ترجمة وتحرير: نون بوست
حتى وقت قريب نسبيًا، كانت غالبية البشر تعيش في ما يمكن اعتباره اليوم فقرًا مدقعًا. فمنذ قرنين فقط، كان حوالي ثلاثة أرباع سكان العالم يعيشون في هذا الفقر المدقع. ووفقًا لما ذكره الباحث في مجال التنمية ميخائيل مواتسوس، الذي أعد هذا التقدير التاريخي بدقة وجهد كبيرين، فإن معظم الناس “لم يكن بإمكانهم توفير مكان صغير للعيش، أو طعام يقيهم من سوء التغذية، أو حتى الحد الأدنى من التدفئة”.
لقد كان الجوع منتشرًا بشكل واسع في مختلف أنحاء العالم، وفي معظم فترات التاريخ البشري، كان ما يقارب نصف الأطفال يموتون قبل الوصول إلى مرحلة البلوغ. أما اليوم، تغيرت هذه الصورة بشكل ملحوظ، حيث تجاوزت العديد من الدول بشكل كبير الفقر المدقع الذي كان سائدًا في الماضي.
لكن الفقر لا يزال حقيقة قائمة وليس مجرد تاريخ. فالناس في جميع أنحاء العالم ما زالوا يكافحون لتوفير السكن والتدفئة والنقل والطعام الصحي لهم ولعائلاتهم. ولكي نتمكن من مواصلة السير في الاتجاه الصحيح، يجب علينا أن نعيد تعريف الفقر العالمي من خلال إيجاد طريقة أفضل لقياسه.
في هذا الأسبوع، يجتمع رؤساء دول العالم في نيويورك لحضور الجمعية العامة السنوية للأمم المتحدة. والهدف الذي يتصدر جدول أعمال التنمية المستدامة للأمم المتحدة وهو “القضاء على الفقر بجميع أشكاله في كل مكان”. ومع تعهد جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والبالغ عددها 193 دولة، بتحقيق الأهداف الإنمائية بحلول سنة 2030، ينبغي أن نتوقع أن نسمع إلى أين وصل العالم في هذا الجهد الحاسم. لكن ما سنسمعه – هذه السنة، كما هو الحال في كل سنة – هو إجابة غير مكتملة.
يُعد خط الفقر الدولي الذي تستخدمه الأمم المتحدة لقياس الفقر العالمي منخفضًا للغاية، فهو يخبرنا عن عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من 2.15 دولار يوميًا. ويكشف هذا الخط المنخفض عن أن عددًا كبيرًا من الناس لا يزالون يعيشون في فقر مدقع، كما تُظهر الخريطة أدناه. فعلى سبيل المثال، يعيش 73 بالمائة من سكان موزمبيق في فقر مدقع، بينما تصل النسبة في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى 75 بالمائة. ورغم ذلك، يبقى قياس الفقر الدولي مفيدًا لأنه نجح في جذب انتباه العالم إلى الفقر المدقع الذي يعاني منه أفقر الناس.
لكن للقضاء على الفقر بجميع أشكاله في كل مكان، فإن دراسة خط الفقر وحدها لا تكفي. فقد حاول علماء الاقتصاد تقديم بدائل، إلا أن هذه البدائل قد لا تفي بالغرض. فعلى سبيل المثال، يهدف أحد أطر العمل المستخدمة على نطاق واسع والتي يُستشهد بها كثيرًا، والمعروفة باسم “اقتصاديات الكعكة”، إلى تحديد “مساحة آمنة وعادلة للبشرية لتزدهر فيها” وتقييم ما إذا كان الناس يحصلون على ما يحتاجونه من أجل “حياة كريمة وفرص“. ومع ذلك، فإن خط الفقر الذي يعتمده هذا المقياس لا يختلف كثيرًا عن مقياس الأمم المتحدة للفقر المدقع، حيث يفترض أن 3.10 دولار يوميًا تمنح الناس فرصة لعيش حياة كريمة.
ومن الواضح أن هذا الادعاء يتناقض مع مفهومنا للفقر. فالدخل البالغ 3.10 دولار في اليوم يعادل فقط 93 دولارًا في الشهر، أو 1131 دولارًا في السنة. ومن النادر أن يعتبر أي شخص نفسه قادرًا على العيش بهذا الدخل.
إن استخدام خطوط فقر منخفضة كمقياس لما يعتبر حياة جيدة يشوه فهمنا لظروف معيشة الناس. والحقيقة هي أننا نعيش في عالم يكافح فيه المليارات من الناس من أجل دفع ثمن الضروريات الأساسية: فهناك ثلاثة مليارات شخص لا يستطيعون تحمل تكلفة نظام غذائي صحي. ولا يستطيع ثلاثة مليارات ونصف الوصول إلى مرافق الصرف الصحي.
ورغم أن معظمهم يعيشون على أكثر من دولارين أو ثلاثة دولارات في اليوم، إلا أنهم لا يزالون في عوز مادي شديد. إن الادعاء بأن بإمكانهم أن يعيشوا “حياة كريمة ويجدوا فرصًا” أمر لا أجده مقبولا من الناحية الأخلاقية، لأنه يتجاهل معاناة المليارات من البشر.
لإبراز الحجم الحقيقي للفقر على مستوى العالم، يجب على الأمم المتحدة أن تعتمد خط فقر ثانٍ أعلى، وتمنحه نفس القدر من الأهمية، وتضعه عند مستوى يكشف عن الفقر في كل بلد ويعكس في الوقت نفسه فهمنا لما يعنيه التحرر من الفقر.
