عُرف جامع “عقبة بن نافع” بالقيروان (وسط تونس) لدى المخيال الشعبي التونسي والإسلامي، بأنه أول مسجد بني للناس بإفريقية، إبان فتح المنطقة على يد القائد الجليل عقبة بن نافع في القرن الخامس للهجرة، إلا أن القليل فقط يعلم بوجود مسجد صغير يحمل نفس الاسم، تم بناؤه قبل جامع القيروان المعمور بعام كامل في قرية تدعى “تلمين” جنوب تونس.
تلمين.. من محمية رومانية إلى مركز لنشر الإسلام
على بعد قرابة 500 كيلومتر جنوب العاصمة تونس، و300 كيلومتر جنوب القيروان، تقع قرية “تلمين” التابعة لمحافظة قبلي، بين أحضان أشجار النخيل الباسقة التي تسبح أغصانها في الفضاء، وتمتشق قامتها لتقف رمزا للنبل والصمود والتحدّي، والعيون الطبيعية الجارية التي تمنح الواحة وأهلها الحياة.
قديمًا، كانت قرية تلمين أولى المناطق التي دخل منها القائد الإسلامي الكبير عقبة بن نافع إلى إفريقية قادمًا من إقليم برقة سنة 49 هجري أي قبل سنة من وصوله إلى القيروان، وفقا لما تناقله المؤرخون وكتب التاريخ وأهالي المنطقة.
يعتبر مسجد عقبة بتلمين أقدم مسجد في المنطقة تم بناؤه سنة 49 هجري
في تلك الفترة، كانت تلمين من أكبر وأعرق المدن الرومانية في المنطقة، وقد ارتبط وجودها بوجود الماء زمن الرومان، فقد جعلوا منها مصدرًا للمياه والقمح والملح، فضلاً عن جعلها جدار دفاع ضد الغزاة، وأسسوا فيها كنيسة لنشر الديانة المسيحية، تحمل اسم “دوناتيا”.
تأسست هذه البلدة في العهد الروماني خلال القرن الأول للميلاد، وأسند لها اسم “تريس تماليني”، ونتيجة أهمية موقعها أسند لها في عهد الإمبراطور “هدريانوس”، قانون المدينة الرومانية أو مونيقـبيوم، وارتقت بذلك إلى رتبة بلدية، وقد أصبحت خلال القرن الرابع ميلادي مركز أسقفية.
اعتبرها محمد بن عبد الله الحميري في كتابه “الروض المعطار في خبر الأقطار”، “مدينة لطيفة حصينة لها أرباض ولها غابة نخل وزيتون وجميع الفواكه فيها”. وقارنها بمصر أي القاهرة إذ أورد ما قاله بعضهم فيها من أن “تيمليمن سبعة أحرف على لطفها وخمول ذكرها، ومصر ثلاثة أحرف على عظمها وسمو ذكرها”.
تم فتح المنطقة سنة 49 هجري واجبار الروم على الخروج منها
خلال دخوله المدينة، تمكّن القائد عقبة بن نافع من كسر شوكة الرومان، وقام بالقضاء على الحامية العسكرية التابعة لهم هناك. عقب ذلك توجّه عقبة لإقامة مسجد في المنطقة يكون مركزًا لانطلاق الفتح الإسلامي هناك، ولضيق الوقت حوّل عقبة كنيسة “دوناتيا” إلى مسجد مع المحافظة على كافة مكونات هذا المعلم، وإضافة المحراب لاستقبال القبلة وإقامة الصلاة داخله، وفق رواية أهالي القرية لنون بوست.
أول مسجد في إفريقية
على عكس ما هو معلوم للجميع، يعتبر جامع عقبة ابن نافع بتلمين، أول مسجد تم تشييده من طرف عقبة بمنطقة شمال إفريقيا سنة 49 هجري، إلا أن ابن نافع لم يستقرّ هناك، بل واصل السير شمالاً فأسّس جامع القيروان بعد ذلك بسنة كاملة أي سنة 50 هجري.
