ما إن يخرج الفلسطينيون المتجهون لتركيا من بوابة معبر رفح جنوب قطاع غزة باتجاه مطار القاهرة الدولي حتى يبدأ الحنين للعودة، هم ليسوا معتادين على الغربة أو لا يعرفون شكل العالم الخارجي كيف يتحرك، في مخيلتهم أنه عالم فارغ من كل ما انتموا إليه سابقًا خصوصًا فلكلور الطعام بسبب الحصار الطويل.
وصايا المغتربين في إسطنبول للقادمين من غزة أن يملأوا حقائبهم بزجاجات الفلفل الأحمر المطحون أو الملوخية أو الجوافة أو المانجا، فقد قلّبت في حقائب القادمين لا أكاد أرى حقيبة دون أمانات زجاجات الفلفل الأحمر والملوخية، فهي حديث الغزاويين في إسطنبول.
ذات مرة أوقف الأمن الألماني باحث دكتوراة قادم من غزة، التفتيش على أعلى مستويات، فقد شك الجميع بوجود شيء خطير في الحقيبة، زجاجة حمراء تم أخذها وفحصها واستدعاء الشاب الذي أخبرهم أنها زجاجة فلفل أحمر حار، وأنها من أهم مكونات الطعام في غزة.
الطعام مدخل الحنين للوطن
تزايد أعداد القادمين من غزة ومطالبهم، دفع العديد من المستثمرين الفلسطينيين إلى دخول سوق المطاعم التركية بأكلات فلسطينية، فحين تتجول في منطقة الفاتح وضواحيها ستجد مطاعم عديدة تعد الأكل الفلسطيني مثل “الفلافل والفول” أو حلويات “النابلسية” أو “الشاورما الفلسطينية”، وحين التنقل بينها تكتشف المقاربة الكبيرة بين نكهتها وما يطبخ في مطاعم غزة، مع أن العاملين في كثير من هذه المطاعم غير فلسطينيين وعلى الأرجح سوريين، والأمر ليس مقتصرًا على الفاتح، بل إن مناطق عديدة بدأت تدشن مطاعم فلسطينية وبنكهة غزاوية، وتشهد إقبالًا جيدًا، فالطعام أحد أهم الأشياء التي تربطك ببلدك.
أصحبت المطاعم الفلسطينية التي تزداد كل يوم، تشّكل اجتماعًا بلا ميعاد للأصدقاء المنتشرين في إسطنبول
أنشأت الظروف السياسية حالة انعزال وتبلور لأهل غزة نحو فلكلورهم الشعبي بشكل مختلف تمامًا عن باقي الشعوب، وتراهم الأصعب اندماجًا مع الثقافات الخارجية خصوصًا ثقافة الطعام، نتيجة الحصار الطويل على مدار 12 عامًا، حيث ظهر جيل جديد لم يتذوق سوى الطعام الغزي، ونتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة كان طعام المنزل الأكثر تأثيرًا في الحالة الشخصية للجيل الجديد.
تبادل أخبار المطاعم
“آخر الأخبار أن مطعمًا فلسطينيًا من غزة قد افتتح فرعًا له في باشاك شاهير”، تلقيت الخبر من أكثر من عشرين صديقًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الاتصال، فالمطعم يعتبر مميزًا في غزة نتيجة المنافسة الاحتكارية، إلا أنه في مدينة مثل إسطنبول التي تمتلئ بالمطاعم من جميع البلدان العربية قد يعتبر أمرًا عابرًا وعاديًا جدًا، وجودة الطعام أو شكله أو طريقة إعداده تختلف من مطعم إلى آخر حسب ثقافة الأكل لدى الشعوب القادمة هنا في إسطنبول.
رفع أحد الراغبين بالقدوم إلى إسطنبول من غزة سماعة الهاتف متصلًا عليّ متخوفًا من صعوبة اندماجه في إسطنبول، فأجبته: لقد أصحبت إسطنبول ملتقى العرب من كل مكان، كل الثقافات حاضرة من اليمن حتى العراق ومن مصر حتى المغرب، وسآخذك لأماكن تتجول فيها ستشعر نفسك في غزة تمامًا.
فحين دخولك للمطاعم الفلسطينية في إسطنبول ترى عددًا من الأصدقاء الفلسطينيين، يأتون من أماكن مختلفة بإسطنبول لتناول الطعام الغزي، يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم، وأصحبت المطاعم الفلسطينية التي تزداد كل يوم، تشّكل اجتماعًا بلا ميعاد للأصدقاء المنتشرين في إسطنبول، وحقيقة الأمر أن مدن تركية ثانية يكاد لا يوجد فيها مطاعم فلسطينية نسبة لعددهم القليل حتى في إسطنبول مقارنة بالجاليات العربية الأخرى خصوصًا السورية والعراقية.
هل تذوب اللهجة؟
تعَرِف الفلسطيني الجديد القادم لإسطنبول من لهجته الحادة تقريبًا، ففيها شيء مميز، لكن الفلسطينيين القدماء بدأت لهجاتهم تختلط فيها بعض الكلمات العراقية مع السورية، واللهجات المختلفة تداخلت في لهجتهم الأصلية ناهيك عن الكلمات التركية التي تخرج لا إراديًا نتيجة اندماجهم في الحياة، لكن في المطاعم يحافظ الجميع على لهجته الفلسطينية، فإن اختلطت بلهجات أخرى تصبح محط أنظار الجالسين الفلسطينيين كنوع من السخرية.
اندماج القادمين مع الأكلات أيضًا من خلال المدة التي قضوها، فترى إقبال المندمجين على الأكلات غير الفلسطينية القادمة من مطابخ مختلفة عربية وتركية أكثر من الجدد أو الراغبين في العودة
الغزاويون هم أقل الناس اندماجًا إلا الذين قرروا الخروج وعدم العودة أو العودة بعد وقت طويل، ولاحظت ذلك من خلال الجلسات التي تجمعني مع الفلسطينيين، فأولئك المندمجون تختلط في حديثهم بعض الكلمات من لهجات مختلفة، مصرية أو عراقية أو سورية، ومن المؤكد بعض الكلمات التركية الجديدة، لكن الجدد يتكلمون باللهجة الفلسطينية الحادة القادمة من غزة دون أي إضافات.
أما اندماج القادمين مع الأكلات أيضًا من خلال المدة التي قضوها، فترى إقبال المندمجين على الأكلات غير الفلسطينية القادمة من مطابخ مختلفة عربية وتركية أكثر من الجدد أو الراغبين في العودة، فتراهم يذهبون لمطابخ عراقية أو يمنية أو سورية، وكذلك تركية، أما غير المندمجين فحديثهم في الطعام يغلبه الطعام الغزاوي، ومسيرهم يغلبه المطاعم الفلسطينية، لكن في نهاية المطاف فإن الانفتاح الحاصل للفلسطيني القادم من غزة من خلال الطعام واللغة أمر إيجابي وجميل يعطيه فرصة اندماج في العالم الخارجي.