على متن قارب صغير غير مجهز في الغالب بأبسط وسائل الحماية، يجلس عشرات المغاربة الواحد بجانب الآخر، تتقاذفهم موجات البحر الأبيض المتوسط قاصدين إسبانيا، رغبة في الوصول إلى دول الشمال حيث ينتظرهم رغد العيش حسب تصورهم.
هذه بعض المشاهد التي وثقها “الحراقة” المغاربة مؤخرًا لعمليات هجرة جماعية غير نظامية من السواحل المغربية إلى السواحل الإسبانية، مشاهد أعادت للأذهان موجات هجرة سابقة راح ضحيتها المئات من المغاربة.
https://youtu.be/-rj3VVzL8pA
قوارب الموت تعود.. وبالتوثيق
إلى وقت قريب كانت قوارب الهجرة غير النظامية أو ما يطلق عليها أيضًا “قوارب الموت” التي تنطلق من المغرب نحو سواحل القارة الأوروبية تقل فقط المهاجرين الأفارقة القادمين من دول جنوب الصحراء، لكنها مؤخرًا عادت لتقل أهل الدار الذين ضاقوا ذرعًا بدارهم.
اللافت للأنظار هذه المرة أن هجرة المغاربة التي عادت بعد سنوات من السبات لم تعد سرية، فالمهاجرون ينشرون رحلتهم وأطوارها على مواقع التواصل الاجتماعي، ومؤخرًا نشر شبان مغاربة رحلتهم من طنجة إلى إسبانيا على متن زورق صغير، وظهروا في الفيديو يرددون شعارات وأغاني حماسية، وأبدوا لهفتهم إلى أن تطئ أرجلهم الأرض الإسبانية التي تعتبر بداية تحقيق “الحلم المنشود”.
يتحدى هؤلاء المهاجرين الإجراءات الأمنية المشددة من الأمن المغربي والإسباني للوصول إلى مبتغاهم
ما يسجل أيضًا أن الهجرة لم تعد مقتصرة على فئة الشباب فقط، بل اقتحم هذا المجال كبار السن والصغار واليافعين قادمين من مختلف مدن المغرب، حيث تجدهم يترصدون الفرصة لاجتياز الحدود خلسة وركوب البحر مستغلين قرب المسافة وتحسن أحوال الطقس.
وكان تقرير رسمي لوزارة الداخلية الإسبانية كشف أن عدد الشباب المغاربة الذين هاجروا بطريقة غير قانونية إلى الجارة الشمالية في السنوات الـ3 الأخيرة ارتفع بشكل مهول ومقلق، إذ وصل الرقم إلى 10104 مهاجرين في الفترة بين 2016 و15 من يوليو/تموز 2018.
وفي شهر أغسطس/آب الماضي أكدت صحيفة “أخبار اليوم” المغربية نقلًا عن صحيفة “أ ب س” الإسبانية وجود ما يقارب 5 آلاف قاصر مغربي غير مصحوب بإسبانيا، دون احتساب الذين يتسكعون في الشوارع ممن لم يشملهم الإحصاء الرسمي، علاوة على أن مجموع عدد المهاجرين غير الشرعيين المغاربة بإسبانيا بلغ إلى حدود هذا الشهر 250 ألف شخص.
محسن لنون بوست: “الوضع في بلادي لم يعد يسمح بالعيش الكريم، فلا الشغل موجود، ولا الكرامة متاحة”
أوضحت الصحيفة أن المغاربة احتلوا المرتبة الأولى ما بين يناير/كانون الثاني الماضي و15 من يوليو/تموز الحاليّ بـ3403 مهاجرين سريين، متبوعين بمهاجري غينيا كوناكري بـ2712 مهاجرًا، ومالي بـ2117 مهاجرًا، وساحل العاج بـ1116 مهاجرًا، وغامبيا بـ1031 مهاجرًا.
