تعتز دول العالم بتاريخها وما فيه من عادات وتقاليد تراثية تمزج بين الثقافة المحلية والطبيعة الاجتماعية لشعوبها، إذ يمكننا أن نلاحظ ملامح تاريخها عن كثبٍ من خلال الأدب والفن والأزياء والأغاني، إضافة إلى الرياضة التي عبروا من خلالها عن قوتهم البدنية ومهاراتهم القتالية، لذلك – في الغالب – تكون هذه الألعاب التقليدية مقتصرة على الملاكمة والمصارعة بين الرجال دون النساء، لما فيها من صلابة وشراسة.
قديمًا، ارتبطت هذه الرياضات التقليدية بالتدريب العسكري، فإذا كانت الدولة قديمًا بحاجة إلى تجنيد أفرادها من أجل خوض الحروب ومواجهة أعدائها فما كان عليها إلا اختبار لياقتهم ونشاطهم البدني للخدمة عبر هذه الرياضات، وهذا ما يفسر سبب قساوة وشدة هذه الألعاب في الغالب.
جدير بالذكر أن هذه الرياضات تعود إلى آلاف السنين ما قبل الميلاد، فلقد تم العثور على نقوش مختلفة في عدة كهوف في فرنسا ومنغوليا وليبيا واليابان، فتصور هذه الرموز ألعابًا مثل السباحة والرماية والركض والمصارعة التي تعود إلى العصر الحجري القديم.
مع الوقت، اختلفت مكانة هذه الألعاب فأصبحت أكثر ارتباطًا بالتراث والتقاليد الشعبية الترفيهية، ويبدو ذلك واضحًا من خلال المهرجات والمسابقات التي تحييها الدول سنويًا لسرد تاريخها من جديد بصورة عصرية وممتعة.
مصارعة الزيت والجمال في تركيا
يشتهر هذا البلد بمجموعة من الألعاب القتالية التي اقتبسوها من الدولة البيزنطية والحضارة اليونانية، وأشهرها “المصارعة الزيتية” و”مصارعة الجمال”، إلا أن الأولى تعد الأكثر شعبيةً على الإطلاق، إذ يحتفل بها الشعب التركي منذ أكثر من 650 عامًا ويمارسها الكبار والصغار مع اختلاف بسيط في المدة الزمنية، كما تقام لها مهرجانات سنوية مثل مهرجان كركبينار في مدينة أدرنة، ويوجد لمصارعيها تماثيل في مدن متعددة مثل كوجايلي ويايلاداغ.
يختلف المؤلفون بشأن أصلها، فهناك بعض المصادر التي تؤكد أنها بيزنطية الأصل، وأخرى تدعى أنها يونانية، لكن لا شك أن الأتراك مارسوها في زمن الدولة العثمانية احتفالًا بقدوم الربيع والنصر والزواج إلى أن أصبحت جزءًا من تاريخهم التراثي، لا سيما أن الإمبراطورية اهتمت بها اهتمامًا فريدًا، حيث أنشأت مدارس خاصة لتعليم هذه الرياضة وترويجها بين أفراد المجتمع التركي.
تجري هذه المصارعة تحت أشعة الشمس الحارقة وفوق مرج عشبي ويدهن المصارع جسده بزيت الزيتون ما يجعل إمكانية مسكه مهمة صعبة بالنسبة لمنافسه، ويرتدي كلاهما سراويل تغطي المنطقة ما بين أسفل البطن والركبة، وتكون غالبًا مصنوعة من الجلد، كما يصمم هذا السروال بطريقة تمنع وصول الزيت إليه.
تقول المصادر التركية التاريخية إن أول مباراة دامت لمدة 3 أيام بين مصارعين توفيا تعبًا من القتال
بعد الاستعداد، يبدأ قرع الطبول والمزامير لتحمس المصارعين والمشجعين وتنتهي اللعبة إذا أسقط المصارع منافسه على ظهره أو مؤخرته أو سقط من تلقاء نفسه، وإذا تمكن من إمساك خصمه من رجليه ورميه على الأرض، أو إذا سقط أو تمزق سروال أحد المصارعين، أو إن حمل خصمه عن الأرض ومشى به 3 خطوات، أو إذا صاح بكلمة وتعني يكفي.
تقول المصادر التركية التاريخية إن أول مباراة دامت لمدة 3 أيام بين مصارعين توفيا تعبًا من القتال، إلى أن دفنا تحت شجرة تين، وبعد حين، عاد أصدقاؤهما إلى نفس المكان الذي دفنوا به ليجدوا نوافير من المياه العذبة، ولذلك تسمى هذه الرياضة بـkirkpinar yagli guresi أي مصارعة النوافير الأربعين.
أما فيما يخص مصارعة الجمال، فقد ظهرت هذه الرياضة منذ أكثر من 2400 سنة في مدن غرب تركيا من قبائل التركمان البدوية، ورغم قلة أعداد الجمال في تركيا، فإن نحو 3 آلاف إبل يوجدون في مدينة آيدين ودينيزلي وأزمير، وأشهرهم مدينة سلجوق.
