جاء الاحتلال الأمريكي للعراق وفي جعبته نظرية لتشكيل شرق أوسط كبير، يجعل من العراق باكورة تطبيقه لهذه النظرية، لينطلق منه لباقي الدول الشرق أوسطيه. ولبناء هذا المشروع القائم على ديمقراطية خاصة تتناسب والمقاييس الأمريكية لديمقراطيات الدول التابعة لها، استعان على أحزاب عراقية معارضة للنظام العراقي، كانت تتخذ من المنفى ملاذًا لها، والتي كانت في جلها تحت الرعاية الإيرانية.
وضع الاحتلال الأمريكي لنفسه سقوف زمنية للوصول لهذا الحالة المثالية (كما يراها الاحتلال)، ومن ثم ينطلق لباقي دول المنطقة. إلا أن الذي غاب عن نظر الحاكم المدني للعراق “بول برايمر” أن تلك الأحزاب التي اعتمد عليها، كانت لها اجندة مختلفة عن الاجندة بحوزته. ولهم رؤية لمستقبل العراق مختلفة تماما عن رؤية الأمريكان، بالرغم من أنهما يشتركان بالمحصلة بالوصول لحالة يكون فيها العراق، بلدًا طيعاً ضعيفًا يعتمد في حماية سيادته على المدد القادم إليه من خارج الحدود.
وإذا ما استثنينا الأحزاب الكردية التي شاركت في العملية السياسية منذ بدايتها، ذلك لأن الكرد كان لهم هدف يريدون الوصول إليه، وهو الاستقلال التام عن العراق، وبالتالي فليس مهماً لهم ماذا سيكون مستقبل العراق. وإذا ما استثنينا التمثيل السني الهزيل في بداية العملية السياسية حتى اللحظة، فإن الفاعل الرئيسي في السياسة العراقية لما بعد الاحتلال سيكون بالتأكيد هي مجموعة الأحزاب الشيعية المرتبطة بإيران، والتي كانت بحاجة لحاضنة شعبية تدين بالولاء لها بشكل عقائدي، لكي تستطيع السيطرة على البلد. ولم يكن في ذلك الوقت وحتى الآن من يستطيع عمل ذلك، سوى المرجعيات الدينية التي لها القدرة على تحريك الشارع لصالح تلك الأحزاب. من هنا بدأت تلك العلاقة الصميمة بين تلك الأحزاب وبين أكبر مرجعية دينية شيعية موجودة بالعراق، وهي المرجعية الدينية لعلي السيستاني.
ما حجم التأثير السياسي للسيستاني؟
على الرغم من إدعاء المرجع الديني علي السيستاني بعدم تدخله في الشأن السياسي العراقي، وأنه قد تركها لأهلها، وأن ما يقوم به هو عبارة عن أبداء التوصيات العامة والنصح إذا اقتضى الأمر ذلك فقط. لكن واقع الحال يقول أن المشاركة السياسية للسيستاني كانت جلية وأساسية منذ بداية الاحتلال حينما لم يفتي بمقاتلة المحتل الأمريكي، الأمر الذي جعل الكثير من أتباعه من المكون الشيعي يتركون مواضعهم في مقاتلة المحتل، ليتم تمهيد الطريق لدخول الامريكان بكل سهولة. وهو بذلك ألصق بهذا المكون، أكبر تهمة خيانة تاريخية للوطن يمكن أن تلحق بمجموعة أساسية من الشعب.
