يعاني معظم الشباب في العالم العربيّ من مشكلة اختلاط الهويّات الفرعية الصغيرة بالهوية الوطنية الرسمية؛ فعلى مدار القرن الأخير تقريبًا، لا سيما بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية وتنفيذ اتفاقية سايكس-بيكو، لم تتمكّن الدول العربية من تحديد هويّةٍ معيّنة والحفاظ على واحدةٍ شاملة وموحّدة يستطيع أبناؤها اللجوء إليها للتخلّص من مشكلة الهويّات المركّبة الصغيرة التي قد تتكوّن بفعل الانتماءات الأقلية المختلفة كالعِرقية والدينية والثقافية واللغوية، وغيرها.
ففي الدول العربية، تختلط الهويات الفرعية بالهوية الوطنية، ويعرّف الفرد نفسه ويعرّفه الآخرون تبعًا لمنطقته أو إثنيته أو دينه أو قبيلته. وإذا أردنا وضع تعريفٍ معيّن لما تعنيه “الهوية”، لوجدنا أنه توجد تعاريف مختلفة وفقًا لمجالات المعرفة الإنسانية والاجتماعية التي تتناولها؛ من علم النفس إلى الاجتماع إلى السياسة إلى الفلسفة وغيرها من الحقول الواسعة التي تبحث في الهوية وتدرسها.
في الدول العربية، تختلط الهويات الفرعية بالهوية الوطنية، ويعرّف الفرد نفسه ويعرّفه الآخرون تبعًا لمنطقته أو إثنيته أو دينه أو قبيلته.
في علم النفس مثلًا، تتحدد الهوية بناءً على جانبين أساسين؛ أحدهما متغيّر يتعلق بالعوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية المتغيرة، والآخر يتميز بالوحدة والثبات ويخصّ الأنا والذات التي تبقى ثابتة، أي أنها “هي هي” مهما تغيّرت العوامل المحيطة بها. وبالتالي، فالهوية تكون ثابتة ومتغيرة في نفس الآن من غير تناقض، بمعنى أنها أنا أو ذات واحدة ثابتة تعيش التغير والكثرة في الأحوال والصفات.
وفي علم الاجتماع، فيُنظر للهوية على أنها ظاهرة اجتماعية تحدد ماهية المجتمع وتركيبته البشرية بمكوّناتها المتداخلة والمتشابكة بطرقٍ معقدة بما فيها المكونات الاجتماعية البحتة والدينية واللغوية والسياسية والثقافية والاقتصادية والتربوية وغيرها. وهوية الفرد جزءٌ من هوية المجتمع التي قد تكون ثابتة أو متغيرة ومتحولة أيضًا.
وفي السياسة، تتنوع الهويات وتتعدد بحسب مقوّماتها التي تعتمد على تباين اللغة والثقافات والجغرافيا والأديان والإثنيات والأعراق والماضي والتاريخ والصراعات والتاريخ المشترك. وقد تتحدد الهوية بناءً على مقوّم واحد أو أكثر، فهناك الهوية الوطنية الرسمية التي قد تتفرّع إلى هويات فرعية أصغر منها، ففي المغرب على سبيل المثال نجد صراعًا حقيقيًا في الهوية بين الأمازيغية والعربية، وفي العراق ثمّة الأكراد، وهكذا.
أزمات الهوية والتي في الغالب تكون كامنة ومخبّأة في النفس، قد تتحوّل إلى أنماط سلوكية شخصية مثل الانسلاخ التدريجيّ عن الذات لإرضاء الآخرين، والسعي إلى تحقيق وهم الانتماء
كيف ينظر علم النفس للهوية وأزماتها؟
تعدّ الهوية في علم النفس حاجة أساسية مهمّة عند الفرد تعتمد على حاجته إلى الانتماء إلى الآخرين والارتباط بهم. وبحسب تعبير عالم النفس الألماني “إريك فروم“، فالإنسان يحتاج إلى الشعور بالامتياز والتمايز عن الغير فإن فشل في تلبية هذا الشعور عن طريق نبوغه يسعى لتحقيق هذا المأرب عن طريق التماثل مع غيره من الناس.
الهوية عند إريك إريكسون هي واحدة من أكبر الصراعات التي يواجهها ويختبرها الفرد وتتغير بفعل التجارب الحياتية والأدوار الاجتماعية المتعددة، مثل العمل والزواج والإنجاب والسفر وغيرها
وقد ظهر مصطلح “أزمة الهوية” أو “Identity Crisis” في دراسات عالم النفس الدنماركيّ “إريك إريكسون” الذي اعتقد أنّ تشكيل الهوية وتكوينها هو عملية ديناميكية تتغير وتنمو طوال الحياة حيث يواجه الفرد تحديّاتٍ جديدة ويختبر تجارب مختلفة في جميع مراحله العمرية. وبالتالي، فالهوية عند إريكسون هي واحدة من أكبر الصراعات التي يواجهها ويختبرها الفرد وتتغير بفعل التجارب الحياتية والأدوار الاجتماعية المتعددة، مثل العمل والزواج والإنجاب والسفر وغيرها ممّا يساعد على استكشاف جوانب مختلفة من النفس في مجالات الحياة.
