يصادف اليوم عيد استقلال جزيرة مالطا التي تعاقبت على حكمها حضارات البحر المتوسط المختلفة كالفينيقية والرومانية والأغالبة المسلمين والنورمان والفرنسية وأخيرًا الإنجليزية، إلى أن استقلت رسميًا في عام 1964، حيث تعتبر عاصمتها فاليتا أصغر عاصمة أوروبية، واكتسبت شهرتها بعد أن سلطت هوليود أضواءها عليها في عدة أفلام مختلفة مثل “ميونيخ” و”المصارع” و”قطار منتصف الليل السريع”.
ينتشر بين الأوساط العامة العربية مثل شعبي شائع يقول “جاء بعد خراب مالطا”، إذ تعبر هذه المقولة عن جزء من تاريخ الجزيرة، فحين احتلها الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت في عام 1798، أحدثوا فيها خراباً شاملًا في قصورها وكنائسها وشوارعها، كما هجروا أعدادًا من سكانها إلى جزيرة صقلية الإيطالية، ما جعل البلاد في حالة فوضى عارمة، فجاءها الإنجليز ليستولوا عليها من قبضة الفرنسيين في عام 1800، ونتيجةً لذلك شاع هذا المثل الذي يعني أن بريطانيا جاءت متأخرة جدًا ولا فائدة من وجودها في إصلاح ما دمرته فرنسا.
مالطا ما بين الثقافة الغربية والشرقية
إحدى شوارع مالطا التي تتميز بكثرة المشربيات ذات الطابع العربي
خضعت الجزيرة للحكم اليوناني البيزنطي الذي نشر فيها الديانة المسيحية، قبل أن يفتحها الأغالبة المسلمون مرحليًا في القرن الثامن على يد الملك أبو عبد الله محمد بن أحمد الأغلبي، ثامن ملوك بني الأغلب، وهم سلالة عربية الأصل، حكمت شرق تونس والجزائر وشمال ليبيا وصقلية الإيطالية.
تختلف المصادر التاريخية حول المدة الزمنية التي وقعت فيها مالطا تحت الحكم الإسلامي وذلك ما بين 250 عام إلى 450 عام، لكن في كلتا الحالتين لا يمكن إنكار تأثير هذه الحضارة على الجزيرة وثقافتها وسكانها، وهو التأثير الذي تراجع مع قدوم النورمان واحتلالهم لجميع المعاقل العربية في المنطقة، مع العلم أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الجزيرة كانت في أبهى حالاتها حتى القرن الخامس عشر.
من أبرز الملامح المعمارية العربية في مالطا هي “المشربيات” أو “الشنانشيل” التي تعتبر واحدة من أجمل وأقدم عناصر العمارة التقليدية الإسلامية
اتخذ الأغالبة مدينة “مدينا” عاصمة لهم واستغلوا سواحلها كمراكز لقوافلهم التجارية وأسسوا أنظمة الري والزراعة فيها، كما أنهم تركوا بصماتهم على الطابع المعماري في الجزيرة حتى أصبحت المباني تحمل طابعًا مختلطًا بين الملامح الشرقية والغربية، ومن أبرز ملامحها العربية هي “المشربيات” أو “الشنانشيل” التي تعتبر واحدة من أجمل وأقدم عناصر العمارة التقليدية في البلاد العربية، إذ ظهر هذا الهيكل المعماري في القرن الثالث عشر ميلادي إبان العصر العباسي.
أمثلة شعبية ولغة تشابه العربية
عبارة باللغة المالطية تقول “ترميش الزبل هون”
ذكر تقرير في صحيفة “الإيكونومست” بعنوان: “من أين جاءت اللغة المالطية؟”، بصبغة اندهاش من وجود لهجة عربية كلغة رسمية في دولة من دول الاتحاد الأوروبي، وواحدة من اللغات السامية المكتوبة بالأبجدية اللاتينية، وذلك بالجانب إلى كلمات أخرى من الإنجليزية والإيطالية، ومن خلال هذا المزج الثقافي الواضح في عباراتها، حيث يستنتج كاتب التقرير أن اللغة المالطية تكونت نتيجة للفتوحات المختلفة التي شهدتها منذ القرن التاسع وحتى تاريخ استقلالها.