السيستاني خرج عن المنهج التقليدي للمراجع الدينية بعدم التدخل بالسياسة، وأصبح أكثر المراجع انغماساً في الشأن السياسي العراقي
وبسبب تميز السيستاني بعنصري قوة جعلته يتفوق على غيره من المرجعيات، أولاهما القدرة المالية الكبيرة التي مصدرها الأموال التي تجنيها مؤسساته من مبلغ الخُمس الذي يقدمه الأتباع إليه، والثانية أن السيستاني كان يركز على الاتساع والانتشار عبر استقطاب رموز مؤثرة بالوسط الديني والاجتماعي الشيعي، وبعد رؤية التأثير البالغ لمرجعية السيستاني على مجريات الأمور في العراق والتأثير البالغ على اتباعه من قبل تلك الأحزاب الشيعية ومن قبل الأمريكان أنفسهم، بدأت الاهتمام يزداد بتلك المرجعية وتحول العداء الذي كان مستحكما بين بعض تلك الأحزاب وبين المرجعية الى ودٍ وتبادل منفعة بينهما، فالكثير من معارضي السيستاني كانوا مقتنعين بأن هنالك شخصيات كثيرة هي أكثر أهلية منه وأكثر علمًا، ليحل محلّه، والبعض منهم مثل الصدريين يلمحون مرارًا وتكرارًا إلى ولاءه لإيران (بحكم جنسيته الإيرانية) تارة، وإلى ولائه لأمريكا تارة أخرى. إلى أن تحولت العلاقة بين المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق تحولت مع السيستاني من العداء المباشر سنة 2003، إلى علاقة وثيقة للدرجة التي صار المجلس الأعلى يتخذ من السيستاني مرجعية له اليوم. وأصبح الجميع هناك يرجعون إليه في كل صغيرة وكبيرة، حالهم كحال كل السياسيين الشيعة وغير الشيعة.
نفس الحال لمقتدى الصدر وتياره الشعبي الذي كان يعتبر مرجعية السيستاني تابعة لإيران، في الوقت الذي يعتبر نفسه يمثل مرجعية والده “محمد الصدر” ذو المرجعية العراقية، لكن بعد أن حاصره الأمريكان في النجف وتدخل السيستاني لإنقاذه من الامريكان شرط خروجه واتباعه من النجف، هناك أدرك مقتدى الصدر ما للسيستاني من تأثير، وأدرك الأمريكان ما للتعاون مع مثل هذه الشخصية من فوائد جمة.
وبذلك فإن السيستاني خرج عن المنهج التقليدي للمراجع الدينية بعدم التدخل بالسياسة، وأصبح أكثر المراجع انغماساً في الشأن السياسي العراقي، وشيئا فشيئا تحول السيستاني إلى المؤثر الأكبر في تشكيل الحكومات وترشيح الشخصيات لرئاسة الوزراء. فقد كان المسؤول المباشر عن دعم الأحزاب الشيعية ضمن قائمة الائتلاف العراقي الموحد بالانتخابات الأولى والثانية، من خلال حث أتباعه ومقلديه لانتخاب تلك القائمة، الأمر الذي جعل الحكم بيد تلك الأحزاب حتى الآن.
وهو المسؤول المباشر عن الشخصيات التي تسلمت أعلى المناصب في كل حكومات ما بعد الاحتلال. حتى صارت التوجيهات التي تخرج من مقره الأساس العملي للخطوات التي تسير عليها القوى السياسية، ناهيك على الملايين من أتباعه.
وفي ظل النقمة التي اجتاحت الشارع العراقي وبالذات الشارع الشيعي من الأداء السيء للأحزاب الشيعية وفقدانها لحاضنتها الشعبية، وجدت تلك الأحزاب، أن لا بد لها من اللجوء للسيستاني لكي يعطيها صك الموافقة بالبقاء في العملية السياسية.
وأصبح حلم إيجاد “ولي فقيه عراقي” على غرار ما موجود في إيران، أمرًا ملحًا لتلك الاحزاب، وتعاظم دور السيستاني في الحياة السياسية، لتكون له القدرة على إنقاذهم في كل مرة من أحلك المواقف التي يمرون بها.