جدير بالإشارة إلى أن هذه الجمال ملك لعائلات لكن بعض الاتحادات تقوم بالعناية بها وتشجع هذا النوع من الرياضات على اعتبار أن تحفظ الإبل من الانقراض في تركيا، وعلى إثر ذلك تنظم نحو 3 مباريات سنويًا، يشارك فيها ما يقرب من 100 جمل يتنافسون على أنظار السياح والجائزة المالية.
تنظم نحو 3 مباريات سنويًا، يشارك فيها ما يقرب من 100 جمل يتنافسون على أنظار السياح والجائزة المالية
تدور أحداث المصارعة ضمن أجواء ترفيهية وطقوس احتفالية يتخللها الرقص التقليدي والدبكة وشواء نقانق لحم الجمل، ولا شك أن منظمي هذه المباريات يزينون الجمال بالأقمشة المزخرفة والملونة قبل النزول إلى الحلبة لتكون ملفتة وممتعة للنظر.
رياضة المشاوشة في المغرب
عرفت فيها رياضة “المشاوشة” وهي عبارة عن مصارعة حرة ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر بالمدن الكبيرة مثل فاس ومراكش ومكناس، ولها أزياء معينة ومسميات مختلفة مثل المشاوشة والمشايشة والمناصة والمكارعة والمعايزة، لكن جميعها تعتمد على لياقة الجسد ورشاقته وقدرته في الحفاظ على توازنه.
يعود تاريخها إلى الحرفيين والصناع التقليديين الذين عرفوا بقوتهم البدنية ونشاطهم، فكانوا يستغلون أيام الجمعة لممارسة هذه الرياضة أمام أعين الناس في المدينة وسط أجواء حماسية واحتفالية، وفي نهاية المباراة كان الفائز يحظى باحترام وإعجاب سكان المدينة.
تبدأ المباراة بدخول المنافسين مع أصوات التهليل، حيث يضع كل خصم يديه على كتفي الآخر، أو يدًا على الكتف ويدًا على الخصر، ويبدآن في الرقص
تبدأ المباراة بدخول المنافسين مع أصوات التهليل والتصفيق، حيث يضع كل خصم يديه على كتفي الآخر، أو يدًا على الكتف ويدًا على الخصر، ويبدآن في الرقص بحركات معينة ويتناوبان على رمي رجل بين فخدي بعضهما منتظرين الفرصة المناسبة لضرب الرجل الثابتة لإسقاط الخصم، إذ إن كل من يسقط على الأرض يعتبر مهزومًا.
ورغم كونها جزءًا من التراث الشعبي، فإنها فقدت وهجها بعض الشيء وتحديدًا بعد الاستقلال، لكن ثلة من مثقفي المجتمع المغربي أعادوا إحياء تاريخ هذه اللعبة من خلال الكتب والروايات والأفلام، أهمها فيلم “موسم المشاوشة”.
رياضة الزورخانة في العراق وإيران
تنقسم كلمة “زورخانة” الفارسية الأصل إلى مقطعين هما “زور” أي القوة، و”خانة” وتعني البيت، وهي رياضة تقليدية قديمة مارسها الأتراك والأكراد والإنجليز منذ 5 آلاف عام قبل الميلاد، ويقال إن أصلها يعود إلى شعب سومر وبابل وآشور، أول من ابتكروا مفهوم الفروسية وفنون القتال حينها لأهداف عسكرية وحربية، فالأدوات المستخدمة فيها مثل السلاسل الحديدية والدروع والأميال قد يصل وزنها إلى 50 كيلوغرامًا، وهذا ما يجعلنا ندرك مدى قوة المقاتلين والمحاربين في ذاك الوقت ولماذا حظوا بمكانة رفيعة في الدولة.
جدير بالذكر أن الأميال هي آلة خشبية ذات مقبض على قدر كف الذراع ولها أوزان مختلفة تصل لعشرات الكيلوغرامات، ويحمل كل لاعب اثنين منها أو أكثر ويبدأ برميها كما في ألعاب الخفة، واعتبارًا لذلك فإن هذه الرياضة تساعد على تقوية عضلات الجسد وخاصةً اليدين.
تمارس هذه اللعبة لمدة ساعتين، يدور فيها المتبارون بشكل دائري مثل الدراويش ما جعلها ذات بُعد روحاني خاصةً أنها تمارس على دقات الطبل ونغمات المقامات والتواشيح، ولذلك تسمى بـ”رياضة الأخلاق والقوة”
تمارس هذه اللعبة لمدة ساعتين في حفرة من 8 أضلاع وبعمق 3 أمتار، يدور فيها المتبارون بشكل دائري مثل الدراويش ما جعلها ذات بُعد روحاني وخاصةً أنها تمارس على دقات الطبل ونغمات المقامات والتواشيح، ولذلك تسمى بـ”رياضة الأخلاق والقوة”، فهي أيضًا تنتهي بالأدعية والمواعظ.
بالجانب إلى الطابع الديني الروحاني، تكثر الأجواء والحركات الاستعراضية في هذه الرياضة، ففيها أوزان ثقيلة وحركات بهلوانية خطيرة وسريعة تبين مدى دقة أداء اللاعبين وقوة انضباطهم وتحملهم التمارين القاسية، فهي تجمع بين قوة الصبر والجسد.