الصراعية كمادة تحليل سياسي”، تتبّعت المحطات كلها بحسب رؤية كاتبه، وحرصه على استقلال اللغة المهنية له، وهي لغة استقلال لا تعني مطلقًا عدم تسجيل موقف من الكارثة.
وتذكرت الدكتور إدوارد سعيد وهو يصف حال المثقف الباحث عن الحقيقة ورهانات التحدي للاستقلال، وكيف أن المستقل ليس بالضرورة أن يكون محايدًا، فهو منحاز في دفاعه عن الحقيقة الأخلاقية وقيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
نجد في الكتاب قراءة تاريخية لعلاقة منطقة الخليج منذ عهود الاستعمار المختلفة، وحرص الغرب القديم أي”أوروبا” عليها
ما يُثري لغة الكتاب هي الأبعاد المعرفية الكبيرة للكاتب بالمنطقة من الناحية البنيوية الاجتماعية ومن الناحية التأريخية السياسية، فهو متخصص في الشؤون الإستراتيجية لها، وله قلم معروف، وصدرت له كتب سابقة، لذا نجد أثر هذا في ربطه للأحداث وقراءته للوقائع.
جاء الكتاب في تسعة فصول، بوّبت المراحل الزمنية خلال سنة من عمر الأزمة التي نرجو أن ينتهي عمرها ولا يمتد، راصدة لكل التطورات وواضعة كل مسؤولية على صاحبها. لكن في استعراضنا هذا لن نقف على التبويب وإنما نُفصل قراءة الكتاب بحسب المواضيع كما تظهر لنا.
الخليج والعالم الغربي
نجد في الكتاب قراءة تاريخية لعلاقة منطقة الخليج منذ عهود الاستعمار المختلفة، وحرص الغرب القديم “أوروبا” عليها، وكيف انتقل دور التبني بانتقال النظام العالمي إلى الغرب الجديد، ولعبة توازنات القوى ودورها في السياسة لمصالحها دون أي اعتبارات تشمل إنسان المنطقة، وكيف تُعتبر هذه الأزمة مسرحًا مجانيًا للمخابرات العالمية، قُدِّم من خلاله ملفات خطرة بها أضحت هذه الجغرافية رهينة المصالح الدولية واستنزافاتها الجشعة بصورة غير مسبوقة على امتداد تأريخ العلاقة.
استعرض الكتاب الملفات من قبل وبعد ثورات الربيع العربي، قارئًا لنا اختلاف وجهات النظر حولها، مربوطة بالتوترات بين دول الخليج
وكيف كشفت الأزمة وهمية المصالح المشتركة المتمثّلة في وجود القواعد العسكرية بهدف التعزيز الأمني، بعد أن تكشفت خطط الاجتياح العسكري لقطر والمدعومة بخط أخضر من ترامب التي أبطلها دخول المؤسسات الأمريكية.
منظومة المجلس الخليجي
هنا نقف مع الكاتب على الملفات الشائكة:
– ملف المذهب الديني والعلاقة بالسياسي وأثره على البنية الاجتماعية الداخلية للدول، وعن علاقة الدول ببعضها، وكيف كشفت الأزمة عن بعض الملابسات جراء التداخل، ونجده يرسم طريقًا لوقف التدهور.
– ملف التداخل القبلي والبناء الحديث للدول، وأثر الأزمة السلبي في محاولة الحشد والتجييش للقبيلة في الانتكاس لمربع ما قبل الإسلام.
– ملف سيادة الدول ورؤاها المنفصلة في السياسة الخارجية وعلاقتها ببعض الملفات الإقليمية، وكيف كانت هذه النقطة سببًا في التصعيد.
– الملفات الداخلية لكل دولة، وغياب المؤسسية ورفض الإصلاح ومكافحته، وكيف كان لهذا الأمر علاقة مباشرة بهذه النكسة، وكيف أُستعملت النكسة لتسويغ الكثير من أزمات الداخل.
– وأخيرًا ملفات التاريخ في علاقة الدول ببعضها وكيف كان أثر ذلك في الموقف الذي اتخذته عُمان والكويت من الأزمة.
تناول الكتاب الدور التركي في الحد من التصعيد وتحجيمه، وعلاقة تركيا كما ينبغي لها أن تكون بوصفها، كضلعٍ مهم يحفظ التوازن في ظل التحليق الغربي الدائم على المنطقة
الخليج والملفات الإقليمية
استعرض الكتاب الملفات من قبل وبعد ثورات الربيع العربي، قارئًا لنا اختلاف وجهات النظر، مربوطة بالتوترات بين دول الخليج، وهنا يُبيّن لنا وجود الخلاف السياسي، قائلًا في الوقت نفسه بأنه قابل للحل والاتفاق حال الجلوس لطاولة الحوار وفق السياسة وتقاطعاتها.
