التصعيد في لبنان.. أي تداعيات محتملة على غزة؟

تسير التطورات على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية خلال الأسبوع الأخير بصورة متصاعدة، حيث نذر الحرب الشاملة تخيّم على الأجواء في أعقاب خرق الاحتلال الإسرائيلي لقواعد الاشتباك المعمول بها منذ سنوات، جراء تفجيرات الاتصالات اللاسلكية واستهداف وحدة الرضوان الاستراتيجية، رأس حربة “حزب الله”، الذي وجد نفسه مضطرًا للتزحزح نسبيًا عن تموضعه التقليدي والرد بمستويات غير مسبوقة، وإن ظل ملتزمًا بسياسة ضبط النفس التزامًا بمقاربات عدم التصعيد وتجنّب الولوج في حرب مفتوحة.

ويأتي التصعيد الإسرائيلي ردًّا على التزام “حزب الله” في مناوشاته كـ”جبهة إسناد” للمقاومة في غزة، الأمر الذي أشغل قوات الاحتلال وشتّت تركيزها، فضلًا عن الحرج الذي سبّبه لحكومة بنيامين نتنياهو والكابينت بشأن الفشل في إعادة سكان الشمال البالغ عددهم قرابة 100 ألف مستوطن، والذين نزحوا للداخل هربًا من نيران الحزب اللبناني.

ورغم سحب هذا التوتير على الجبهة الشمالية للبساط نسبيًا من تحت أقدام الوضع في قطاع غزة، لا سيما بعد الاستهداف الإسرائيلي الأخير للضاحية والبقاع ومناطق الجنوب، والذي أسقط نحو 500 لبناني في يوم واحد فقط، وهو الرقم الذي لم تشهده المواجهات بين الكيان والحزب منذ أكثر من 30 عامًا، إلا أن المشهد بالقطاع لم يهدأ، كونه ساحة المعركة الأمّ المشتعلة بطبيعة الحال على طول الخط، وسط عدة تساؤلات حول التداعيات المحتملة للتصعيد الإسرائيلي مع لبنان على القطاع، ميدانيًا وسياسيًا.

الجبهة الشمالية وغزة مسار واحد.. هكذا يرى الاحتلال

بداية ترى القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية أن الجبهة الشمالية مع “حزب الله” وما يحدث في قطاع غزة هو مسار مشترك لمعركة واحدة ذات جبهتَين، لا سيما بعد انخراط الحزب في خط المواجهة، ليتحول مع الوقت من جبهة إسناد إلى طرف في الحرب وإن كان بشكل غير معلن رسميًا.

وتصاعدت في الآونة الأخيرة العديد من الأصوات المتطرفة في الداخل الإسرائيلي التي تطالب بضرورة التعامل مع الجبهتين دفعة واحدة وفي الوقت نفسه، إذ إن الاكتفاء أو الاستفراد بجبهة دون أخرى مضيعة للوقت وتشتيت للتركيز وإرباك للحسابات، وعليه فإن أول خطوة في حسم المعركة في غزة لن تكون إلا بحسم معركة الشمال أولًا.

ويرى نتنياهو -كما عبّر عن ذلك صراحة- أن الضغط على الجبهة الشمالية وتحييد “حزب الله” وضرب مرتكزاته وشلّ قدراته، من شأنه أن يمثل ضغطًا أقوى على المقاومة في غزة، ومن ثم سرعة وسهولة إبرام صفقة تبادل للرهائن بالشروط الإسرائيلية.

وينطلق الإسرائيلي في تصعيده مع “حزب الله” من قاعدة أن استمرار الحزب كجبهة إسناد سيعقّد المشهد جنوبًا في القطاع، كما سيزيد من إرهاق الجيش الإسرائيلي واستنزاف إمكانياته وقدراته العسكرية التي تأثرت بشكل كبير بسبب المناوشات مع الحزب، علاوة على ما يراه جنرالات الكيان من ملائمة الظرف الحالي لتصفية حسابات قديمة مع الحزب، وفرض قواعد اشتباكات جديدة غير التي فرضتها حرب تموز 2006، في ظل حالة الخذلان والانبطاح الإقليمي والدولي التي لم تشهدها ساحات الصراع العربي الإسرائيلي من قبل، وهو الخذلان الذي قد اُختبر قبل ذلك في غزة وقد يتكرر مرة أخرى.

هذا بخلاف الحرج السياسي والعسكري الذي أحدثه الحزب لحكومة نتنياهو والمستوى العسكري كذلك، باستمرار إبقاء مناطق الشمال ساخنة وفي مرمى التهديدات المستمرة، ما يُفشل المساعي المستمرة لعودة سكان الشمال الذين باتوا عبئًا ثقيلًا على الكيان، اقتصاديًا واجتماعيًا وأخلاقيًا.

