جرت في طهران مشاورات على مستوى قممي يضم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيريه التركي، رجب طيب أردوغان، والإيراني، حسن روحاني، بهدف تباحث الوضع السياسي والميداني في إدلب. وفيما عكست موسكو وطهران موقفاً صلباً ولاذعاً حيال إدلب، بوصفها “آخر وكر للإرهابيين”، نافحت تركيا عن المنطقة، محذرةً من مغبة الإقدام على استهدافها، على اعتبار أنها منطقة مكتظة بالمدنيين، ويمكن أن يؤدي أي هجوم عليها إلى أزمةٍ إنسانيةٍ كبيرةٍ.
وبالتزامن مع انتشار سيناريو العملية العسكرية المُوسعة عبر وسائل الإعلام، أجرى الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، اجتماع قمة أفضى إلى منع أي عمل عسكري ضد مدينة إدلب، مع تحقيق انتشار تركي ـ روسي “تشاركي” يحافظ على “وحدة الأراضي السورية”.
بدايةً، ما تم حرفياً في هذه القمة هو التأكيد على مُخرجات آستانة 6 التي قسمت إدلب إلى 3 مناطق:
ـ جنوب سكة حلب: تخضع لسيطرة النظام والقوات الإيرانية.
ـ ما بين سكة حلب والطريق الدولي: يخضع لسيطرة روسية وتركية “جزئية” مشتركة.
ـ شمال الطريق الدولي: يخضع لسيطرة تركية كاملة.
ووفقاً لتقرير نشر في صحيفة يني شفق التركية فإنه سيتم انتشار خمسة وعشرين ألف جندي في إدلب” – العائد لتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2017 أي بالتزامن مع محادثات آستانة 6 – فإن انتشار قوات الدول الضامنة سيكون وفقاً للتقسيم أعلاه، وسيكون انتشار القوات التركية بعمق 35 كيلو وطول 130 كيلو متر. وبمقارنة هذه المسافة مع المسافة التي تم التوصل إليه على هامش قمة سوتشي الأخيرة، والتي جاءت بعمق 15 كيلو متر فقط، يتضح أن الانتشار التركي ينقسم ما بين انتشار تركي خالص، وانتشار تركي ـ روسي تشاركي.
تكمن الحاجة الروسية الحالية لتركيا في عملية إعادة هيكلة قواعد الحوكمة السورية على صعيد دستوري استراتيجي على نحوٍ يُطفي لهيبها على المدى الطويل.
وبذلك الطرح، يتضح جلّياً نجاح تركيا في استنتساخ سيناريو سيطرتها على القسم التركي لجزيرة القبرص، وبات سيناريو “الأيلولة القبرصية” لمدينة إدلب الذي طُرح سابقاً عبر موقع نون بوست.
وبعيداً عن نقاش المدى الذي يمكن أن تبقى فيه تركيا مسيطرة على الشمال السوري قبل الانتقال لمرحلة الحكم عبر “استوكال وكلاء داخليين”، يبدو من الأفضل التنقيب عن دوافع إصرار تركيا على البقاء في إدلب. وربما تُبيّن العوامل أدناه بواعث حرصها على ذلك:
ـ إيقان تركيا من احتمال تغيّر أولويات موسكو على صعيد الاستراتيجي، فهي تعي، على الأرجح، أن تحالفها مع روسيا الحالي جاء وفقاً لحاجة تقنية جغرافية محدودة، نبعت من حاجة الطرفين لإيجاد “حل توافقي” بعد فشل التوصل إلى “حل صفري”.
ـ التساؤل المطروح حول الباعث الذي قد يجعل تركيا تفقد ورقة ضغط هامة ضد روسيا، قبل ضمان مصالحها القومية القائمة على إنهاء الطموحات الكردية السورية بالاستقلال، والمُتعلقة بضرورة تسوية الأزمة بما يشمل عودة اللاجئين، وبدء عملية الإعمار على نحو الحصول على حصة جيدة منها. فإدلب تقع بالقرب من مدينة اللاذقية التي تُعد قلب النظام السوري، والتي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية روسية يمكن لتركيا من خلال الإبقاء بجوارها استفزاز روسيا بما يضمن دفعها نحو مراعاة المصالح التركية في سوريا.