في ذات الموضوع تناول الدور التركي في الحد من التصعيد وتحجيمه، وعلاقة تركيا كما ينبغي لها أن تكون بوصفها، كضلعٍ مهم يحفظ التوازن في ظل التحليق الغربي الدائم على المنطقة، ووضع العلاقة معها الآن كما أرادت له البروباغندا ومن يقف خلفها من صُنَّاع القرار السياسي.
كما نجد مساحة كبيرة استوفت المكاسب المجانية لإيران الدولة، نتيجة التخبط الكبير في السياسة الخليجية الذي مُورس خلال هذه الفترة، معها مباشرة أو من خلال أذرعها الممتدة، وكيف يُعزّز هذا الأمر موضعها كخصم عاقل ومنضبط، فضلًا عن تعزيز تقدّم مشروعها الطائفي، وهذا الملف تحديدًا تناوله صاحب الكتاب بتفصيل في مؤلفات أخرى لمن أراد الاستزادة.
بهذا الاختزال المخل لمواضيع الكتاب، كان الهدف وضع القارئ أمام تصوّر شامل للفكرة التي تناولها الأستاذ الحبيل بتفصيلات كبيرة وربط بينها في كل منعطف صادف مسيرة هذه السنة من الأزمة، ابتداءً من حمل لواء مبادرة المصالحة الكويتية ودعم مسقط لها، صعودًا وهبوطًا في آمال أهل الخليج الذين قُطّعت روابط لُحمتهم بإخفاقات أهل السياسة، وكيف تحكم الجابي الأمريكي لتقاطعات خزينته ولمشروع الصهيونية بمساعدة صاحب حلم الزعامة الإقليمية.
لم يكتفِ الكتاب بالتوثيق والقراءة فقط، وإنما جاءت فيه مقترحات للتقارب والحل بما أسماه “فك الاشتباك”.
أفرد الكاتب في الفصل الأخير قراءة خاصة حول دولة قطر وأسئلة المستقبل التي تنتظرها
لماذا “فك اشتباك” وليس “مصالحة”؟
يرى الكاتب أن الأزمة تتم بصورة تفاوض ثنائي بين طرفيّ الأزمة الرئيسيين “الرياض والدوحة”، فملفات التشابك بينهما تم إشعالها واستخدامها وهي ملفات مهما كَبُرَت، يُمكن الوصول فيها لنهايات بحساب المصالح السياسية، الذي يرى أنه الخطاب المُجدي لحفظ بيضة مجلس التعاون ومن بعده الوطن العربي الكبير، وبعد هذه الخطوة المرجوة يكون الزمن كفيلاً بلملمة الجراحات النازفة والتئام القلوب، حسب وصفه.
أفرد الكاتب الفصل الأخير لقراءة خاصة حول دولة قطر وأسئلة المستقبل التي تنتظرها، حيث حطّت رحاله من رحلة المهجر الكندي بعد شهور على بداية النكسة، وفي هذا الاقتباس من الكتاب يظهر ما كان يشغل باله:
“شتاء كندا القارس، يُدفئه روحها الحقوقية الدستورية لحملة الفكر المستقل، ومع موقف الشكر لـ – Canada welcome – وهو شعارها التاريخي للضيف، الذي بات اليوم من أبنائها المقيمين، فإن ذلك كله لا يغير عشقنا للساحل في بحر الخليج وبره وثلاثية الفلاح والغيص والبدوي، هكذا تُلاقي مشاعر المهجر، مطار الدوحة قادمًا ومودعًا، باسمها وباسم كل الساحل الممتد لعرب الخليج الذي مزقته رياح فتنة الأزمة، غير أن لنا بالله عهدًا أن لا يزال الناس فيه يستجمعون أركان وحدتهم، وإن ضلت سياسة بعض أقوامهم”.
فتكلم هنا عن انطباعاته بعدم التغيّر في الروح الاجتماعية، ولمس في فترة وجوده التحول الإستراتيجي لمسارات النهضة الداخلية والحرص على تعزيز التأمين الوجودي بعد الدرس الكبير، في هذا الفصل قراءات واقتراحات جديرة بالاهتمام من أهل قطر.
في ختام هذا العرض الذي سار على سطح الكتاب ومواضيعه الكبيرة، أعتقد أنه من الكتب المهمة لمن يبحث حول الشأن الخليجي وأزمته الأخيرة، حيث أنه تميز أيضًا بتقصي الكاتب وبصيرته والمهارة المهنية واللغة المنضبطة غير العاطفية والمسلك المحايد في الطرح.