“القطريون في قلب سلمان لكنهم ليسوا في البيت المؤتمن عليه، وإن أرادوا دخوله فهم مخيرون بين بيت الله أو حكومتهم”. هذا ما ذكرته صحيفة “عكاظ” في إحدى مقالاتها، على بعد أيام من موسم الحج الماضي، وسريعًا ما عجَّت مواقع التواصل الاجتماعي بالردود الرافضة “هذه صحيفتك إملأها بما تشاء، وهذا بيت الله سنجد إليه سبيلاً عندما يشاء”.
وبينما يولي الملايين من المسلمين وجوههم شطر بيت الله يُحرم الفلسطينيون اليوم منه أيضًا، في وقت يُستقبل الحجاج فيه الإيرانيون بحفاوة مبالغ فيها، رغم مطالبة طهران في العلن بـ”تدويل الحرمين“، وهي التهمة التي تُرمى بها الدوحة وتنفيها عن نفسها.
وبينما تُوزَّع تأشيرات المجاملات أو رشاوى الحج على من يتماهى مع المواقف السعودية، بعيدًا عن نظام توزيع الحصص المخصصة لكل بلد، تلاحق المآسي الفلسطينيين أينما كانوا، وجديد التحديات أمامهم قرار سعودي يقضي بحرمان أكثر من نصف مليون فلسطيني يحملون الجوازات الأردنية دون رقم قومي من الوصول إلى بلاد الحرمين لأداء مناسك العمرة.
تكذب السعودية كل هذه الاتهامات، وتقول إنها قدمت التسهيلات وأنشأت الروابط وأن من يسيس الحج هو الدوحة، لكن هل تسيس كندا الحج أيضًا؟ فقد كان حجاجها آخر ضحايا الأزمة السياسية بين البلدين على خليفية انتقادات لحقوق الإنسان بالمملكة، وسبقهم سوريون وليبيون ولبنانيون ويمنيون ومواطنو دول أفريقية لم يقبلوا التماشي مع مواقف الدولة الخليجية.
مؤسسة شاهد: عدة مكاتب تُعني بتنظيم الحج والعمرة في لبنان تبلغت من السلطات السعودية عدم قبول سفر أي لاجئ فلسطيني يحمل وثيقة سفر إلى المملكة
لكن هل تكذب أيضًا أنه جاء الدور على الفلسطينيين من أبناء مدينة القدس المحتلة وقطاع غزة والضفة الغربية، ومن في حكمهم من حملة الجواز “دون رقم وطني”، لمنع دخولهم المملكة للحج أو العمرة أوالإقامة؟ إذا كان كذلك فعلى “عكاظ” أن تنشر “إن أراد الفلسطينيون الدخول فهم مخيرون بين بيت الله أو “صفقة القرن”، أو كما قالت مسبقًا “أيها الفلسطينيون.. لوموا أنفسكم”.
لا عمرة للاجئين الفلسطينيين
يبدو أن صمود الشعب الفلسطيني في وجه محاولات تمرير “صفقة القرن”، التي تهدد مستقبل قضيتهم، لم ينل إعجاب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهو ما دفعه للتصعيد وممارسة مزيد من الضغوط عليهم، مستغلاً في ذلك ورقة الحج والعمرة، كما سبق وأن فعل مع العديد من الدول الأخرى.
فآخر ما يحتاجه الفلسطينيون ولا يتوقعونه من ذوي القربى أن تتخذ السلطات السعودية قرارًا – غير مكتوب – لمنع الفلسطينيين من حملة الجوازات الأردنية المؤقتة دون رقم قومي من أداء شعيرة العمرة، في خطوة بددت – بحسب إحصاءات أردنية رسمية – رجاء أكثر من نصف مليون فلسطيني في زيارة بيت الله الحرام.
سارعت التأويلات بربط القرار السعودي بالضعوط الجارية دوليًا وإقليميًا لتمرير ما وُصف بـ”صفقة القرن”، بالضغط على الأردن والسلطة الفلسطينية لرفضهما تلك الإطروحة
وبحسب وسائل إعلام أردنية محلية، فإن السلطات السعودية طالبت من سفارتها في عمّان بتاريخ 2 أغسطس/آب من العام الحالي، بالتوقف عن طبع التأشيرات لكل من يحمل جواز سفر أردني دون رقم وطني دون تعليل الأسباب، وهو ما يعني غلق الباب أمام حاملي الجوازات الأردنية المؤقتة من الحج والعمرة والإقامة.