وأشار التقرير إلى أن المغاربة يمثلون نسبة 17% من مجموع 19997 مهاجرًا سريًا وصلوا إلى إسبانيا في الفترة ذاتها، ولفت التقرير إلى أن المغاربة احتلوا المرتبة الأولى أيضًا سنة 2017، إذ بلغ عددهم 5391 مهاجرًا سريًا، متبوعين بالجزائريين 5200 مهاجر، والغينيين/كناكري بـ4267 مهاجرًا، والغامبيين بـ2845 مهاجرًا.
ويتحدى هؤلاء المهاجرين الإجراءات الأمنية المشددة من الأمن المغربي والإسباني للوصول إلى مبتغاهم، فرغم المجهودات المبذولة من طرف السلطات المغربية ونظيرتها الإسبانية من أجل وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين لأوروبا عبر زوارق الموت، فإن شبح الهجرة ما زال يتواصل يومًا بعد يوم وبحدة أكبر من سابقتها.
البحث عن الكرامة
تزايد وتيرة الهجرة غير النظامية في صفوف الشباب المغربي خلال الفترة الأخيرة يرجعه المغاربة إلى أسباب عديدة، “محسن” شاب مغربي يبلغ 26 سنة، أنهى منذ 3 سنوات تعليمه الجامعي في تخصص علم نفس، إلا أنه لم يجد عملاً بعد، رغم تقديمه العديد من المطالب وفق قوله.
بدأ محسن في الفترة الأخيرة يفكر جديًا في الهجرة نحو بلجيكا للحاق بأقاربه هناك، ويرى محسن أن طريق الوصول إلى هذا البلد الأوروبي يبدأ بالهجرة نحو إسبانيا ومن ثم يواصل طريقه لبلوغ غايته والهروب من هذا الواقع الأليم الذي يعيشه على غرار باقي المغاربة.
يقول هذا الشاب المغربي لنون بوست إن الوضع في بلاده لم يعد يسمح لهم بالعيش الكريم، فـ “لا الشغل موجود، ولا الكرامة متاحة، فهم (أي الحكومة ومؤسسات الحكم في البلاد) لا يوفرون لنا أسباب الحياة ولا يتركوننا نبحث بأنفسنا عن توفير هذه المتطلبات”.
بدوره يقول الشاب أكرم (32 سنة) لنون بوست: “صحيح أني لم أكمل دراستي الجامعية، لكن يحق لي أن أشتغل شغلًا يضمن لي عيش حياة كريمة في بلدي الذي أحبه كثيرًا، تعبت من البحث المتواصل دون جدوى، الأبواب كلها مغلقة وما نسمعه في الشاشات من توفر لفرص الشغل غير موجود في الواقع، كأنهم يتحدثون عن بلد آخر ليس المغرب”.
https://youtu.be/B4Mc_44Mx3E
تتميز موجة الهجرة الحاليّة هذه المرة عن سابقاتها بكونها تضم أطفالًا ونساءً
يؤكد أكرم أن هذا الوضع حمله للركوب على متن قارب صغير من سواحل طنجة قاصدًا إسبانيا بمعية بعض أصدقائه وخوض غمار مغامرة الهجرة، إلا أن قوات الأمن أمسكت بهم وحالت دون وصولهم إلى السواحل الإسبانية، وأرجعتهم من حيث جاؤوا خائبين.
هذه الحادثة لم تثنِ أكرم عن المحاولة مجددًا، حيث يؤكد لنون أنه ينوي قريبًا العودة وينتظر فقط الفرصة لذلك، ويرى هذا الشاب المغربي أن الموت فقط سيقف حائلًا أمام وصوله لإسبانيا والعيش بكرامة فقدها في بلده الذي أحبه، وفق تعبيره.
