عرفت تونس عقب ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، تأسيس عشرات الأحزاب حتى فاق عددها ٢٠٠ حزب، السمة البارز بينها الانقسامات والانهيارات السريعة، فما إن تسمع باستقالات جماعية في هذا الحزب حتى تسمع بأخرى في حزب آخر، كأن الجمع يتسابقون على من ينهار أولاً.
استقالات وانهيارات لم تستثني من في الحكم ولا من في المعارضة، فالكل مستهدفون بهذه الموجة التي من شأنها إرباك الوضع العام في تونس في هذه المرحلة الانتقالية التي تتطلب أحزابًا قوية لتعديل المشهد السياسي في البلاد حتى لا يختلّ لفائدة طرف واحد. فما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك؟
“حراك تونس” يلتحق بالركب
حزب الرئيس التونسي السابق محمد المنصف المرزوقي، كان آخر الملتحقين بالركب، فبعد أن قاوم لسنتين، إنهار الحزب بصفة شبه رسمية، فلم يبقى فيه إلا قلّة قليلة بعد أن أعلن 80 من كبار قيادات الحزب استقالاتهم منه.
وأرجع المستقيلون سبب خطوتهم إلى ما يعتبرونه عدم القدرة على إصلاح الحزب من الداخل، مشيرين في بيان جماعي “إلى استحالة إصلاح مسار الحزب سياسيًا وتنظيميًا وتحوله إلى العمل لصالح جناح في الحكم على خلفية الانتخابات المقبلة”.
وتأسس “حزب حراك تونس الإرادة” على يد المنصف المرزوقي في شهر ديسمبر/كانون الأول 2015، بعد سنة من خسارته الاستحقاق الرئاسي أمام منافسه الباجي قائد السبسي، على أمل إيجاد تنسيقية معارضة حقيقية تستعد للتداول السلمي على تحمل المسؤوليات.
قبل هذا الانهيار الحاصل في صفوف حزب المرزوقي، عرف حزب السبسي الانقسام والتشتّت أيضًا
إلى ذلك، فقد اتهم بيان الاستقالة المرزوقي بإهمال الحزب على حساب طموحه الرئاسي في الانتخابات المقررة العام المقبل، وجاء في البيان أنه “بالرغم من مشروعية الطموحات الرئاسية للسيد رئيس الحزب، فإن التركيز على ذلك وإهمال الحزب، والوقوف أمام أية إصلاحات عميقة داخله ترسخ الالتزام بلوائحه وخطه السياسي كحزب ديمقراطي اجتماعي معارض، وعدم الاستعداد للنقد الذاتي، قد أفقد الحزب شخصيته السياسية وجعل اهتمام قيادته بالتشريعيات مجرد سفسطة لا يؤكدها أي عمل ميداني”.
ومن بين أبرز المستقيلين رئيس الديوان الرئاسي السابق عدنان منصر، وأعضاء الهيئة السياسية للحزب طارق الكحلاوي وإقبال مصدع وعبد الباسط السماري وغسان الدريدي ومنير دربال وأعضاء المكاتب الولائية والمحلية للحزب وأعضاء لجنة الإعلام والتنظيم.
أحزاب أخرى عرفت نفس المصير
قبل هذا الانهيار الحاصل في صفوف حزب المنصف المرزوقي، عرف حزب الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي الانقسام والتشتّت أيضا، فقد تأسست عديد الدكاكين الحزبية من رحم “نداء تونس” بعد أن استقالت منه كبرى القيادات.
نفس الأمر حصل مع حزب محسن مرزوق، الذي تشكّل في مارس/ اذار 2016، فقد عرف الحزب استقالات عديدة، بعد أن كان مرزوق يقول إن حزبه سيكون رقمًا صعبًا في الساحة السياسية التونسية، وستوكل إليه مهمة تعديل المشهد السياسي في البلاد وإنقاذه من الاستقطاب الثنائي.
الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي
ما حصل في “النداء” و”الحراك” و “المشروع”، حصل أيضا في حزب “الاتحاد الوطني الحر” الذي يقوده رجل الأعمال والرئيس السابق للجمعية الرياضية “النادي الإفريقي” سليم الرياحي، الاستقالات دبّت في هذا الحزب بعد أن حلّ ثالثا في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2014.
حزب “آفاق تونس”، الذي أسسه الوزير الأسبق ياسين إبراهيم في مارس/اذار 2011، عرف نفس المصير، فلا يكاد يمرّ أسبوع دون أن نسمع عن استقالات في الحزب وعن المشاكل الداخلية له من قبيل تفرد رئيسه ياسين ابراهيم بالرأي واتخاذه قرارات مصيرية تخص الحزب دون الأخذ بعين الاعتبار لآراء قيادات الحزب.
وقبل ذلك، شهد حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، نفس المصير، فبعد أن حلّ ثانيًا في انتخابات 2011، ظهرت التوتّرات بينبين التيارات الإيديولوجية المختلفة للحزب، ما أدّى إلى انقسامه وخروج عديد الأحزاب المجهرية من رحمه.
لا مكان لأحزاب “الرجل الواحد”
ما يعاب على هذه الأحزاب أن جميعها قائم على رجل واحد، بمعنى أن شخص بعينه يرغب في إنشاء حزب، ولديه الإمكانيات المادية لتغطية نفقات هذا الحزب. وقد كانت هذه الزعامات والشخصيات عامة، تعتقد بأن لها القدرة على العمل السياسي بفضل شهرتها.
بعد تأسيس هذه الأحزاب، لم يحدث تأسيس حقيقي لها، وبناء هياكل وكوادر قادرة على تطوير عملها واندماجها في الحياة اليومية للناس، وجعل عملها مؤسساتي لا يتوقف على مزاج ورغبات رؤساء الأحزاب وظروف تحالفاتهم الآنية.
يتخذ القادة داخل هذه الأحزاب قرارات أحادية الجانب أو بالتنسيق مع أتباعهم الذين يتصرفون وفق مصالحهم الخاصة
يؤكد عديد من الخبراء أن هذه الأحزاب، ارتبطت منذ تأسيسها بأسماء مؤسسيها، مثلا النداء هو السبسي والسبسي هو النداء، فالذين صوتوا في الانتخابات التشريعية أكتوبر 2014، صوتوا للباجي ولم يصوتوا للذين ضمتهم قوائم النداء، وهو ما تأكد خلال الانتخابات المحلية الأخيرة حيث خسر النداء قرابة المليون صوت.
الباجي قائد السبسي
أيضًا، معظم الأشخاص الذين انضموا أو دعموا “حراك تونس الإرادة”، فعلوا ذلك انطلاقاً من احترامهم لنضال زعيمه المرزوقي، لا من أجل أي خطّ ملموس للحزب. إذ لم يشتهر المرزوقي بسبب نشاطه في مجال حقوق الإنسان وحسب، بل أيضاً بسبب آرائه العروبية، والتي استقطبت مجموعة واسعة من المؤيّدين ذوي الخلفيات اليسارية والقومية في الغالب، من ذوي الميول الإسلامية أيضا.
غياب الديمقراطية داخل هذه الأحزاب
هذه الزعيم الذي قامت حوله هذه الأحزاب، منع الشورى والديمقراطية داخلها، فهو الوحيد القادر على اتخاذ القرار وفق منظوره الخاص، ووحده المخوّل له تسيير الحزب والتحكم فيه خدمة لمصالحه الخاصة وهو ما يرفضه عدد كبير من الأعضاء والأنصار.
وتفتقر هذه الأحزاب إلى ديمقراطية داخلية، حيث يتخذ القادة قرارات أحادية الجانب أو بالتنسيق مع أتباعهم الذين يتصرفون وفق مصالحهم الخاصة. إذ تتمسك الكوادر بالسلطة وتقاوم الإصلاح الهيكلي، في ظلّ افتقارها إلى رؤية واستراتيجية واضحة وموحّدة.