وحاملو الوثائق أو جوازات السفر الأردنية المؤقتة هم فلسطينيون مقيمون على الأراضي الأردنية منذ عشرات السنين، لكنهم لا يتمتعون بالجنسية الأردنية والرقم الوطني الذي يميز الأردني عن غيره، وقد تسبب القرار السعودي بحرمان المئات من الحج والعمرة منذ سريان العمل به قبيل موسم الحج الفائت حيث منع عشرات المتقدمين من الالتحاق بالحج رغم توافر الشروط الرسمية لوزارة الأوقاف الأردنية.
تسبب القرار السعودي بحرمان المئات من الحج والعمرة منذ سريان العمل به قبيل موسم الحج الفائت
ولم يقتصر الأمر على فلسطيني الأردن، فهذا القرار يأتي استتباعًا لقرار سابق بحرمان حصر منح التأشيرات فقط لحاملي جوازات السفر الصادرة عن السلطة الفلسطينية بلبنان، بحسب ما أكده مدير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) محمود حنفي، الذي لفت إلى أن عدة مكاتب تُعني بتنظيم الحج والعمرة في لبنان تبلغت من السلطات السعودية عدم قبول سفر أي لاجئ فلسطيني يحمل وثيقة سفر إلى المملكة.
وبحسب حنفي، فإن قرار المنع السعودي لم يقتصر على تأشيرات الحج والعمرة فقط، بل تضمن التعميم عدم تجديد إقامات اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في المملكة، وعدم قبول طلباتهم ما لم يحملوا جواز سفر معتمد من السلطة الفلسطينية، وهو ما يشكل مخاطر عدة، خصوصًا للمركز القانوني للاجئين الفلسطينيين، فضلاً عن عدم السماح لهؤلاء بممارسة شعائرهم الدينية.
الحج والعمرة ورقة ضغط جديدة على الفلسطينيين
رغم أن القرارات صادرة عن وزارة الخارجية السعودية، بحسب الناطق الإعلامي لشركات الحج والعمرة في الأردن كمال أبو ذياب، إلا السفارة السعودية لم تعلق على أي منها، لكن التأويلات سارعت بربطه بالضعوط الجارية دوليًا وإقليميًا لتمرير ما وُصف بـ”صفقة القرن”، بالضغط على الأردن والسلطة الفلسطينية لرفضهما تلك الأطروحة التي لم تخرج بوجهها السافر إلى العلن بعد.
ولا يخفي أعضاء في مجلس النواب الأردني ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وجود أهداف أخرى للقرار، منها ما هو سياسي متعلق بملفات “صفقة القرن” والضغط على أبناء القدس، في ظل التضييقات والصعوبات والكلف المالية العالية التي تواجه أبناء الضفة والقدس وغزة من حملة الجواز الأردني المؤقت أثناء تنقلهم من وإلى الأردن من قبل سلطات الاحتلال.
“الموقف السعودي قد يدفع بسكان القدس للحصول على الجنسية الإسرائيلية، وهذا سيؤدي إلى تسهيل جهود تهويد المدينة”، يقول الكاتب والمحلل السياسي المقدسي راسم عبيدات
ومع رفض الملكة المتكرر لهذه التأويلات، وجد القرار السعودي أصداء له على مواقع التواصل الاجتماعي، وحملت تعليقات الناشطين انتقادات للقرار السعودي، وتساءل البعض: ماذا يعني المنع من دخول السعودية لأداء مناسك العمرة؟ وهل هو إجبار للفلسطينيين على حمل جوازات فلسطينية بدلاً من الأردنية لنصف مليون مواطن فلسطيني، وبالتالي تخلّي أهل القدس عن الوثيقة الخاصة بالمقدسيين، وحرمانهم من الإقامة في القدس في حال سفرهم للعمرة؟ وماذا يضير السعودية إن دخل الفلسطيني بجواز فلسطيني أو أردني أم أن هناك أهدافًا خفية أخرى وراء هذا القرار؟
القرار السعودي “المجحف” يعكس – بحسب منتقديه – تسييس الشعائر الدينية في بلاد الحرمين، ويشكل استهدافًا جديدًا للفلسطينيين من جانب السعودية عبر إجبار حاملي الجوازات الأردنية دون رقم قومي، وتحديدًا المقدسيين منهم، إلى اللجوء إلى الجوازات الفلسطينية، وتخلي أهل القدس عن الوثيقة الخاصة بهم، وبالتالي مغادرة أرضهم المحتلة التي صمدوا فيها عقودًا فيها.
