اهتمّ البشر منذ القدم بفكرة الخلود وبحثوا عن الطريق إليها. فمع تطوّر دماغ الإنسان وإدراكه لحتمية الموت، أخذ البشر يبحثون عن الحياة الأبدية كبديلٍ عن الواقع، وتعدّ محاولات الفراعنة في حفظ أجسادهم بعد الموت في الأهرامات على أمل الخلود والحياة الجديدة من أقوى الأدلة التاريخية على ذلك.
ومع مرور التاريخ، شهدت البشرية العديد من المحاولات والاقتراحات التي سعت لتحقيق الفكرة سواء من خلال الدين والإيمان أو عن طريق الفلسفة والعلم، أو حتى من خلال نقل “الوعي” إلى شخصٍ آخر للحفاظ عليه للأبد. وفي حين أنّ الخلود لم يتعدّ نطاق الفِكر والحلم حتى يومنا هذا، إلا أنّ التاريخ البشريّ حاول استكشاف الفكرة من خلال الملاحم والروايات والقصص، وأخيرًا من خلال السينما والمسلسلات التلفزيونية.
أصبح الذكاء الاصطناعيّ إشارةً للخلاص البشريّ في السينما الحديثة، وما روّجت له الأساطير القديمة منذ عشرات آلاف السنين أصبح من الممكن، في رأي السينما، تحقيقه بفعل التكنولوجيا
وقبل أكثر من خمسة آلاف سنة، دوّنت الحضارة السومريّة في بلاد الرافدين “ملحمة جلجامش“، أعظم ملحمة إنسانية خالدة تحمل معاني البشرية في أسمى مراحلها وقلقها وارتباكها وتناقضها الفسيولوجي والروحي. فقد مثّلت الملحمة الصراع الأزليّ بين الموت والفناء وبين إرادة الإنسان في محاولاته للتشبّت بالوجود والبقاء من خلال قصة “جلجامش”، أسطورة الملك الذي “يمتلك جسمًا ثلثيه من الآلهة الخالدة وثلثه الباقي بشريّ فانٍ”.
كثيرة هي القصص والروايات والأساطير التي تحدثت عن السعي الدؤوب للبشر للوصول إلى سرّ الخلود أو إلى ما يُعرف في الأدبيات العربية باسم “إكسير الحياة“، وهو عقار أو مشروب أسطوريّ يضمن لشاربه حياة أبدية أو شباب أبدي، وقد سعى إليه العديد من ممارسي الخيمياء قديمًا. ولم تتوانَ السينما الحديثة في الغوص عميقًا في تلك الرغبة القديمة ودور التكنولوجيا وتطوّراتها في السعي إليها أكثر من ذي قبل وما للموضوع من تبعات نفسية واجتماعية كبيرة على إنسان العصر الحديث.
وعلى الرغم من أنّ معظم القصص والأساطير والأفلام التي تتناول حلم الأبدية والخلود تنتهي بشكلٍ سيءِ في الغالب أو أنها تنتهي بحقيقة عدم إمكانية تحقيق الرغبة والوصول إليها، أو أنّ جميع الأبطال الذين حقّقوا تلك الرغبة لم يلقوْا قبولًا واسعًا في مجتمعاتهم، إلا أنّ ثمة إصرارًا كبيرًا على تناولها مرارًا وتكرارًا، بطريقةٍ تجعلنا نتساءل حقًا عن الأسباب وراء ذلك، هل التطور العلميّ والتكنولوجي الحاصل في السنوات الأخيرة هو ما يحفّزها أم أنّها مجرّد صناعة سينمائية تتبع أهدافًا معينة؟
كيف تناولت السينما الخلود والأبدية؟
يُعتبر موضوع الأبدية والخلود شائكًا ومتنوعًا في السينما، خاصة في أفلام الخيال العلميّ، إذ تصوّر بعض الأفلام جزءًا من البشر خالدين تمامًا أو يكادون يقتربون من الخلود التام، بمعنى حصانتهم ضدّ الموت الناتج عن المرض أو التقدّم بالعمر. وفي بعض الأفلام الأخرى يمكن لهؤلاء الخالدين أن يقتلوا بعضهم البعض ويسبّبوا بموتهم، كما هو الحال في المسلسل التلفزيوني “Star Trek“.