التصعيد شمالًا.. ثنائية الدعم والمقاربات

على الورق ذهبت معظم القراءات إلى تراجُع احتمالات أن يلجأ نتنياهو إلى التصعيد على الجبهة الشمالية في ظل الفشل في تحقيق أهداف الحرب في غزة، والتحذيرات المتتالية من فتح جبهة ثانية قد يكون لها كلفتها الباهظة، بجانب الخسائر المتتالية التي مُني بها جيش الاحتلال على أيدي المقاومة على مدار ما يقرب من عام كامل من المعارك الضارية.

لكن إصرار حكومة الاحتلال المنساقة من اليمين المتطرف على توسيع دائرة الصراع لصالح حسابات سياسية خاصة، ضرب بكل تلك التحذيرات عرض الحائط، وبدأت أولى خطوات التصعيد من قمة الهرم، حيث الضربات النوعية المكثفة ضد “حزب الله”، وخرق كامل لكافة قواعد الاشتباك المعمول بها منذ نهاية حرب تموز 2006.

وتشير التطورات الأخيرة إلى أن نتنياهو ما كان له أن يتجرأ على فتح تلك الجبهة، بالتزامن مع التعثر في قطاع غزة، إلا بعد اطمئنانه لبعض المؤشرات والمسارات الهامة التي شجّعته على القيام بتلك المغامرة دون قلق أو تخوف:

أولها: تحييد حلفاء “حزب الله” (اليمن والعراق وسوريا بخلاف إيران) عن طريق الضغوط والابتزازات والمقاربات التي مارسها الكيان الإسرائيلي أو حلفاؤه في المنطقة، وهو ما خفّف العبء نسبيًا عن “إسرائيل” ومنح نتنياهو الضوء الأخضر للتصعيد وفتح جبهة جديدة مع الحزب اللبناني.

ثانيها: استغلال مقاربات الحزب وطهران في عدم التصعيد، فـ”إسرائيل” تعلم جيدًا رغبة الحزب والحليف الإيراني في تجنب التصعيد والولوج في حرب مفتوحة قد تطيح بالمكتسبات التي تحققت على مدار عقدين كاملين، وعليه صعّدت من عملياتها وهي مطمئنة تمامًا لعدم تجاوز خصومها الخطوط الحمراء المرسومة سلفًا، وابتلاع الضربات التي يتعرضون لها مهما كانت شدتها، ما شجّعها على التدخل وتحقيق الأهداف الخاطفة سريعًا.

ثالثها: الدعم الأمريكي المتواصل، وسدّ أي ثغرات محتملة الحدوث خلال تلك المعركة، والتأكيد على الدفاع عن “إسرائيل” مهما كانت التطورات، وهو ما تمخض في إرسال واشنطن لكبرى بوارجها الحربية للمنطقة، ووضع قواعدها في الشرق الأوسط على أهبّة الاستعداد للتعامل مع أي تهديدات محتملة لحليفها الإسرائيلي، الأمر الذي يمنح الكيان أريحية كاملة وطمأنينة مطلقة في التصعيد دون أي اعتبارات تتعلق بالتسليح والكلفة الاقتصادية.

ما التداعيات المحتملة على غزة؟

حاول الكيان المحتل تحقيق التوازن قدر الإمكان في توزيع المهام والقدرات العسكرية بين الجبهتين، شمالًا وجنوبًا، ساعده على ذلك الانتهاء من معظم العمليات الثقيلة داخل القطاع والاكتفاء بالنشاط النوعي الذي لا يتطلب التشكيلات العسكرية الكبيرة، ما سهّل الأمر نحو إرسال بعض منها إلى الجبهة الشمالية التي هي الأخرى لم تكن على مستوى التهديد الذي يدفعه لتكثيف التواجد العسكري بها على حساب الجبهة الجنوبية في قطاع غزة.

ويعلم الاحتلال جيدًا أن غزة هي رمانة ميزان المعركة، وأنها الساحة الأهم في مسار الصراع، وما دفعه للتوجه شمالًا إلا لحسم المعركة جنوبًا، ومن ثم حافظ على عملياته ونشاطه العسكري هناك، وقد شهدت الساعات الـ 24 الماضية أكثر من 3 مجازر أسفرت عن ارتقاء 24 شهيدًا وما يزيد عن 60 جريحًا، لترتفع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى 41 ألفًا و455 شهيدًا و95 ألفًا و878 مصابًا.