إضافة إلى ذلك، يشير الكاتب إلى أن الحركات الاستعمارية مختلفة الجذور أثرت بشكل ملحوظ على الهوية المالطية وليس فقط على الجانب اللغوي، وإنما على الجوانب الأخرى التي تشمل الهندسة المعمارية وفنون الطبخ، وبالتوازي اكتسبوا و استنسخوا عناصر جديدة وملائمة لبيئتهم وطبيعتهم الاجتماعية.
يخبرنا المؤرخ الشدياق أن اللغة المالطية التي سماها بـ”العربية الفاسدة” هي ذات أصول شامية أو مغربية، نظرًا للعبارات الكثيرة التي تحملها من كلتا اللهجتين
في مصدر آخر، يخبرنا المؤرخ أحمد فارس الشدياق صاحب كتاب “الواسطة في معرفة أحوال مالطة” الذي وثق فيه أحوال وطباع وعادات وأخلاق أهلها، وذلك بعد أن عاش في حارات الجزيرة 14 عامًا، أن اللغة المالطية التي سماها بـ”العربية الفاسدة” هي ذات أصول شامية أو مغربية، نظرًا للعبارات الكثيرة التي تحملها من كلتا اللهجتين كما وصف في كتابه قائلًا:
“إن اللغة المالطية فرع من دوحة العربية وشيصة من تمرها، وهي يتكلم بها في جزيرتي مالطة وغودش، وسواء في ذلك العامة والخاصة، غير أن هؤلاء يتعلمون أيضاً الطليانية والإنكليزية، وذلك لأن اللغة المالطية لم تدوّن فيها علوم ولم تشهر فيها كتب، فهي عبارة عن ألفاظ يتداولونها، وإذا أخذوا من الطليانية ما مست الحاجة إليه ملّطوه وألحقوه بتركيب لغتهم.. ولا شك في كون اللغة المالطية عربية، ولكنني لست أدري أصل هذا الفرع أشامي هو أم مغربي، فإن فيها عبارات من كلتا الجهتين”.
ومن هذا الوصف، يرى بعض المؤرخون أن الشدياق نسَب اللغة المالطية تمامًا إلى اللغة العربية، وتحديدًا إلى اللهجة الشامية أو المغربية، بالجانب إلى لغات أخرى أهمها الإيطالية التي لا تزال بصمتها واضحة على لهجة المالطيين.
شاعر مالطي: “المالطيين ليسوا سوى عرب مسلمين تحولوا إلى المسيحية تدريجيًا بعدما تقطعت بهم السبل”
وفي محاولة أخرى لإثبات أصل اللغة المالطية، فقد تم العثور على أقدم نص أدبي مكتوب باللغة المالطية في عام 1966، وهو قصيدة بعنوان “شدو القضاء” تعود إلى القرن الخامس عشر، مكتوبة بحروف لاتينية لكن غالبية كلماتها عربية الأصل، واعتبارًا لذلك يعتقد المؤرخ غودفريوتينجر الذي عثر على النص أن “اللغة المالطية لكنة عربية شابتها بعض المفردات الإيطالية، بل ذهب إلى اقتراح أن المالطيين ليسوا سوى عرب مسلمين تحولوا إلى المسيحية تدريجيا بعدما تقطعت بهم السبل”. وهذا بحسب كتاب “مسافات وقصائد أخرى” للشاعر المالطي أدريان كريما.
وبعد هذا التصريح الذي يشكك في هوية المالطيين، يذكر الشاعر كريما أنه “من الصعب الادعاء أن اللغة المالطية لغة عربية صحيحة، وإن كانت كذلك في مرحلة قديمة”، وما يفسر ذلك، هو انحسار اللغة العربية وانعزال مفرداتها عن اللغة المالطية مقابل توسع الألفاظ والعبارات الإيطالية فيهاه بسبب انتهاء الحكم الإسلامي فيها وتوسع الديانة المسيحية على أراضيها.