يُعد يوم عاشوراء – العاشر من المحرم- عند المسلمين منذ زمن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، يومًا لا يقل في أهميته عن أيام المسلمين المعدودة التي يقومون فيها بطقوسٍ خاصة، فبالنسبة للمسلمين، شُرع صيام يوم عاشوراء، حسب رواية البخاري ومسلم، حينما قدم النبي المدينة، ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسأل عن السبب، فقالو “هذا يومٌ نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم، فصامه موسى شكرًا لله”، فقال رسول الله؛ “أنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه”.
لكن خصوصية هذا اليوم، أضيف لها خصوصية أخرى، عام ٦١ من الهجرة، وهو تاريخ استشهاد الحسين بن علي -رضي الله عنهما-، وكما تروي مراجع المذهب السني، فإن القتال قد وقع بين جمعٍ لا يبلغ الثمانين رجلاً وبين خمسة آلاف فارس وراجل من جيش عبيد الله بن زياد الذي أرسله يزيد بن معاوية لقتال الحسين، حتى كان ما كان، فقُتل الحسين وثمانية عشر من أهل بيته وستون رجلاً من شيعته وأرسلت رؤوسهم إلى يزيد بن معاوية في الشام، حسب رواية ابن كثير.
لا أعتقد، أن أحدًا من المسلمين اليوم قد يجد صعوبةً في الإقرار بمدى الكارثة التي وقعت -حتى أولئك المبررين ليزيد بن معاوية أو المدافعين عنه-
تكتنف أحداث هذا اليوم وما تبعه من أحداثٍ روايات كثيرة، تملأ مراجع السنة والشيعة على حدٍ سواء، يتقاسمون الروايات، ويدحض بعضهم ما أورده الآخر، وهو حدثٌ تجاوز وقوعه الألف سنة، ظل المسلمين من حينها مختلفون حول ما وقع بعد شروق شمس العاشر من المحرم عام ٦١، بل إن كتب السنة نفسها وأئمة السنة أنفسهم، يختلفون فيما وقع وفيما جرى وفيما سبّبَ لذلك، لكن تبقى واقعة قتل الحسين وثمانية عشر من آل بيت رسول الله، واقعة يُفتح بذكرها نقاش كبير، حول ما كان وما يجب أن يكون، مستخلصة إجابات صعبة، حول جدلية الديني والسياسي في الأحداث الإسلامية، سواءً تلك التي جرت منذ فجر الدعوة الإسلامية في مكة، وحتى الأحداث المعاصرة. ولا أعتقد، أن أحدًا من المسلمين اليوم قد يجد صعوبةً في الإقرار بمدى الكارثة التي وقعت -حتى أولئك المبررين ليزيد بن معاوية أو المدافعين عنه-.
بدأت الخلافة الإسلامية بعد وفاة محور الدعوة وقلبها محمد -صلى الله عليه وسلم- خلافةً شورية، اختلفت دومًا في آلية اختيار الخليفة منذ أبي بكرٍ الصديق، وحتى آخر الخلفاء الراشدين علي ابن طالب لكنها ظلت شورية. بعد مقتل الخليفة الثالث، عثمان ابن عفّان بدأت الأمور تأخذ منحى آخر. كان معاوية ابن أبي سفيان واليا على الشام، فقاتل علي، بحُجّة التقاعس عن ثأر عثمان، وظل يقاتل علي حتى وافته المنية مقتولًا أيضًا، بعدها تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة بموجب اتفاقٍ يقضي باتخاذ خليفةٍ للمسلمين بالشورى بعد وفاة معاوية، إلا أن ابن أبي سفيان آثر أخذ البيع لابنه يزيد مخالفًا الإجماع الإسلامي وقتها وهنا نشأت حركة المعارضة التي قادها عبدالله بن الزبير والحسين بن علي، وبذلك أسس معاوية لسلسلة من الحكم العضوض في نسل بني أمية.
لماذا مُنعت وضعِّفت المصادر التي تقدح في حكم يزيد وبني أمية عن جموع المسلمين في العصر الحديث؟ لماذا كان لِزامًا علينا ألا نتحدث فيما وقع لتفاديه؟ لماذا دومًا عمِد كثيرٌ من المشايخ إلى التعمية بحجة عدم ترديد الرواية الشيعية عمّا وقع؟
حفلت سنوات يزيد بالدماء، كربلاء والحرّة وحصار مكة
قُتل الحسين وآل بيت النبي في كربلاء عام ٦١، وفي عام ٦٣ وبعدما ناصر أهل المدينة بن الزبير، سيّر لهم يزيد بن معاوية جيشًا قاده مسلم ابن عقبة، فحاصر أهلها ثلاثًا كما روت كتب السيرة، ثم اقتحمها أواخر شهر ذي الحجة واستباحها ثلاثًا، فكانت مقتلةً عظيمة. ورغم أن بعض المراجع المتعلقة بأعداد الضحايا والتي وصلت في بعض التقديرات إلى أكثر من عشرة آلاف قتيل، يُضعّفها بعض علماء أهل السنة فإن الجميع يتفق على أن سادة الصحابة قُتلوا في هذه الأيام، واستبيحت مدينة رسول الله، و “انتُهِبت” -حسب كتب السيرة- المدينة، فكانت فاجعة لم يراها المسلمون من قبل. ثم حوصرت مكّة وقذفت بالمنجنيق حتى احترقت استارها ولم ينفك الحصار عنها إلا بموت يزيد بن معاوية.