أصبحت الروبوتات في السينما خلال العشر سنوات الأخيرة مفتاحًا وطريقًا للخلود والأبدية
كما تظهر بعض الأفلام أنّ فكرة الخلود ممكنٌ حدوثها من خلال وسائل وطرق معقولة علميًا، مثل الحياة خارج كوكب الأرض أو عن طريق استبدال جسم الإنسان البشريّ بالآلات، أو كما فعل مسلسل “ويست وورلد” حين ناقش فكرة “خلود الوعي” عند الإنسان من خلال بوابة “الذكاء الاصطناعي” عن طريق تحميل “الوعي” في جسد روبوتٍ يمكن له البقاء والخلود طويلًا.
مشهد من مسلسل WestWorld
ومع التقدّم التكنولوجي الحاصل في عالمٍ يتحرّك بسرعةٍ مخيفة باتجاه الكثير من الاختراعات والإنجازات الذكية، لا عجب أنْ تركّز السينما الحديثة على مفهوم الأبدية والخلود الذي بات خلال الفترة الأخيرة مطروحًا بقوة في تجارب الذكاء الاصطناعي والروبوتات أو حتى في تجارب المختبرات التي تسعى إلى تخليد الحيوانات وتخليصها من الشيخوخة والموت.
فبعد أنْ كانت السينما تصوّر الروبوتات بكونها قادمة لكوكب الأرض لقتل البشر، أصبحت خلال العشر سنوات الأخيرة مفتاحنا وطريقنا للخلود والأبدية. فالسيناريو في معظم تلك الأفلام كالآتي: يموت البشر وسيتمّ الحفاظ على وعيهم الذاتيّ ومعلوماتهم الإدراكية في أدمغتهم ومن ثمّ تحميلها إلى روبوتٍ في هيئة جديدة.
وبالتالي، أصبح الذكاء الاصطناعيّ إشارةً للخلاص البشريّ في السينما الحديثة، وما روّجت له الأساطير القديمة منذ عشرات آلاف السنين أصبح من الممكن، في رأي السينما، تحقيقه بفعل التكنولوجيا. أما عن الأسباب التي تجعل من أفلام الخلود رائجةً فيمكن تلخيصها على المستوى الفرديّ بأنّ فكرة الخلود والأبدية قد تكون فعلًا متأصلة في الذات البشرية، وهي الرغبة التي ساعدت الإنسان الأول على البقاء والاستمرار، ويكفي للمرء أن يقرأ تاريخ الطب، ليكتشف المجهود الجبار الذي بذلته البشرية لإيقاف الألم ومن ثم الموت، وما تجارب الذكاء الاصطناعيّ إلا خطوة متقدمة سبقتها الكثير من المحاولات على مدار التاريخ.
المساعي الداعية للخلود والأبدية تعكس ثقافة الفردانية المفرطة المنتشرة في مجتمعات العصر الحديث
أمّا على المستوى المجتمعيّ، فيقترح أستاذ الأخلاق في قسم اللاهوت في جامعة جنيف السويسرية، فرانسوا ديرمانج، أنّ المساعي الداعية للخلود والأبدية تعكس ثقافة الفردانية المفرطة المنتشرة في مجتمعات العصر الحديث. وبمعنى آخر، يرى ديرمانج هذه الرغبة الداخلية الكامنة وكأنها تفسيرٌ لنظرة الفرد لنفسه على أنه “شخص عظيم” يستحقُّ أن يعيش للأبد”. وإذا نظرنا إلى سينما الخلود، لوجدنا أنّ معظم أو جميع الأفلام تتناول الموضوع بكونه متاحًا لجزءٍ من البشرية دون الآخر، ما يعني أنّ ثمة أشخاص يستحقون الحياة الأبدية أكثر من غيرهم. أمّا عن الأسباب التي تدفع البشر للتفكير بالأبدية، فيرى ديرمانج أنّ الأمر نابعٌ من الرغبة والحاجة للكمال؛ إذ يصعب على البشر تقبّل الشيخوخة واختفاء الذكاء والجمال والجاذبية.
وعلى الرغم من أصالة الفكرة وتجذرها عميقًا في النفس البشرية التي لم تتخلَ عنها منذ الأزل، إلا أنّ العديد من الأفلام ذات الطابع الميتافيزيقيّ في الوقت نفسه استطاعت أنْ تطرح تساؤلاتٍ مهمّة حول الرغبة في البقاء والثبات واللانهاية، وتستفزّ فكرة الخلود في عقول مشاهديها لتسألهم عن مدى استعدادهم للبقاء على ما هم عليه دون أنْ يغيّر فيهم الزمن شيئًا كما حصل في فيلم “the age of adaline” على سبيل المثال، أو عن طريق نقل وعيهم إلى روبوتٍ خالدٍ في هيئة أجسادهم لا يشيخ ولا يموت تمامًا كما يطرح مسلسل “WestWorld“.