وقالت دراسة جديدة إن ثلثي المغاربة يشعرون بالإحباط بسبب عدم حصولهم على أجوبتهم مقابل طلبات التوظيف التي يقدمونها، وسجلت أن واحدًا من أصل 10 مغاربة يحصلون على وظيفة، وأقر 17% من المستجوبين أن الأوضاع الاقتصادية للبلاد سبب لعدم حصولهم على عمل.
وكشفت الدراسة التي أنجزها موقع “Recrute.ma” بعد استطلاع شمل أكثر من 4 آلاف شخص، ونشرتها يومية “leconomiste” الناطقة باللغة الفرنسية، أن 17% من المغاربة أرجعوا انتكاساتهم في عدم الحصول على عمل إلى الأوضاع الاقتصادية التي تعرفها البلاد.
تراجع الحس الوطني
تتميز موجة الهجرة الحاليّة عن سابقاتها بكونها تضم أطفالًا ونساءً، وهو ما يدل وفق الباحث في الشؤون السياسية والإستراتيجية المغربي عمر مروك، على حجم الأزمة البنيوية واضمحلال الأمل في غد أفضل وتراجع الحس الوطني لدى المغاربة.
تراجع الحس الوطني يرجعه مروك إلى فشل السياسات الحكومية في تعزيز العيش الكريم وزرع ثقافة المواطنة التي تقوم على الحقوق الأساسية من قبيل التعليم والصحة والتشغيل قبل الحديث عن الواجبات.
بدورها أكدت الباحثة في علم الاجتماع المغربية خديجة نعمان ما ذهب إليه عمر مروك، حيث قالت في حديثها لنون بوست: “ارتفاع هذه الظاهرة في الفترة الأخيرة يعود بدرجة كبيرة إلى انعدام الإحساس بالانتماء الفعلي لهذا الوطن، فعندما يبدأ الفرد البحث عن ذاته يجد القمع والعصا الأمنية”.
تقرير: تأثير الشباب المغربي على السياسات العمومية محدود، مما يحول دون اضطلاعهم بدورهم كقوة محركة رئيسية للدفع بعجلة التنمية في البلاد
وتشير نعمان في أثناء حديثها لنون، أن الاحساس بالانتماء الفعلي للوطن يمر حتمًا من خلال إعطاء قيمة للفرد، وتوفير فرص شغل له تمكنه من العيش الكريم، وتوفير التعليم الجيد وأيضًا الصحة، الأمر الذي يوجد في المغرب وفق قولها.
وتضيف “أضع المسؤولية على عاتق الدولة ومؤسساتها، فهي لم تقدر على احتضان هؤلاء الشباب ومنحهم حقوقهم، واستغلال طاقتهم خدمة للصالح العام”، وتابعت خديجة “عدم توافر مقومات العيش الكريم يجبر المغربي على البحث عن ذاته خارج الوطن، وهو ما يؤدي به إلى التفكير في الهجرة بأي طريقة وإن كانت حياتهم في خطر”.
كشفت دراسة رسمية مغربية جديدة معاناة الشباب المغربي من الإقصاء في الحياة الاقتصادية والمدنية، كما أنهم مبعدون عن المشاركة السياسية، ما يحول دون اضطلاعهم بدورهم كقوة محركة رئيسية للدفع بعجلة التنمية في البلاد.
واعتبر التقرير الصادر عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (مؤسسة دستورية) حديثًا، بعنوان “مبادرة وطنية مندمجة لفائدة الشباب المغربي”، أن الكثير من الشباب والشابات بالمغرب يعانون من صعوبة في الحصول على الشغل اللائق وتعليم جيد ورعاية صحية، وثمة عراقيل كبرى تعترض اندماجهم الاقتصادي والاجتماعي.
وأضاف أن تأثير الشباب على السياسات العمومية محدود، مما يحول دون اضطلاعهم بدورهم كقوة محركة رئيسية للدفع بعجلة التنمية في البلاد، مما ينجم عنه تنامي الشعور بانعدام الثقة والارتياب لدى هذه الفئة، وما يصاحب ذلك من انعكاسات سلبية على أواصر التماسك الاجتماعي.