ـ دراية تركيا المسبقة بالحاجة الروسية الماسة لها، واستغلال هذه الحاجة للمناورة والإصرار على السيطرة. وتكمن الحاجة الروسية الحالةي لتركيا في عملية إعادة هيكلة قواعد الحوكمة السورية على صعيد دستوري استراتيجي على نحوٍ يُطفي لهيبها على المدى الطويل. كما تحتاج تركيا في إتمام عملية تعويم النظام اقتصادياً عبر فتح خط حلب ـ حمص الدولي، لتفعيل عمليات التبادل التجاري بصورةٍ آمنة. ويُجدر أن تركيا تُشكّل موقع جيواستراتيجي يمكن لروسيا استخدامه كمحطة لوجستية لإعادة اللاجئين وتوطينهم، وتوريد مواد عملية إعادة الإعمار، فضلاً عن رغبة روسيا في إتمام صفقة أس 400، واتفاقيتي بناء المفاعل النووي ومد خط “السيل التركي” في وقتها وبدون عراقيل.
ـ إدراك تركيا لمدى القوة التي تمتلكها عبر تحكمها “بالشوكات الوظيفية” ـ الفصائل العسكرية المُسلحة في إدلب ـ وقدرتها على تحريكها على النحو الذي يخدم مصالحها.
جاء انتشار القوات التركية بناءً على اتفاقيات توافقية تمت بين دول تعتبر أطراف في النزاع، وتوافق هذه الأطراف يأتي بتفويض من مجلس الأمن، وبذلك تُعد تركيا دولة ضامنة بتفويض من الشرعية الدولية
ـ علم تركيا بإمكانية إزاحة إيران عن دعم العمليات العسكرية المُتوقعة ضد إدلب، من خلال صفقات اقتصادية تخدمها في تقليص حدة الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة عليها. لقد شكّلت تركيا لإيران الرئة التي تتنفس منها خلال سنوات فرض العقوبات الأمريكية عليها. ولعل عقلانية إيران وإدراك لهذه المصلحة، هما ما دفاعها نحو القبول بعدم المشاركة بالعملية مقابل صفقات لم يُعلن عنها، لكنها مُتوقعة الحدوث وبشدة.
تركيا تستند على قواعد القانون الدولي
جاء انتشار القوات التركية بناءً على اتفاقيات توافقية تمت بين دول تعتبر أطراف في النزاع. وتوافق هذه الأطراف يأتي بتفويض من مجلس الأمن. وبذلك تُعد تركيا دولة ضامنة بتفويض من الشرعية الدولية.
أيضاً كان يمكن لتركيا، إلى جانب وضعها كدولة ضامنة بناءً على تحرك دولي مشترك نبع من أساس المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، أن تعتمد على ذات المادة، والتي ينص أحد أجزائها على “عدم انتقاص الميثاق حق أي دولة باتخاذ تدابير الدفاع عن النفس التي تبلغ مجلس الأمن”. فقد تتذرع تركيا بوجود فراغ سلطة في المنطقة، وحمل الميليشيات الشيعية أو منظمات أخرى خطراً على أمنها القومي.
أيضاً كان من الواضح جداً ركون تركيا إلى مبدأ “المسؤولية للحماية” الذي ينبع من القانون الدولي، والذي يمنح الدول حق التدخل في دول أخرى من أجل حماية المدنيين. وقد أصرت تركيا في استنادها لهذا المبدأ، من خلال الركون إلى حاجة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لإبقائها على سيطرتها ونفوذها في شمال سوريا، من أجل الحيلولة دون أزمة لاجئين جديدة، وفي سبيل لعب دور العنصر التعديلي الموازن للقوتين الروسية والإيرانية. فتلاقيها الدعم من الغرب، لا سيما من فرنسا وألمانيا اللتين حضرتا القمة الرباعية إلى جانب تركيا وروسيا، زاد، على الأرجح، من إصرارها على السيطرة.
في الختام، ما حصل في إدلب من إبقاء على السيطرة التركية، وإيقاف العمليات العسكرية ضدها، هو نتاج لعملية “اللعب بالأوراق” التي كسبت تركيا فيها على الطرفين الروسي والإيراني باستخدام أوراق ترغيب وترهيب معاً.