أثبتت تحليلات إريكسون إضافةً إلى ما جاء به الطبيب النفسيّ السويسري “كارل يونغ” بأنّ أزمات الهوية والتي في الغالب تكون كامنة ومخبّأة في النفس، قد تتحوّل إلى أنماط سلوكية شخصية مثل الانسلاخ التدريجيّ عن الذات لإرضاء الآخرين، والسعي إلى تحقيق وهم الانتماء. وحين يتعلّق الأمر بالعالم العربيّ، لا سيّما مع التغيّرات الجوهرية والسريعة الحاصلة في السنوات الأخيرة، تُعدّ أزمات الهوية أكثر تعقيدًا ولُبسًا من نظرية إريكسون ويونغ نفسيهما.
الهويات القاتلة: أزمة الهويّات المركبة عند الشباب العربيّ
“كثيرًا ما سألني الناس: هل تشعر أنك فرنسيّ أم لبنانيّ، وكنت أجيب: هذا وذاك”. هكذا افتتح الأديب اللبنانيّ أمين معلوف كتابه الشهير “الهويات القاتلة” الذي يتناول فيه معنى الهوية بوصفه يتجاوز وصف الذات أو تحديد المكان الجغرافيّ أو الاجتماعي، إلى التأمل العميق في معنى أنْ يحمل الفرد أكثر من ذاتٍ داخله، أو أنْ ينتمي إلى أكثر من انتمائين في آنٍ واحد.
وقد عالج معلوف في كتابه إشكاليات وأزمات الهوية وركّز على العوامل السلبية التي تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الهوية الفردية والاجتماعيّة، والتي يستخدمها الآخرون لتصنيفه ووضعه في قوالب معينة قد تكون دينًا أو عائلة أو قبيلة أو عِرقًا أو لغةً. وهو بذلك يقارب نظريات التحليل النفسيّ التي ركّزت على موضوع الهوية الواعي وغير الواعي.
بدءًا من الاغتراب الاجتماعيّ ومرورًا بالعوامل السلبية لا سيّما الثورات العربية في السنوات الأخيرة وما تبعها من تهجيرٍ وسفرٍ واندماجٍ بمجتمعاتٍ أخرى، يجد الشابّ العربيّ نفسه ملتبسًا فيما يخصّ هويته، أو هويّاته، الملتبسة بالأساس
تتعدّى رؤية معلوف في كتابه تجربته الشخصية البحتة، فهي بالنهاية امتدادٌ واسع لتجربة عربية عانت منها أجيال الشباب العربيّ منذ تاريخٍ طويل تبعًا لتفاعل خلفية الفرد العربيّ الشخصية مع ما يحدث في محيطه الاجتماعيّ والسياسيّ بحسب وصف إريك إريكسون. وحين يتعلّق الأمر بالكثير من الشباب العربيّ، نرى في معظم الحالات أنّ ثمة هويّتان أو أكثر تتصارعان داخل الفرد، هوية يريدها المجتمع وأخرى يرفضها.ما يؤدي إلى شعور الفرد بنوعٍ من الضغط والعبء النفسيّ أثناء محاولاته ومساعيه، الواعية وغير الواعية، لتحقيق الاتزان والتوافق بين الهويات المختلفة على نحوٍ يجعله قادرًا على الانتماء للمجتمع والاندماج معه بطريقةٍ صحية.
فبدءًا من الاغتراب الاجتماعيّ ومرورًا بالعوامل السلبية لا سيّما الثورات العربية في السنوات الأخيرة وما تبعها من تهجيرٍ وسفرٍ واندماجٍ بمجتمعاتٍ أخرى، يجد الشابّ العربيّ نفسه ملتبسًا فيما يخصّ هويته، أو هويّاته، الملتبسة بالأساس، لا سيّما حين يخرج من نطاق انتماءاته التي بناها على مدى سنواتٍ طويلة لجماعةٍ أو فكرةٍ أو عقيدةٍ أو ثورةٍ ما، ليصبح فجأة فارغًا من الانتماء يبحث عنه ولا يجده.
كما يزداد تأثير العوامل السلبية سوءًا حينما يجد الشابّ العربيّ نفسه في صراعٍ مع طرفٍ آخر، خاصة حين يكون هو في الجانب الضعيف أو المسحوق أو حتى لكونه أقليةً فقط، ما يزيد من شعور الفرد بالخواء والاغتراب عن الذات والمجتمع، والوحدة، أو قد يندفعون مراتٍ كثيرة وراء بعضٍ من الهويات السلبية التي تتعارض مع شخصه وذاته ومجتمعه.
وبالنظر إلى الكثير من تبعيات الثورات العربية من مجازر وسجن وقتلٍ وتهجير، يخرج لنا سؤال لطالما شغل بال الكثير من الأكاديميين: إلى أيّ مدى يستطيع الشابّ العربيّ التحكّم في تشكيل هويته وسط كلّ الأساليب القمعية التي تعرّض ويتعرّض لها، وما هو مصير الهوية الفردية العربية مع كلّ ديناميات الخوف والقلق والحماية التي يعيشها الأفراد؟ ومن الواضح أنّ جميع هذه الأسئلة وغيرها تحتاج الكثير من الدراسات والأبحاث القادمة لتستطيع مواكبة الكمّ الهائل من التغيرات الحاصل في المنطقة.