وترتفع معدلات البطالة في صفوف الشباب بالمغرب، ويعمل أغلب الشباب في القطاعات غير المنظمة، وفي مناصب شغل تتسم بالهشاشة وذات أجور زهيدة، كما أنهم لا يستفيدون من الامتيازات الاجتماعية، ما يجعلهم يشعرون بأنهم لا يتحكمون إلا بشكل نسبي في مستقبلهم الاقتصادي.
أسباب أخرى أيضًا تحمل الشباب للهجرة
يقول الباحث المغربي عمر مروك، إن الظروف المناخية المواتية وقرب المسافة واللجوء إلى وسائل جديدة للهجرة تتميز بالسرعة ويصعب مراقبتها من خفر السواحل، ساهم بدوره في ارتفاع عدد المهاجرين بطريقة غير نظامية في الفترة الأخيرة.
تؤكد الحكومة المغربية انخراطها في مسار يقوم على الاستثمار في الشباب ومواجهة المعضلات والتحديات التي تعترض اندماجه
يشير الباحث المغربي إلى أنه تم اللجوء هذه السنة للدراجات المائية “التجيتسكي” وقوارب مطاطية سريعة جدًا تعرف بالشبح يستعملها عادة مهربي المخدرات، عوض المركبات الخشبية أو البلاستيكية التقليدية التي كانت تستعمل عادة في موجات الهجرة.
وأوضح مروك أن استغلال مواقع التواصل الاجتماعي للترويج ونشر فيديوهات تثبت نجاح عمليات الهجرة، أعاد الشباب العاطل المؤمن بهذه الفكرة نتيجة ضيق الأفق جراء غياب إستراتيجيات للشغل، فكرة الهجرة بعد أن ذهبت عنهم لبعض الوقت.
الحكومة في محل المساءلة
عودة ظاهرة الهجرة غير النظامية إلى واجهة الأحداث في المغرب، وضعت حكومة سعد الدين العثماني محل مساءلة، حيث راسلت البرلمانية فاطمة سعدي رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، في خصوص قضية الهجرة الجماعية للشباب المغاربة، والإجراءات المستعجلة التي تعتزم الحكومة اتخاذها لإيقاف ما وصفته بـ”النزيف”.
وسألت النائبة عن فريق الأصالة والمعاصرة العثماني، عما إذا كانت الحكومة ستأخذ هذه القضية بعين الاعتبار، خلال تهيئها لقانون المالية لهذه السنة، انسجامًا مع دعوة الملك محمد السادس الأخيرة إلى ضرورة مراجعة شاملة لدعم تشغيل الشباب.
سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المغربية
تؤكد الحكومة المغربية انخراطها في مسار يقوم على الاستثمار في الشباب ومواجهة المعضلات والتحديات التي تعترض اندماجه وانخراطه في الأوراش الكبرى، وفقًا للناطق الرسمي باسمها مصطفى الخلفي، الذي أكد في ندوة صحفية عقب انتهاء المجلس الحكومي يوم الخميس الماضي أن الإصلاحات الكبرى التي تم الانخراط فيها وحُقق تقدم في إنجازها تتمحور حول قضية الشباب والمقاولات الصغرة والمتوسطة والصحة والتعليم.
يتزامن ارتفاع موجة الهجرة غير النظامية الحاليّة، مع النقاش الدائر بالاتحاد الأوروبي عن ضرورة زيادة الدول الأعضاء من مساهماتهم المادية واللوجستية لمعالجة إشكالية الهجرة، ورفض بعض الدول استقبال أفواج المهاجرين ودعوتهم للبحث عن حلول تراعي محاربة معضلة الهجرة خارج حدود الاتحاد الأوروبي سواء من خلال الزيادة في المساهمات المادية المقدمة لدول العبور أو عبر سياسات سوسيو – اقتصادية لهذه الدول.