تلخص هذه الأحداث الثلاثة فترة حكم يزيد بن معاوية ثاني حكّام بني أمية، لكنها وكما تلخص هذه الفترة، يُستشف منها كيف عاش المسلمون تحت هذا الحكم، وكيف قاومه الحسين وعبدالله بن زبير ومعهم نفرٌ من الثائرين.
لكن يا تُرى، لماذا مُنعت وضعِّفت المصادر التي تقدح في حكم يزيد وبني أمية عن جموع المسلمين في العصر الحديث؟ لماذا كان لِزامًا علينا ألا نتحدث فيما وقع لتفاديه؟ لماذا دومًا عمِد كثيرٌ من المشايخ إلى التعمية بحجة عدم ترديد الرواية الشيعية عمّا وقع؟
لا يُمكن بأي حالٍ من الأحوال التسليم للرواية الرسمية، التي حاول شيوخ السلفية الوهابية وأئمة الجاميّة والمدخلية، ومن خلفهم حكومات آل سعود أن يروجوها بحجة خروج الحسين وبن الزبير على الحاكم الذي لا يجوز الخروج عليه.
ما نعتقده نحن فيما وقع على مدار التاريخ هو أن قتل الأبرياء جريمة، جريمةٌ سواء كانت في الحرة أو كربلاء أو القاهرة أو حلب أو بنغازي أو صنعاء
إن استمرار استغلال هذه الرواية ومحاولة تبرير ما حدث بحجة أن معاوية تصرف بهذه الطريقة لأنه رأى في أخذ البيعة ليزيد مصلحة الأمة الإسلامية، وأن يزيد من بعده أراد جمع المسلمين على كلمةٍ سواء.
إن هذه الصياغة المستكينة المدجّنة، هي مصوغٌ واضح وإشارة خضراء لكل الديكتاتوريين فيما بعد، لقتل شعوبهم بحجة جمع المسلمين على كلمة سواء. وهذا الخطاب لا يختلف أبدًا عن خطابات الحكومات الحديثة التي تقتل شعوبها بحجة حفظ الأمن القومي والدفاع عن وحدة البلاد. هذا التبرير تارةً والتعمية تارةً أخرى لا يصبّ إلا في مصلحة إسلام السلطة، الإسلام الذي يضع الحاكم موضع الإله، الإسلام الذي لا يجعلك تعارض الحاكم، وإن شرب الخمر وزنا على شاشة التلفاز لمدة نصف ساعة يوميًا كما يُفتي علماء المدخلية في السعودية اليوم.
هذا الإسلام الذي عورضت بفتاواه كل حركات التحرر ومحاولات الانعتاق من الظلم. هذا الإسلام الذي يقضي بحرمة الخروج عن الحاكم وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك. وهو الإسلام الذي برر اجتياح واحتلال العراق بحجة إسقاط صدام حسين، وهو هو الإسلام الذي يبرر اليوم قتل الملايين في سوريا واليمن ومصر. الإسلام الذي يأمر المسلمين أن يدينوا بما يأمرهم به الحاكم فقط.
وبنظرةٍ بسيطة للمستقبل. لقد كنا شهود عيان، وشهودًا بالصوت والصورة على ما تعرض له الأبرياء من مذابح في مصر وليبيا وسوريا واليمن، فكيف بنا بعد مائة عامٍ مثلًا، أن نرى كُتبًا تقول إن عبدالفتاح السيسي قتل وسجن الآلاف لحفظ الأمن في مصر، وأن بشار الأسد قتل وسجن الملايين للحفاظ على الوحدة السورية، وأن القذافي قتل وسجن الآلاف منعًا لاحتلال بلاده، وأن سلمان وبن سلمان يقتلون ويجوعون أهل اليمن لعودة الشرعية والأمل، هل ستكون تلك هي الحقيقة حينها؟ أوليست هذه التخريجة التبريرية لكل هذه الجرائم شهادة براءةً لكل هذا الإجرام؟
أما ما نعتقده نحن فيما وقع على مدار التاريخ هو أن قتل الأبرياء جريمة، جريمةٌ سواء كانت في الحرة أو كربلاء أو القاهرة أو حلب أو بنغازي أو صنعاء، جريمةٌ أيًا كان مرتكبها فهو مجرم أيًا كانت صفته ومكانته وموقعه في سجل التاريخ، وسيلاحقه عار الجريمة حتى ولو بعد ١٣٧٩ عامًا.