ويرى عديد المحللين أن مصير هذه الأحزاب التي تقوم على الزعيم الواحد، كمصير أحزاب كثيرة أخرى العالم ارتبطت بشخصية مؤسسها المؤثرة في الرأي العام، وقد انتهت هذه الأحزاب بنهاية المؤسس، أي خروجه من سدة الحكم، خاصة وأن أغلبها يفتقر إلى هيئات تحكيم منتخبة تبت في النزاعات الحاصلة بين الأعضاء.
براهم: الأحزاب التي تتمحور حول شخص مآلها التشقّق والاضمحلال
يقول عديد المتابعين للشأن السياسي في تونس إن هذه الأحزاب التي تقوم على الزعيم الأوحد، لن تجد لها مكان في تونس بعد الأن نتيجة أسباب عدّة. في هذا الشأن يقول الباحث في مركز الدراسات والبحوث التابع لوزارة التعليم العالي سامي براهم لنون بوست، إنّ “كلّ الأحزاب التي تتمحور حول شخص لا حول برنامج ورؤية وعمل جماعي مآلها التشقّق والاضمحلال.”
ويؤكّد الباحث التونسي في حديثه لنون بوست، أنه “لم يعد من المقبول من حيث الجدوى السياسيّة والاستجابة لاستحقاقات الواقع ورهاناته أن ترتهن الأحزاب لأشخاص ملهمين مهما كانت مواهبهم وشرعيّتهم.”
سامي براهم
يضيف براهم: “لا يمكن إدارة مرحلة تأسيس ديمقراطيّ في إطار مسار ثوريّ بأحزاب تقليديّة تشتغل بالمناولة لتحقيق طموح شخص معين، والدّوران في فلك الزّعيم الملهم والمنقذ من الضّلال والنّاطق الرّسمي والقيادي التّاريخي الذي لا يشقّ له غبار.”
ويرجع سامي براهم ذلك، إلى أن تونس تعيش الآن في “عصر التّسيير الجماعي والمؤسّسات الدّيمقراطيّة وتعدّد الآراء والتّمكين للشّباب والنّساء وأصحاب الكفاءات والخبرات، وهو ما يجب أن تتفطّن له جميع الأحزاب حتّى تلك التي تبدو متماسكة وقويّة وعصيّة عن التفكّك.”
المشكلة في غياب البعد المؤسسي للزعامة وانحصارها في فرد بعينه
الإعلامي والمستشار السابق للإعلام والاتصال برئاسة الحكومة التونسية، عبد السلام الزبيدي، له رأي مخالف، حيث يقول لنون بوست، إن “قيام الأحزاب على الزعيم أمْرٌ لا يتنافى مع مفهوم الحزب وأدواره، فالزعيم يُعتبر مؤسسة في ذاتها، وهو يمثّل عادة العلامة التسويقية الأبرز للحزب والشخصية القادرة على الحشد والاستقطاب.”
يؤكّد الزبيدي أن “غياب الزعيم يؤثر سلبا عادة على الأداء والإشعاع”، غير أنه يستدرك بالقول، إن “الإشكال هو أن يكون الزعيم هو ذات الشخص، أي الاشكال في غياب البعد المؤسسي للزعامة وانحصارها في فرد بعينه.”
الزبيدي: “في تونس لا توجد أحزاب ذات تاريخ ولها مؤسسات ما عدا حزب واحد”
يرى الباحث التونسي، أن “ظاهرة استقالة القيادات أو المنخرطين أو ابتعاد الأنصار عن أحزابهم، ليست بالضرورة ذات علاقة سببية، فالزعيم الأوحد يُعتبر عاملا مؤثرا ولكن ليس عاملا محدّدا في كل الحالات”، وفق قوله.
يضيف، عبد السلام الزبيدي، “السلاسل المتكررة والمتواترة للاستقالات الوازنة لقيادات الصف الأوّل كانت في إطار الصراع على خلافة الزعيم، أمّا الاستقالات المتتالية للقيادات الوسطى أو للقواعد فكان بعضها بسبب افتقادهم فعلا للزعيم المؤسس ذلك أنّ انتماءهم الحزبي كان انجذابا لشخص الزعيم أكثر منه سيرًا وراء فكرة أو مشروع.”