بعد سنوات من الازدهار، تعرّض مسجد عقبة بن نافع للتهميش والتدمير الممنهج
في تلك الفترة، عمل عقبة بن نافع على دعوة قبائل الأمازيغ للدخول في الدّين الإسلاميّ، كما عمل على تأمين غرب الدولة الإسلاميّة الفتيّة من غزوات الروم، فحاربهم إلى أن تمكّن من طردهم من سواحل شمال إفريقيا وبسط نفوذ المسلمين في تلك الربوع.
ويعتبر عقبة بن نافع عقبة بن نافع القريشي، والملقّب بابن رافع، من أبرز قادة المسلمين في الفتوح، وقد شارك فيها منذ صغره، وولد في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبالتحديد قبل الهجرة بعام واحد. وقد ولّاه عمرو بن العاص برقّة، وكان قائداً لحاميتها، وبقي والياً عليها خلال خلال ولاية ولاة آخرين على مصر، إلى أن فتح إفريقية واستشهد فيها في السنة الثالثة والستين للهجرة.
ساهم هذا المسجد الصغير، وفق رواية القائمين عليه لنون بوست، في نشر تعاليم الدين الإسلامي الجديد في تلك المنطقة، فقد كان الأهالي هناك يعتنقون المسيحية دينا، خوفًا من الرومان الحاكمين أو الوثنية اتباعا لمعتقدات أباءهم وأجدادهم.
حجر منحوت يعود إلى العهد الصنهاجي وجد في المسجد
غير أن ذلك لم يدم طويلاً، فعقب مغادرة عقبة بن نافع المدينة بسنوات قليلة، رجع هذا المسجد مجددًا إلى ما كان عليه سابقا أي إلى كنيسة، فالإيمان لم يتجاوز اللسان ولم يدخل القلوب بعد، وارتدّ الجمع عن الدين الحنيف ورجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل.
مع مرور السنين (غير معلوم عددها)، رجع هذا المعلم التاريخي المهم مجدّدا إلى المسلمين، وأقيمت فيه الصلاة مرّة أخرى، وانتشرت فيه الحلقات الدينية لتقديم الدروس الدينية وعاد له مجده وازدهاره بعد أن انطفأ نوره، إلى أن تمّ تدميره بالكامل.
لم يتبقى منه إلا الحجارة الشاهدة عليه
بعد سنوات من الازدهار، تعرّض مسجد عقبة بن نافع للتهميش والتدمير الممنهج، فلم يتبقى منه في يومنا هذا، إلا الحجارة الشاهدة عليه، حيث فقد كلّ خصائصه المعمارية التي بناها عليه عقبة بن نافع الفهري القرشي.
يقول القائمون على المسجد لـ”نون بوست”، إن تهديم مسجد عقبة تم على يد سلطات الاستعمار الفرنسي بحثا عن كنوز يعتقد أن المسجد بني فوقها، حتى أنهم قاموا بغربلة رماله بحثا عن الذهب، على أن يتم بناؤه مجددا وفق نفس المعمار، إلا أن الاحتلال الفرنسي لم يفي بوعوده وترك المسجد على حاله مدمرا بصفة كلية.
عقب ذلك، جاءت السلطات التونسية، وقامت بترميم المسجد، إلاّ أنهم لم يحترموا في عملية الترميم خصائص المسجد القديمة، وقاموا ببناء آخر جديد لا وجه شبه بينه وبين الأول، وهو ما أثر حفيظة الأهالي هناك، الذين ما فتؤوا يطالبون بضرورة حفظ تراثهم المنسي.
تيجان وأعمدة من بقايا المسجد القديم
عند دخولك المسجد الآن، تعترضك تيجان وأعمدة وأقواس قديمة تعود إلى العهد الروماني، وضعت في صحن المسجد، وبعض الكتابات المنقوشة على الحجارة، وهو ما بقي من التراث، غير أن الجزء الكبير من الآثار إلى الآن تحت الأرض لم يتم استخراجه بعد، دون أن ننسى الأثار التي نهبت قديمًا.
يقول الأهالي هناك في حديثهم لـ”نون بوست”، إنهم ينتظرون أي أشغال في المنطقة، علّهم يعثرون على معلم تراثي جديد تحت الأرض، فقريتهم تحتوي الكثير من الآثار إلا أنها لم تكتشف بعد، وليس هناك إرادة من سلطات البلاد المركزية والجهوية للكشف عنها لأسباب يجهلونها، ما يجعل تاريخ القرية يكاد يمحى.