بطرق عديدة، يعدُّ الصفّ الأول عامًا من التحولات المهمة التي تستلزم على الوالديْن فهمها واستيعابها بشكلٍ عميق لما يترتّب عليها من الكثير من التطورات خلال المراحل العمرية التالية. فهذه المرحلة هي نقطة التوسّع في اكتساب المهارات المختلفة التي قد يكون طفلك اكتسب أساسيّاتها في رياض الأطفال ومرحلة ما قبل المدرسة، وحان الوقت لتطويرها أكثر واستكشاف أبعادها الأعمق بشكلٍ مختلف.
يطوّر طفلكَ خلال هذه المرحلة العديد من القدرات والمهارات المعرفية والإدراكية، ويبدأ خلالها بالالتزام ببعض الأعمال الروتينية وأنماطٍ محدّدة للتعلّم تتطلّب منه تركيزًا وانتباهًا لفتراتٍ طويلة من الوقت لم يعتد عليها من قبل. كما أنّ اتساع عالمه الاجتماعيّ يدعم سيرورة هذه التطوّرات ويزوّده بالعديد من المهارات الاجتماعية والعاطفية المختلفة.
بدايةً، هذه الفترة هي فترة انتقالية في النمو البدنيّ والفيزيائي عند الأطفال، بدءًا من تعلّم كيفية رمي الكرة والتقاطها، أو الإمساك بالقلم بطريقةٍ صحيحة والكتابة بطريقةٍ أفضل ممّا تعلّمها في مرحلة رياض الأطفال، وغيرها الكثير من المهارات. ولعلّ أهمّ التطورات الحاصلة هو تحسينهم للتنسيق بين المهارات الحركية خلال هذه المرحلة من النموّ.
يصبح الطفل في هذه الفترة أكثر قدرةٍ على التنسيق بين مهاراته الحركيّة المختلفة، كأن يصبح أكثر وعيًا بأصابعه بكونها أدواتٍ ممتازة يمكن استخدامها في الكثير من المهام
وتنقسم المهارات الحركية عند الأطفال إلى نوعين رئيسيين: المهارات الحركية الكُبرى التي تعتمد على العضلات الكبيرة مثل حركة عضلات الذراع أو الساق أو القدم أو حركة الجسم بكامله، ومن الأمثلة عليها الجري والقفز ورمي الكرة وركوب الدراجة وغيرها. والمهارات الحركية الدقيقة التي تعتمد بدورها على العضلات الصغيرة وهي أكثر دقةً وتعقيدًا، مثل الإمساك بالقلم للكتابة والرسم والقدرة على ارتداء الثياب.
وفي حين أنّ كلا النوعين من المهارات الحركية غالبًا ما يُشار إليه تحت عناوين منفصلة، إلا أنّها في الواقع تعتمد على بعضها البعض وتعمل بشكل وثيق معًا كجزء من النمو البدني للأطفال. فالمهارات الحركية الكبرى تعمل بمثابة الأساس لتنمية المهارات الحركية الدقيقة؛ الأكتاف والأذرع القوية توفّر القدرة على الكتابة واستخدام المقص على سبيل المثال. وبكلماتٍ أخرى، يصبح الطفل في هذه الفترة أكثر قدرةٍ على التنسيق بين مهاراته الحركيّة المختلفة، كأن يصبح أكثر وعيًا بأصابعه بكونها أدواتٍ ممتازة يمكن استخدامها في الكثير من الأنشطة والمهام إلى جانب عضلات يديه وقدميه.
كيف يتطوّر ذكاء الطفل في صفّه الأول؟
يمكن الرجوع إلى نظرية عالم النفس السويسري، جان بياجيه، والتي تُعرف باسم “نظرية التطوّر المعرفيّ عند الأطفال، لفهم كيفية اكتساب طفلك للمعرفة والإدراك عند الأفراد بدءًا من مرحلة الطفولة المبكّرة إلى ما بعد البلوغ. وباختصار، تنصّ النظرية على أنّ الفرد يمرّ بعدة مراحل يتطور أثناءها ذكاؤهم وقدرتهم على رؤية العلاقات بين الأشياء. هذه المراحل تتم وتكتمل في ترتيب ثابت لكل الأطفال، غير أنّ ما يختلف هو طول الفترة العمرية لكل مرحلة، فقد تختلف من طفل لآخر.
ما يهمّنا في حديثنا عن طلّاب الصف الأول هو المرحلة الثالثة من النظرية والتي تُعرف باسم “مرحلة العمليات المادية”، وتظهر ما بين عمريْ السابعة والثانية عشر، يبدأ الطفل خلالها بالتفكير المنطقي فيما يتعلق بالأشياء من حوله. إضافةً إلى استخدام المنطق الاستقرائي، أو الاستدلال من معلومات محددة للوصول إلى مبدأ عام، مثل قدرته على تصنيف الأشياء المتشابهة لفئة واحدة، واكتساب مفاهيم عديدة مثل الكل والجزء، والكم والكيف، والمقارنة والتمايز، فيصبح قادرًا على تمييز الطويل والقصير، الكبير والصغير، وهكذا.
ينتقل من استخدام اللغة المتمركزة حول الذات إلى استخدام اللغة ذات الطابع الاجتماعيّ تبعًا لتواجده في بيئة زخمة اجتماعيًا بعيدًا عن نطاق العائلة والأشقّاء.