بعد الدعم الكبير للأحزاب والمليشيات الشيعية ووصول الحالة بالعراق إلى أصعبها، وتململ الناس من هذا الفساد الذي يستشري داخل منظومة الدولة العراقية، بدأ الناس بالخروج إلى الشارع مطالبين بأسقاط الفاسدين وتأسيس حكم رشيد من غير هؤلاء الفاسدين
حينما اجتاح تنظيم داعش لثلث الأراضي العراقية عام 2014، استطاع السيستاني ان يدفع بالألاف من الشباب الشيعة للانخراط بمليشيات مسلحة وذات ولاء عقائدي للولي الفقيه الإيراني “علي خامنئي” وهو بذلك قد وفَّر غطاءً شرعيًا لتلك المليشيات، وكوَّن قوة كبيرة منافسة للقوات الأمنية الحكومية، لينهي تنظيم داعش ويستبدله بــ”داعش شيعي” مسؤوليته المحافظة على الغلبة للمكون الشيعي وسيطرته على العراق، ومصداق ذلك هو دعوة الحشد الشعبي بالبصرة للشباب البصري لتشكيل “حشد متطوعين” لغرض ملاحقة المتظاهرين ضد الفساد فيها.
استطاع السيستاني استبدال وجوه سياسية مهمة حينما لم يعجبه أدائهم، وحادثة اقصاء نوري المالكي عن ولاية ثالثة وتنصيب العبادي بدلاً عنه ليست بعيدة عنا. وبذلك أصبح السيستاني ومن خلال ما نعيشه من أحداث هو عراب نظام المحاصصة الطائفية والقومية والملاذ الآمن للفاسدين، بدعمه لتلك الحكومات الطائفية.
انغماس المرجعية ودعهما للفاسدين أثر على مكانتها بين أتباعها
بعد الدعم الكبير للأحزاب والمليشيات الشيعية ووصول الحالة بالعراق إلى اصعبها، وتململ الناس من هذا الفساد الذي يستشري منظومة الدولة العراقية، بدأ الناس بالخروج إلى الشارع مطالبين بإسقاط الفاسدين وتأسيس حكم رشيد من غير هؤلاء الفاسدين، وعلى الرغم من تدخل التيار الصدري لركوب موجة التظاهر ضد الفاسدين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مكانة الحكم الطائفي في العراق، إلا ان هذا لم يمنع من تهاوي مكانة مرجعية السيستاني بأوساط الشيعة وأوساط متابعيه ومقلديه، مما جعله يستدرك الامر ويعتزل التدخل بالسياسة بإعلانه المشهور بهذا الخصوص، لكن حقيقة الأمر أنه ظل ورغم هذا الإعلان يدير الساحة السياسية في العراق بشكل غير مباشر من خلال وكلائه.
لكن بعض القيادات الشيعية بدأت تشكك بقرارات المرجعية، حينما بدأ التخبط يسودها، وهي تقرر بأن “المجرب لا يجرب” وعدم السماح بالشخصيات التي تسلمت مناصب حكومية سابقاً من تسلم مناصب حكومية جديدة. فقد قال بهاء الأعرجي القيادي في التيار الصدري، “إن هناك خلافات داخل منظومة المرجع الديني علي السيستاني، ورجح أن البيان لم يصدر عن السيستاني شخصياً” وأكد الأعرجي، أن “التقاتل على السلطة أضعف القوى الشيعية كثيرًا”
إلى أين يريد السيستاني الوصول؟
من خلال مراقبة الأحداث في العراق والحراك القائم فيها نجد أن الأحزاب الممسكة بالسلطة لا تستطيع أن تقرر شيئا بالعملية السياسية بدون أخذ الإذن من السيستاني، وهو بالتالي قد ضرب بعرض الحائط الدستور الذي تم كتابته بمباركةٍ منه، واستبدله بنظام ثيوقراطي يكون للمرجع الديني فيه، الكلمة الأولى والأخيرة بالحياة السياسية، ونجد أن النظام بالعراق يتحول تدريجياً لنظام شبيه بالنظام الحاكم بإيران، ولن يمنع السيستاني من إعلان نفسه كـ”ولي فقيه” سوى أن هناك بطهران ولي فقيه أخر يحكم الشيعة بالعالم، واستحالة أن يكون هناك إثنان بنفس الوقت. لكن حقيقة ما يجري في العراق، هي أن نظام سياسي يتم بنائه على أساس النظرية السياسية الشيعية بالحكم والمسماة بـ”ولاية الفقيه”، ومهما أبدى السيستاني رفضه لهذا النظام بالعلن، إلا ان الواقع يناقضه ويكذبه لأنه يمارسه فعليًا دون أدنى شك.