لم يدق المسمار الأخير في نعش الأمير بندر بن سلطان الرئيس السابق للاستخبارات السعودية حينما فقد التحكم في ملف سوريا لصالح غريمه السياسي وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف، وإنما حصل ذلك حينما توجه بن نايف إلى الملك عبد الله وحصل منه على تفويض مكتوب بالاحتفاظ بالملف. ولئن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى انعدام الثقة المتبادلة على أعلى مستويات البيت الملكي السعودي.
فصل بندر من موقعه كرئيس للاستخبارات يوم الثلاثاء، وذلك رغم أن نجمه بدأ يأفل منذ زمن ورغم أن سقوطه كان متوقعاً قبل حين.
قبل ذلك، ولعقود، تمثلت قيمة بندر لدى الملك في علاقاته بواشنطن، سواء كشخصية مقربة من الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض أو كصاحب حظوة لدى أعضاء الكونغرس. إلا أن كل ذلك انتهى حينما تردد باراك أوباما في قصف بشار الأسد بعد الهجوم الكيماوي على ريف دمشق، حيث كان بندر يحث واشنطن على معاقبة بشار، ويبدو أنه أكد للملك أن الولايات المتحدة ستقوم بذلك.
والحقيقة هي أن بندر كان مثله مثل الشمعة التي تحترق من طرفيها. فقد سخط عليه الأمريكان حينما اكتشفوا أن المساعدة العسكرية والمالية التي منحت للاستخبارات السعودية انتهى بها المطاف في أيدي مقاتلين سوريين ولاؤهم للقاعدة، فقد مثل ذلك بالنسبة لأمريكا ضربة مزدوجة، فالمال السعودي لم يكن مسخراً لإسقاط الأسد وإنما لتعزيز قدرات ومكاسب جبهة النصرة وداعش.
ولم تكن سوريا الفشل الوحيد الذي لطخ سجل بندر، فلم يبد أن أياً من خططه كانت ناجعة. في اليمن، على سبيل المثال، أبرم تحالفاً مع الأعداء القدماء للسعوديين هناك، أي الحوثيين، ورغم ذلك فقد السعوديون كل ما لديهم من نفوذ في اليمن، الذي طالما اعتبروه ساحتهم الخلفية.
رغم أن كبار المتنفذين في العائلة الملكية السعودية يجمعون فيما بينهم على اعتبار الإخوان المسلمين مصدر خطر عليهم إلا أن ثمة أصوات براغماتية داخل العائلة على استعداد لأن تتحدى الموقف الصقوري – المحافظ الجديد – لرئيس الاستخبارات السابق. وخاصة بعد أن ثبت يقيناً انعدام الحكمة في الخطوة التي تمثلت بتهديد قطر علانية بفرض حصار بري وبحري عليها بسبب خلاف معها حول السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي.
ونتيجة لذلك نأى نصف أعضاء مجلس التعاون الخليجي بأنفسهم عن الرياض، فسلطنة عمان والكويت وقطر باتوا جميعاً خارج الحياض السعودي، هذا في الوقت الذي ذهبت إيران توسع نطاق نفوذها انتهازياً في الفراغ الذي نجم عن تراجع نفوذ المملكة. لم يكن بلا سبب وجيه حرص المملكة التقليدي في الماضي على التريث والحذر في رسم السياسة الخارجية، ذلك الحرص الذي ذهب الآن أدراج الرياح بسبب السياسة التي انتهجها بندر.
لم تفقد المملكة العربية السعودية كل تواصل ذي معنى مع إيران فحسب وإنما أيضاً مع تركيا التي يتأهب رئيس وزرائها عن حزب العدالة والتنمية رجب طيب إردوغان لخوض غمار حرب جديدة بعد أن حسن من وضعه الانتخابي مؤخراً. لم يكن من الحكمة أن تقدم السعودية على استعداء كل من إيران وتركيا معاً، وهناك في الرياض من أصحاب الرأي السديد من يرون تداعيات ذلك بوضوح. يجازف السعوديون ويعرضون مصالحهم للخطر إذ يتسببون في إيجاد منافسين إقليميين لهم في تركيا على استعداد لحمل راية الدفاع عن القضية السنية.
ولعل هذا ما يفسر أن الأمير مقرن، الذي عين مؤخراً ولي عهد ثان، كان من أوائل المبادرين بالاتصال بإردوغان مهنئاً إيهاه بالفوز في الانتخابات المحلية في وقت مبكر من هذا الشهر.
وكانت مصر ساحة أخرى منيت فيها سياسة بندر بالفشل. تارة أخرى، لم يكن سبب النقد الداخلي ضمن البيت الملكي السعودي ذا علاقة بأي خلاف عميق على الحاجة لدعم الانقلاب العسكري، وإنما يتعلق ذلك بتكلفة الاستمرار في تقديم هذا الدعم. فقد غدت مصر ثقباً أسود فيما يتعلق بالمال السعودي والإماراتي، ولا توجد مؤشرات على أن البلاد تتجه نحو الاستقرار. من المستبعد أن يؤدي غياب بندر إلى تبدل مباشر في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية، إلا أن ما يعنيه ذلك أن أحد المحركات الريادية لهذه السياسة قد أطفئ.