ترحيب المملكة بالحجاج الإيرانيين خلال موسم الحج العام الماضي – المصدر: وكالة الأنباء السعودية
وبحسب الكاتب والمحلل السياسي المقدسي راسم عبيدات، فإنّ هذه القضية لها بعدان، البعد الأول يتمثل في أنّها جزء من “صفقة القرن” الأمريكية، التي ترى الأردن الوطن البديل، وما يسمَّى بالكونفدرالية الفلسطينية- الأردنية، وهي شطب قضية اللاجئين، بتجنيس أبناء الشبع الفلسطيني هناك، فيما يتمثل البعد الثاني في المساعي السعودية الدخول على خط الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وفي مقدمتها المسجد الأقصى.
وفي رأي عبيدات، فإنَّ الموقف السعودي قد يدفع بسكان القدس للحصول على الجنسية الإسرائيلية، وهذا سيؤدي إلى تسهيل جهود تهويد المدينة، مشيرًا إلى أنَّ “النظام السعودي بات جزءًا من المؤامرة على الشعب الفلسطيني من خلال ما يسمَّى بـ”صفقة القرن”.
وتتوالى الضربات على الفلسطينيين من كل حدب وصوب
لم يخل هذا القرار من دلالات سياسية تؤكد وجود مشروع استهداف للاجئين الفلسطينيين، إذ ترمي هذه الخطوات السعودية الأمريكية إلى تحييد ما تعتبره “عقبة” على طاولة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وفرض سياسة الأمر الواقع، بعد تعثر المفاوضات، وانفلات الأمور من تحت يد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خاصة فيما يتعلق بعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
هذه الإجراءات تأتي في إطار استهداف حقوق اللاجئين المتعلقة بحق العودة
بهذه الخطوة أيضًا، فإن ابن سلمان يضيق الخناق على الفلسطينيين ويشكل “كماشة” عليها، فمن ناحية هو يضغط على اللاجئين الفلسطينيين بورقة الحج، لإعلان انحيازهم للسعودية، والضغط على القيادة الفلسطينية للقبول بـ”صفقة القرن”، وعلى الجانب الآخر تضغط الولايات المتحدة عليهم بقطع الساعدات والمعونات.
وعكست هذه الدلالات السياسية موقف الفصائل الفلسطينية – ومنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – من الحظر السعودي، حيث أكد القيادي هاني الثوابتة، أن “هذه الإجراءات تأتي في إطار استهداف حقوق اللاجئين المتعلقة بحق العودة وفق القرار الدولي رقم 194، موضحًا أن “هذا الاستهداف يتراوح ما بين التوطين وما بين إلغاء حقوق اللاجئين عبر العديد من الخطوات، منها أيضًا تصفية وكالة “الأونروا”، التي هي بمثابة الشاهد على جريمة العصر التي ارتكبها العدو الصهيوني بتهجير وطرد الفلسطينيين من أرضهم”.
يرى البعض أن ابن سلمان يسعى من هذا القرار لإقحام المخيمات الفلسطينية في لبنان لخوض أي صراع مستقبلي مع “حزب الله” اللبناني
هذا فضلاً عن أن ابن سلمان – بحسب ما يرى البعض – يسعى من هذا القرار لإقحام المخيمات الفلسطينية في لبنان لخوض أي صراع مستقبلي مع “حزب الله” اللبناني؛ حيث يزيد عدد الفلسطينيين في لبنان عن 300 ألف شخص، يتوزعون على عدة مخيمات، وهو ما ألمح إليه خلال لقائه بالرئيس الفلسطيني “محمود عباس”، في آخر زيارة جمعت بينهما.
ومنذ ظهور محمد ابن سلمان في المشهد السعودي، لم تتوقف الضغوط السعودية والأمريكية بهدف تصفقية القضية الفلسطينية، بدءّا من نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس، وصولاً إلى ومنها قطع المعونات الأمريكية عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأنروا”، إضافة غلى إغلاق مكاتب منظمة التحرير، وغيرها من وسائل الضغط، وكلها تشير إلى مخططات تستهدف مستقبل القضية الفلسطينية، كما تستهدف الأردن، بعضها بأياد بعيدة، وأخرى بظلم ذوي القربى.