في ساعات المساء ومع إسدال الليل سدوله المظلمة، وقرب المناطق الشرقية لحدود قطاع غزة، هناك من يرفض النوم ويعيش ليله بأكمله قرب ثغرات الحدود يقاوم ويقارع المحتل الإسرائيلي بقوة وعزيمة فشل أقوى جيوش العالم في تفتيت صخرتها.
وما إن تدق الساعة الثامنة ليلًا، حتى يبدأ الشبان الفلسطينيون بنفض غبار الدنيا وأزماتها عنهم، ويتوجهون مسرعين نحو الحدود لتحقيق هدف واحد اجتمعوا عليه جميعًا، وهو مقارعة المحتل ومواجهته، غير آبيهن للمصير المجهول الذي ينتظرهم هناك، وإن كانوا سيعودون للدنيا أم يختطفهم رصاص هذا المحتل.
وبعد وصول الشبان المناطق الحدودية المتفق عليها، يشرعون بالمهام المكلفين بها، ترافقهم ضحكات تُسمع من بعيد وتحمل معها الكثير من معاني الصمود والتحدي التي تبث الرعب في نفس جيش الاحتلال، فبعضهم ينصب الخيام، وآخرون يشعلون النار في الإطارات المطاطية، فيما توكل مهمة إقلاق راحة جنود الاحتلال وإرعابهم من خلال تساقط الحجارة والقنابل المشتعلة عليهم للفئة الأكثر جرأة ومراوغة.
وحدة “الإرباك الليلي” هي أسلوب مقاومة جديدة ابتدعه شباب غزة، لتُضاف لعدة وحدات ظهرت منذ بداية مسيرات العودة التي تخدم نفس الهدف وهو مواجهة الاحتلال وجيشه
حدود قطاع غزة كانت قبل أسابيع وخاصة في فترة الليل هادئة جدًا، ويعيش جيش الاحتلال بها الكثير من الطمأنينة، لكن بفعل وحدة الإرباك الليلي التي ابتكرها شبان فلسطينيون لمقارعة هذا المحتل، أصبحت مشتعلة وتشكل خطرًا كما الخطر الذي يشعر به في ساعات النهار وخاصة أيام الجمع من كل أسبوع.
إبداع في مقارعة المحتل
وحدة “الإرباك الليلي” هي أسلوب مقاومة جديدة ابتدعه شباب غزة، لتُضاف لعدة وحدات ظهرت منذ بداية مسيرات العودة وأهمها “وحدة الكوشوك” ووحدة “الطائرات والبالونات الحارقة” ووحدة “قص السلك” ووحدة “المساندة” وغيرها من الوحدات والأساليب المبتكرة التي تخدم نفس الهدف وهو مواجهة الاحتلال وجيشه.
وتشهد حدود قطاع غزة مواجهات عنيفة بين الشبان الفلسطينيين وجنود الاحتلال ضمن فعاليات مسيرة العودة الكبرى، جراء قمع الاحتلال نشاطات احتجاجية يقوم بها شبان ليلًا في إطار ما أطلق عليه “وحدة الإرباك الليلي”.
وتشهد مسيرة العودة منذ بدايتها في 30 من مارس/آذار المنصرم زخمًا شعبيًا واستحداث وسائل وأساليب جديدة في مواجهة قوات الاحتلال على طول السياج الأمني شرقي وشمالي القطاع.
ياسر أبو نوفل هو اسم مستعار لمسؤول وحدة “الإرباك الليلي”، يقول إن الوحدة التي بدأت نشاطها مؤخرًا تعمل على مقارعة الاحتلال وإشعال الإطارات المطاطية والتسلل إلى السياج الأمني ومواجهة الجنود عن قرب.
