بدأت الطبقة الكمالية التركية الحاكمة في التبلور منذ نهاية حرب الاستقلال، 1919 1922. خاض مصطفى كمال الحرب ضد الاحتلالات الغربية لما تبقى من الدولة العثمانية، بعد توقيع هدنة مدروس، على رأس تحالف واسع من الأتراك والعرب والأكراد والشركس، ومن قوات الجيش العثماني الموالية للمجلس الوطني الكبير، الذي تمثل فيه علماء وضباط ورجال أعمال وأعيان وموظفون وإداريون عثمانيون، من كافة الطبقات.
وما إن انتهت الحرب، حتى بدأ صراع سياسي واجتماعي وثقافي، أدى في النهاية إلى إلغاء السلطنة والخلافة وولادة الجمهورية وتشكيل حزب الدولة القائد والمسيطر، حزب الشعب الجمهوري، وإقصاء المعارضين للنظام الأحادي، المركزي، التحكمي، الذي أخذ في البروز تدريجياً. خلال سنوات العشرينات والثلاثينات، تعززت التوجهات الأيديولوجية للنظام الجمهوري الجديد، وأخذ في ضرب جذوره ليس في العاصمة أنقرة وحسب، بل وفي كافة مقاطعات البلاد. التف حول النظام الكمالي واستفاد منه عدد معتبر من رجال الإعلام والفكر، من الأسر التي أثرت خلال سنوات الحرب أو من سياسات خلق طبقة وسطى عثمانية، التي اتبعتها حكومات الاتحاد والترقي في الفترة بين 1914 1918، أعيان محليون، إداريو أجهزة الدولة ومؤسساتها المالية، سياسيون محترفون في أذرع حزب الشعب الجمهوري المختلفة، الشرائح العليا من ضباط الجيش، وحتى بعض العلماء.
أحكمت الدولة الجمهورية وطبقتها الحاكمة قبضتها على شؤون تركيا بقوة السلاح السافرة، سلاح الجيش وقوات الجندرمة والأمن، في الوقت الذي أخذت تطور خطابها التحديثي وروايتها الخاصة للتاريخ، التي سرعان ما أصبحت الرؤية الوحيدة والمهيمنة في الفضاء العام. ولكن حرب الاستقلال كانت، ولعقود طوال، مصدر الشرعية الرئيس للجمهورية الكمالية. في نهاية الثلاثينات، أدرك مصطفى كمال ومجموعة من الملتفين حوله أن قبضة الدولة، ثقيلة الوطأة، أحبطت قوى العمل والنهضة في المجتمع التركي، وأن قدراً من الانفتاح السياسي بات ضرورياً. ولكن وفاة مصطفى كمال في 1938 واندلاع نيران الحرب الثانية في العام التالي، أديا إلى تأجيل المشروع. في 1945، وبعد أن أصبحت تركيا عضواً في الجماعة الدولية الممنتصرة في الحرب الثانية والمؤسسة للأمم المتحدة، اتخذ الحزب الحاكم قراراً بتحويل النظام السياسي إلى التعددية السياسية. ولأن الفترة بين إعلان النظام التعددي وأول انتخابات كانت قصيرة، لم يتغير شيء ملموس في بنية الحكم. في الانتخابات التعددية الثانية التي أجريت في 1950، حقق الحزب الديمقراطي، الذي أسسه ثلاثة من قادة حزب الشعب الجمهوري السابقين: عدنان مندريس، جلال بايار، والمؤرخ الشهير فؤاد كوبروللو، فوزاً ساحقاً.
حكم الحزب الديمقراطي، ببرنامج محافظ ورؤية تصالحية مع ثقافة الشعب وموروثه، تركيا حتى انقلاب 1960. والمدهش، أن حزب الشعب الجمهوري، منذ خسر السلطة في 1950، فشل في تحقيق أغلبية برلمانية في أية انتخابات مقبلة، ولم تتح له مطلقاً فرصة الحكم منفرداً طوال الستين عاماً الماضية، سوى لاشهر قليلة في منتصف السبعينات، حكم خلالها بصفته حزب أقلية وسرعان ما أسقط في أول تصويت ثقة برلماني. بصورة لم تعد تحتمل التأويل، قال الشعب التركي كلمته في الحزب الذي حكم البلاد طوال أكثر من ربع قرن منفرداً، الحزب الذي ارتبط اسمه بقائد حرب الاستقلال ومؤسس الجمهورية، ولم يعد الأتراك في كلمتهم حتى اليوم.