في خصوص ما حصل مؤخرا من استقالات في صفوف حزب المرزوقي، قال الزبيدي إن “أسبابها تتعلق بعملية التأسيس ذاتها وبعدم وضوح الهوية السياسية للحزب وبطموحات وخيارات شخصية أعتبرها مشروعة، والحديث عن مسؤولية الرئيس مجرّد شمّاعة.”
عبد السلام الزبيدي
يستدلّ الإعلامي التونسي في موقفه بما عرفته حركة النهضة، فقد “شهدت الحركة عبر تاريخها موجات من الاستقالات لقيادات وازنة أحيانا وفِي أحيان أحرى انسحابات وانسلاخات من القواعد لم تؤثر بشكل لافت بسبب وجود زعيم تاريخي ما زال ماسكا بمقاليد الحزب خلافا للنداء (الباجي قايد السبسي)، ولم تؤثر كذلك لأنّ الحزب عقائدي في منطلقه وله مراحل هامة من تاريخه عكس الحراك (المنصف المرزوقي)، بحسب تعبيره.
وخلص الزبيدي إلى أن “هشاشة الأحزاب، وقيامها حول شخصٍ وعدم وضوح خياراتها وفِي كثير من الأحيان غيابها وطبيعة الفترة الانتقالية بالإضافة الى الطموحات الشخصية هي الأسباب الحقيقية للاستقالات، ففي تونس لا توجد أحزاب ذات تاريخ ولها مؤسسات ما عدا حزب واحد، وهو النهضة”.
غياب البرنامج
من جهة ثانية، رأت الإعلامية التونسية شذى الحاج مبارك، أن “التصدع الذي تعيشه هذه الأحزاب كان مُتوقعا نظرًا لطبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد ونظرا لحداثة النشاط السياسي الحزبي المتحرر من كل قيد في تونس، ثم باعتبار حداثة طيف واسع، من المنخرطين بهذه الأحزاب، بالنشاط السياسي.”
هذه الأحزاب، تقول الحاج مبارك لنون بوست، إنها “لم تركّز على التكوين السياسي ولم تتجه نحو تركيز آليات الديمقراطية في تشكيل الحزب حيث يتجلى ذلك من خلال العجز عن تنظيم مؤتمر انتخابي، أو تصدّع الحزب مباشرة إثر المؤتمر وتراشق الاتهامات والتشكيك في مصداقية نتائجه وهذا ما نعايشه في تونس.”
شذى الحاج مبارك
تفتقر هذه الأحزاب، وفقًا للإعلامية التونسية إلى “التماسك والانتظام الحزبي بما يعنيه الولاء السياسي للحزب ومن هنا برز مفهوم السياحة الحزبية، فبمجرد اتخاذ موقف لا يرضي البعض يقوم هؤلاء بالانسلاخ بما يفيد أحيانا تعطل قنوات الاتصال والتواصل داخل الحزب.”
وتعود أسباب الانهيار المتتالية أيضا إلى “غياب برنامج سياسي واضح وآخر اقتصادي عند معظم هذه الأحزاب، حيث لم يتم التأسيس لبرامج واضحة واستراتيجية سياسية تقود هذه الأحزاب لمراحل طويلة، الأمر الذي أدّى إلى انهيارها مبكرا وفقا لشذى الحاج مبارك.
انطلاقا مما ذكرنا، نرى أن هذه الانقسامات والخلافات ستستمر، طالما أن القادة يواصلون إعطاء الأولوية إلى الطموحات أو التنافسات الشخصية على حساب وحدة الحزب والتنسيق، لذلك وجب “دمقرطة” الأحزاب من الداخل لتعزيز وحدتها، فيتعيّن على قادة الأحزاب عند اتخاذ القرارات الاهتمام بوجهات نظر جميع الأعضاء، وليس تلك الخاصة بمجموعة صغيرة من النخب فقط.