وخلال هذه المرحلة، يصبح الطفل أيضًا أقل تركيزًا على الذات ويبدأ بالتفكير في الكيفية التي قد يفكر بها الآخرون ويشعرون بها فيطوّر التعاطف والشعور بالآخر، إلى جانب فهمه أنّ أفكاره وآراءه ومشاعره تُعتبر متميزة قد لا يشاركهم بها أي شخص آخر بالضرورة. كما أنه ينتقل من استخدام اللغة المتمركزة حول الذات إلى استخدام اللغة ذات الطابع الاجتماعيّ تبعًا لتواجده في بيئة زخمة اجتماعيًا بعيدًا عن نطاق العائلة والأشقّاء.
التطوّر الاجتماعيّ: احذر ضغط الأقران!
مع بدئه لسنته الأولى في المدرسة، يصبح طفلك أكثر ميلًا نحو الاستقلالية ويبدأ بتكوين حياته الاجتماعية خارج نطاق البيت والحيّ. وهذه الفترة التي يظهر فيها “ضغط الأقران” كعاملٍ مساعِد في بناء شخصية طفلك الذي يبدأ مع الوقت بمحاكاة أصدقائه وتقليد تصرفاتهم والتأثر بألفاظهم وكلماتهم وأساليب لعبهم. كما يبدأ بالتفكير فيما يفكّر به الآخرون، ويحاول تقييم نفسه ونظرته لذاته من خلالهم، ويقدّر أصدقاءه بنفس مستوى تقديره لوالديْه ومعلّمه.
يظهر في هذه المرحلة “ضغط الأقران” كعاملٍ مساعِد في بناء شخصية طفلك الذي يبدأ مع الوقت بمحاكاة أصدقائه وتقليد تصرفاتهم والتأثر بألفاظهم
معظم الآباء يعتقدون أن التأثر بالأقران والأصدقاء يبدأ مع المراحل المتقدمة، إلا أن العديد من الدراسات أثبتت أنّ التأثر السلبي يمكن أن يبدأ في المرحلة الابتدائية من المدرسة، مع ظواهر مثل الولاء والانتماء والتمييز العنصري ضد أطفالٍ آخرين، والقلق من عدم التوافق أو الخوف من الأحكام المسبقة. كما يبدأ الطفل مبكّرًا بالوعي لعواقف ونتائج مقاومة ضغط المجموعة والأقران، ما يسبب عنده نوعًا من القلق والتوتّر قد يجهل الآباء مصدره.
قد يؤدي ضغط الأقران إلى اكتساب طفلك للعديد من التصرفات العدوانية والسلوكيات غير اللائقة في صفّه الأول
كما أنّ العديد من الأطفال يندمجون في بعض التصرفات المزعجة تجاه أقرانهم مثل الهمس واللمز وإطلاق الألقاب المزعجة والضرب والتورّط بشجارٍ ما هنا أو هناك. الأمر قد يكون طبيعيًا نظرًا لتأثير البيئة والأقران، لكن يجب متابعته والتواصل مع المعلّم ليكون الوالديْن على دراسة بسلوك طفلهم في المدرسة. إضافةً إلى التركيز على قواعد السلوك الصحيح في البيت بعد عودة الطفل من المدرسة، ما يساعد على تحفيز وعيه بتلك القواعد سواء في البيت أو في المدرسة.
ونظرًا لأنّ طلاب الصف الأول قد بدأوا للتوّ في تطوير مهاراتهم الاجتماعية، فبالتأكيد سوف يكون هناك مطبات في طريق صنعهم للصداقات والعلاقات مع الأطفال الآخرين. وبالتالي، ينصح خبراء التربية الوالديْن بمتابعة مواقف أطفالهم تجاه المدرسة والأصدقاء، والتحدث معهم بين الفينة والأخرى عن مفاهيم الصداقة والتعاطف والعدالة والإنصاف وعدم التمييز أو إيذاء الآخرين وانتقادهم. كما يمكن لأسئلة “ماذا لو” أن تقدّم العديد من السيناريوهات المتخيّلة التي قد تساعدكَ في فهم طفلك وأدائه في المدرسة بين أقرانه.
ما يجب على الآباء فهمه واستيعابه قبل كلّ شيء أنّ تطوّر طفلهم الحاصل مع سنته الأولى في المدرسة لا ينبغي أنْ يكون متماثلًا مع تطوّر الأطفال الآخرين على حدٍ سواء، فكلّ طفلٍ بتكوينته وشخصيته ومهاراته البدنية والمعرفية والاجتماعية يعدّ فريدًا بشكلٍ مختلف عن الآخرين ولا يجب مقارنته بهم حتى على مستوى التوائم المتطابقة.
كما أنّ التطوّر في الصف الأول قد يحصل في جزءٍ معيّن دون الآخر، كأنْ يتطوّر طفلك على المستوى البدنيّ والإدراكيّ في حين عجزه عن التطوّر على المستوى الاجتماعيّ والعاطفي، والذي قد يحدث في الصف الثاني على سبيل المثال. لذلك، فما يهمّ فعلًا هو عدم التعامل مع التطوّر كمسارٍ محدّد يجب إنجازه خلال فترة معينة، وإنما الاهتمام به وتغذيته بالشكل اللازم والمطلوب لحين حدوثه. نقطة أخرى مهمّة، إذ يتعلم بعض الأطفال بسرعة أكبر من غيرهم، لكن يجب على الآباء ألا يتجاهلوا علامات صعوبات التعلم المستمرة. وإذا أظهر طفلك بعضًا من علامات المشاكل هذه، فقد حان الوقت للتفكير في المزيد من التقييم واللجوء إلى مساعدة وتدخّل خبيرٍ ما.