ويمكن الوقوف على تداعيات التصعيد على الجبهة اللبنانية على سير المعركة في غزة من خلال سيناريوهين اثنين، يتحكم فيها مستوى وأداء “حزب الله” تحديدًا:

السيناريو الأول: حال تحقيق “إسرائيل” لأهدافها من هذا التصعيد، وضرب مرتكزات “حزب الله” وإرباك حساباته والقضاء على مكتسبات العقدين الماضيين، وتأليب الجبهة الداخلية ضده، وما قد ينجم عن ذلك من منح حكومة نتنياهو انتصارًا رمزيًا مهمًّا سيكون له ما بعده في رسم وهندسة الصراع في المنطقة بصفة عامة، وهو المخطط الذي تشدد القيادة السياسية والعسكرية لدولة الاحتلال على تنفيذه بشكل دقيق.

وأمام هذا السيناريو الذي قد يتعزز بسلبية الموقف الإيراني وبقية “جبهات الإسناد” -حتى الآن- والانتصار لمقاربات التهدئة، قد يجد “حزب الله” نفسه في مأزق كبير، ومضطرًا للرضوخ للمقاربات والتخلي عن الاستمرار في وظيفته كـ”جبهة إسناد” للمقاومة في غزة، حفاظًا على ما تبقى لديه من قدرات عسكرية وتنظيمية، خاصة إذا ما لعبت “إسرائيل” بورقة الاجتياح البري والدخول إلى الجنوب اللبناني وربما بيروت، وهنا سيكون لهذا السيناريو تداعياته السلبية بطبيعة الحال على المشهد في غزة.

قد يرى البعض أن خسارة المقاومة في غزة لـ”حزب الله” كجبهة إسناد شمالية سيكون كارثيًا، حيث تخفيف العبء عن الاحتلال ومنحه فرصة من ذهب للتركيز على جبهة واحدة، وإن كان هذا أمر لا يمكن إنكاره، لكنه ليس بهذه الصورة القاتمة.

فالمقاومة منذ أشهر تقريبًا تعتمد على استراتيجيات العمليات النوعية، التي لا تتأثر بطبيعة الحال بحجم ومستوى التواجد العسكري الإسرائيلي ميدانيًا، وهو ما يعني أن المشهد سيواصل سيره نحو حرب استنزاف طويلة الأمد، الغلبة فيها لأصحاب النفس الطويل، ستكون فيها المقاومة مجبرة على التعاطي مع تلك التطورات بتكتيكات مختلفة ومرنة تعيد بها ترتيب أوراقها مرة أخرى.

السيناريو الثاني: سيناريو الكل في الكل، وهو المتعلق بقدرة “حزب الله” على إفشال المخطط الإسرائيلي، والتخلي تدريجيًا عن مقارباته السياسية والعسكرية، والتحرر نسبيًا من القيود الإيرانية، وتحقيق مكاسب محققة في العمق الإسرائيلي، ما يضع حكومة الاحتلال في مأزق كبير أمام الجبهة الداخلية.

هذا السيناريو ربما يصبح أكثر واقعية وتأثيرًا إذا ما دخلت جبهات الإسناد الأخرى على خط المواجهة، حينها قد يجد الاحتلال نفسه أمام خيارَين أحلاهما مرّ، إما الإصرار على التصعيد وهنا ستكون الكلفة باهظة وتزيد من الضغوط الداخلية والخارجية ضده، وإما التوقف والعودة لقواعد الاشتباك المعمول بها، وهو ما يعدّ وقتها انتصارًا رمزيًا لـ”حزب الله”.

وسينعكس هذا السيناريو -إذا ما تحقق- على المشهد في غزة، حيث سيضع حكومة نتنياهو في مأزق كبير، داخليًا وخارجيًا، ما قد يدفعها إلى الانصياع للضغوط والعمل لسدّ كل تلك الجبهات من خلال استراتيجية “الكل بالكل”، حيث إنهاء الحرب في غزة والتي بدورها تُنهي التوتر على الجبهة الشمالية وتجمد الجبهات الأخرى، أو على الأقل إبقاء الوضع على ما هو عليه حيث حرب الاستنزاف التي قد لا يتحملها الكيان في ظل كل تلك الخسائر.

في الأخير إن الكرة حاليًا في ملعب “حزب الله” أكثر ممّا هي عليه في الملعب الإسرائيلي، إذ بات يشكل الترمومتر الأكثر دقة لمسار التصعيد على الجبهة الشمالية وتداعياته على الجنوب في غزة، لتبقى الأيام القادمة بما يتوقع أن تشهده من تطورات حبلى بكل السيناريوهات ومفتوحة على مختلف الاحتمالات، التي سترسم بشكل كبير ملامح المنطقة خلال الفترة المقبلة.