أين سيتم رسم خط الفقر هذا؟ يستند خط الفقر الدولي الحالي إلى متوسط خطوط الفقر في العديد من البلدان الفقيرة جداً. وقد اقترح الخبير الاقتصادي في مجال التنمية لانت بريتشيت اتباع نفس المنطق لرسم خط فقر دولي أعلى. وقد اتبعت هذا الاقتراح، وجمعت خطوط الفقر المحددة على المستوى الوطني من مجموعة واسعة من البلدان ذات الدخل المرتفع، بالإضافة إلى النظر في المقترحات الخاصة بالدخل الأساسي الشامل ومدفوعات الضمان الاجتماعي، بالإضافة إلى نتائج الاستطلاعات التي تحدد المستوى الأمثل لرسم خطوط الفقر.
مع أخذ هذه المعطيات في الاعتبار، أقترح تحديد خط فقر أعلى عند 30 دولارًا في اليوم. ووفقًا لهذا الحد الفاصل، توضح الخريطة أدناه الوضع الحالي. ففي معظم البلدان، يعيش الجميع تقريبًا في فقر. كما تُظهر الخريطة أنه، كما نعلم جميعًا، حتى في أغنى دول العالم، تعيش نسبة كبيرة من السكان في الفقر.
وعلى الرغم من أن قياس الفقر بمقياس موحد في مختلف البلدان قد يبدو تحديًا صعبا، إلا أن البيانات المفصلة التي يوفرها البنك الدولي تجعل ذلك ممكنًا. يستند هذا النهج إلى حقيقة أن العديد من أفقر الناس في العالم هم من المزارعين الذين يأكلون من محاصيلهم ولا يحصلون على دخل نقدي. في هذه الحالات، يقوم الإحصائيون بتقدير قيمة الغذاء الذي ينتجونه لاستهلاكهم الشخصي ويضيفونه إلى دخلهم.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تعديل البيانات العالمية حول الفقر لمراعاة الفروق في الأسعار بين البلدان، بحيث يخبرنا دخل قدره 30 دولارًا يوميًا في بوليفيا أو نيجيريا أو الهند ما يمكن للشخص تحمله في بلده على أساس ما يوفره دخل 30 دولارًا في الولايات المتحدة.
وتتمثل إحدى الطرق لمعرفة ما إذا كان خط الفقر الأعلى هذا معقولاً، في التحقق مما إذا كان يتماشى مع تقييمات الفقر الوطنية المعمول بها. وعلى سبيل المثال، في الولايات المتحدة، رغم أن إحصاءات الفقر الأمريكية لا يمكن مقارنتها مباشرة ببيانات البنك الدولي، إلا أن التقديرات تتقارب بشكل كبير.
فوفقًا للخط الذي أقترحه، يعيش 16 بالمائة من سكان الولايات المتحدة على أقل من 30 دولارًا في اليوم، بينما تشير البيانات الرسمية الأمريكية إلى أن 11 بالمائة من السكان يعيشون في فقر.
ولفهم الاتجاه الذي نسير فيه، يجب علينا أن ندرك من أين بدأنا. عندما تم استطلاع آراء الناس قبل الجائحة حول كيفية تغير الفقر في العالم، أجاب الأغلبية بأنهم يعتقدون أن نسبة الفقر المدقع قد ازدادت في العقود الأخيرة. وهذا اعتقاد خاطئ، فبغض النظر عن خط الفقر الذي تختاره، فإن نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت هذا الخط قد انخفضت.
وعلى مدار القرنين الماضيين، اكتشفنا أنه بإمكان دول بأكملها انتشال ملايين السكان من الفقر، والولايات المتحدة واحدة من هذه الدول. فقد رأينا أن 16 بالمائة من الأمريكيين يعيشون اليوم على أقل من 30 دولارًا في اليوم. وفي سنة 1964، عندما أعلن الرئيس ليندون جونسون الحرب على الفقر، كانت هذه النسبة تقارب نصف سكان الولايات المتحدة، وفقًا لبيانات البنك الدولي. وقبل قرنين من الزمن، كان غالبية الأمريكيين لا يزالون يعيشون في فقر مدقع.
وهناك دول أخرى كانت أكثر نجاحًا. ففي الدنمارك وسويسرا وهولندا، يعيش ما بين 7 بالمائة و8 بالمائة من السكان على أقل من 30 دولارًا في اليوم، بينما في النرويج، يعيش 6 بالمائة فقط تحت هذا المستوى. ونحن نعلم أن عالمًا خاليًا من الفقر ممكن، لكننا مازلنا بعيدين عن الوصول إلى هذا العالم.
يخبرنا خط الفقر الحالي الذي تعتمده الأمم المتحدة أن حوالي واحد من كل عشرة أشخاص يعيش في فقر مدقع. أما خط الفقر الأعلى الذي أدافع عنه فيخبرنا بأنك إذا كنت تعيش على أكثر من 30 دولارًا في اليوم، فأنت من بين 17 بالمائة من الناس الأكثر حظًا في العالم.
تعتبر الأمم المتحدة محقة في جعل طموحنا العالمي المشترك يتمثل في عالم خالٍ من الفقر. ولكن الخطوة الأولى نحو هذا الهدف هي جعل الفقر الحالي مرئيًا. ولهذا، نحتاج إلى خط فقر طموح بشكل مناسب يحظى بنفس الاهتمام الذي يحظى به خط الفقر الدولي المنخفض. معركة مكافحة الفقر لم تنتهِ بعد.
المصدر: نيويورك تايمز