بيد أن من العبث القول بأن التحول نحو التعددية الحزبية، والاستبعاد المديد لحزب الشعب الجمهوري عن التحكم الأحادي في مقاليد الدولة، وضع نهاية للاستبداد. تعرف الطبقة الكمالية، التي حكمت تركيا وسيطرت على مقدراتها طوال معظم القرن العشرين، بالأتراك البيض، في إشارة لا تخفى لرؤيتها النخبوية لنفسها، واعتقادها العميق بأن ابناءها فقط من يستطيع إدارة شؤون البلاد ويعرف مصلحة عموم الشعب. نظر أبناء هذه الطبقة لعموم الأتراك من عل، حرصوا على تلقي تعليم مختلف عن بقية الشعب، وتحدثوا لغة واستخدموا مفردات تختلف عن لغة أبناء الشعب، بل وأطلقوا على أولادهم وبناتهم أسماء بالغت في استدعاء الموروث التركي الأسطوري لما قبل الإسلام والحقبة العثمانية. ولكن الأهم كان نظام السيطرة الذي أتاح لهم حكم وإدارة شؤون البلاد، حتى وهم خارج مقاعد الحكم الرسمية في مجلس الوزراء أو قاعة البرلمان. كانت شبكة علاقات ومصالح معقدة أخذت في التشكل منذ عقود ما بين الحربين، ربطت أعضاء هذه الطبقة، عائلات وأفراداً ومؤسسات خاصة وعامة وشركات أعمال وصناعة ودوائر إعلام ونشر، أصبحت ميداناً مريحاً ومرحباً ومستديماً لتوالد الطبقة وتوارث مواقع النفوذ والتأثير. خلال العقود الأولى من عمر الجمهورية، كان الأتراك الكماليون البيض قد سيطروا على جهاز الإدارة الحكومية والمؤسسة العسكرية والقضاء والإعلام والدبلوماسية، وقادوا أهم شركات المال والصناعة والأعمال، وأسسوا النوادي الخاصة، ومجموعات التفكير والتأثير السياسي، السرية والعلنية. ولذا، فإن خسارة حزب الشعب الجمهوري للانتخابات في 1950، لم تترك اثراً ملموساً على سلطتهم التحكمية. في العقود التالية، وصلت سيطرة الطبقة الكمالية الحاكمة موصلاً أن أصبح الجيش أداتها النافذة لإعادة ضبط شؤون الحكم والبلاد، كلما بدا أن خطراً ما يهدد سيطرتها، دافعة الجمهورية إلى براثن سلسلة من الانقلابات العسكرية الصريحة أو الضمنية.
ليس الاستبداد شخصاً، حتى وإن تجسد أحياناً في شخصية بالغة الشر والقسوة والفساد. الاستبداد، في الحقيقة، نظام من احتكار القوة والثروة والنفوذ، كيفية توزيع القوة والثروة والنفوذ، ونظام من العلاقات الرسمية وغير الرسمية بين مالكي القوة والثروة والنفوذ، وإعادة توليد وصناعة أنظمة الاحتكار والتوزيع والعلاقات. وليس ثمة شك أن بنية الدولة الحديثة، الدولة المركزية، ذات السيادة على الأرض والشعب، صاحبة الحق الوحيد في التشريع ومصدر شرعية القانون، تساعد على تعظيم الاستبداد وإعادة توليده. ومن الوهم الاعتقاد بأن مجرد النجاح في إيقاع تغيير سياسي، أو حتى الثورة الجذرية وإعادة بناء الدولة، يكفل التخلص من نظام الاستبداد.
في تركيا، صعد إلى الحكم في نهاية 2002 حزب الحرية والعدالة، وهو يحمل برنامجاً واضحاً لتعزيز الديمقراطية، ودعم منظومة الحريات، ووضع حد لاحتكار القوة والثروة والنفوذ من قبل الطبقة الكمالية التقليدية. ولكن، وما إن بدأت حكومة العدالة والتنمية خطواتها الأولى حتى ووجهت بمؤامرات عسكرية وأمنية وقضائية لإطاحتها أو الحد من تحركها. وبالرغم من مرور أكثر من عقد على حكم العدالة والتنمية، لم يزل إردوغان وحكومته في نضال مستمر وحامي الوطيس لاقتلاع مراكز القوة والتحكم السرية وغير السرية، وإفساح مجال أوسع في حقول الإعلام والأعمال لقطاعات اجتماعية جديدة، وخلق مناخ من الحرية والمساواة بين كافة الجماعات الإثنية في تركيا، وبين عموم الأتراك أنفسهم. في إيران، اقتلعت ثورة شعبية كبرى نظام الشاه ودولته من جذورها، ولكن طبقة جديدة ولدت خلال العقود التالية لانتصار الثورة في 1979، يبدو وأنها حلت محل الطبقة الشاهنشاهية السابقة، وباتت تسيطر على مقاليد الحكم والثروة في البلاد. ولدت الجمهورية الإسلامية من ثورة شعبية عارمة، أطلقتها أشواق الحرية والعدل والمساواة، ولكن المحتوى الأيديولوجي للجمهورية، وسنوات الحرب العراقية الإيرانية الطويلة، والصراع الدموي الذي عاشته إيران في مطلع عمر الجمهورية بين أنصار النظام الإسلامي ومعارضيه، ضيقت من مساحة الحريات وجعلت الرقابة الشعبية شبه معدومة. وهذا ما أدى في النهاية لبروز منظومة استبداد جديدة، لم يعد من اليسير التخلص منها بدون ثورة شعبية ثانية.
وحتى في عدد من الدول الشيوعية السابقة، مثل رومانيا، بلغاريا، وكل دول وسط آسيا السوفياتية السابقة، إضافة إلى أذربيجان، لم تحقق عملية التغيير السياسي الكبرى في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات وعودها دائماً. في بعض من هذه البلدان، نجحت البيروقراطية الشيوعية السابقة في تغيير لون جلدها والعودة إلى السيطرة على مقاليد الدولة والحكم في ظل نظام تعددي، ديمقراطي شكلي؛ وفي عدد آخر من هذه الدول، لم يكن حتى ثمة حاجة لتغيير لون الجلد، واستمرت الطبقة الشيوعية في السلطة، لتنقل الدولة من حكم الحزب الواحد إلى حكم السلالة الواحدة. ولا يختلف العراق كثيراً عن هذه الدول؛ فبالرغم من أن عراق ما بعد الغزو والاحتلال يحكم باعتباره دولة دستورية، فيدرالية، ديمقراطية، تعددية، فإن استبداداً جديداً ينمو ويتشكل في العراق، ليأخذ ذات المكانة التي احتلها نظام حزب الواحد خلال المرحلة البعثية. بل وتبدو هيمنة نظام المالكي والطبقة الملتفة حوله، ذات التوجه الطائفي الحصري، أكثر شراسة وبشاعة، وأكثر استعداداً ليس لمطاردة وقمع معارضين من الأفراد والجماعات الحزبية فقط، ولكن قطاعات بأكملها من المواطنين العراقيين أيضاً.
ليس التغيير السياسي سوى الخطوة الأولى لتقويض نظام الاستبداد. وفي موازاة عملية الإصلاح السياسي، لابد من إسقاط منظومة الامتيازات، التي تسمح لفئات محدودة بالسيطرة على مواقع النفوذ والتحكم في جهاز الدولة وفي المجال العام على السواء. كما لابد أن تتعهد قوى الإصلاح والتغيير مشروعاً واسع النطاق لفتح دائرة الثروة لكافة القطاعات الاجتماعية، وأن تؤسس لمناخ من الحرية والشفافية، لا تكفله القوانين وحسب، بل ويسمح بتطبيق هذه القوانين على قدم المساواة. النضال ضد نظام الاستبداد طويل وشاق، يبدأ بإقامة تعددية سياسية وحياة ديمقراطية ودستورية حرة ومنظومة قضائية وحقوقية عادلة، ولا يصل قط إلى نقطة النهاية. وهذا هو الدرس الذي ينبغي أن تعيه قوى الثورة والتغيير في الدول العربية، ليس دول الثورات الإصلاحية، مثل تونس ومصر واليمن، وحسب، بل ودول الثورات الجذرية أيضاً، مثل ليبيا وسوريا.