مشيرًا إلى أن الوحدة مكونة من مجموعة من الشبان يتفننون في إرباك الاحتلال، حيث يؤدي عمل الشبان الثائرين لاستنفار قوات الاحتلال على الحدود، ليؤكدوا أن جيش الاحتلال أوهن من بيت العنكبوت، مضيفًا “جنود الاحتلال كانوا يهربون من الشبان الثائرين عند إطلاق الألعاب النارية عليهم والإطارات المطاطية وتوجيه الليزر الأخضر عليهم بشكل مستمر ومستفز”.
وأكد أبو نوفل أن وحدات “الإرباك الليلي” تعمل يوميًا في ساعات الليل، حيث يقومون بعملهم ضد جنود الاحتلال، وفي حال حاول الاحتلال استهدافهم يتم مهاجمتهم من مجموعة شبابية، منوهًا إلى أن الاحتلال استهدفهم عدة مرات ولكن ذلك لم ينل من عزيمة الشباب على الاستمرار بعملهم بل زادهم شغفًا لاختراع طرق جديدة لإرباك الاحتلال.
ينظر لـ”وحدات الإرباك الليلي”، بعين الخطورة مثل البالونات الحارقة ويتهمها الاحتلال بأنها تقف وراء قص السلك الشائك ووضع عبوات ناسفة
وشدد على أن وسائل المقاومة ستتواصل طالما استمر الحصار الخانق على قطاع غزة، وأن الأيام المقبلة ستشهد مفاجآت لم يعهدها الاحتلال من قبل، ولن يستطيع مجابهتها أو حتى السيطرة عليها.
يشار إلى أن فعاليات “مسيرة العودة” تشهد منذ أكثر من أسبوع تصعيدًا جديدًا، بعد تراجع الحديث عن ملف التهدئة، خاصة أن مباحثات الجولة الأولى التي رعتها مصر وصلت إلى مراحل متقدمة، وكان من المأمول في الجولة الثانية التي أُجلت لموعد لم يحدد بعد، أن يُعلن دخول الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية في غزة و”إسرائيل” حيز التنفيذ، وهو اتفاق يطبق على مراحل متعددة، تبدأ بفتح المعابر وتسهيل حركة مرور البضائع والأفراد.
استنزاف قوة جيش الاحتلال
ينظر لـ”وحدات الإرباك الليلي”، بعين الخطورة مثل البالونات الحارقة ويتهمها الاحتلال بأنها تقف وراء قص السلك الشائك ووضع عبوات ناسفة. وفي هذا السياق يؤكد الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الصواف أن استحداث فكرة العمل في الليل والمواجهات المسائية من خلال شباب وثوار وحدة الإرباك الليلي على امتداد الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة يمثل شارة الانطلاق بمرحلة جديدة من تطوير مسيرة العودة وكسر الحصار.
تصدى جيش الاحتلال بالحديد والنار للمشاركين العزل في فعاليات مسيرة العودة وكسر الحصار، حيث تعمد جنود الاحتلال والقناصة المنتشرون خلف التلال الرملية استخدام الرصاص الحي والمطاطي والمتفجر فضلًا عن قنابل الغاز
وقال الصواف إن “المواجهات المسائية ونشاط وحدة الإرباك الليلي يمثل استنزافًا قويًا لجنود الاحتلال في المواقع العسكرية ويجبرهم على الانتشار على الشريط الحدودي لساعات طويلة، ويقلص ساعات راحتهم في مواقعهم وثكناتهم العسكرية”.
“الأدوات الجديدة تمثل ضغطًا قويًا وجادًا للانتقال للمرحلة القادمة التي ستحمل كسر الحصار المفروض على قطاع غزة للعام الـ12 على التوالي، أو الخوض بغمار مواجهة مفتوحة مهما كانت نتائجها”، يضيف المحلل السياسي. واعتبر الصواف أن زيارة وفد الأمم المتحدة والسفير القطري محمد العمادي إلى قطاع غزة تندرج ضمن الجهود الدولية لمحاولة احتواء أجواء التوتر والتصعيد قبل الانزلاق إلى مربع المواجهة المفتوحة.
إلى ذلك، يقول الكاتب والمحلل السياسي الدكتور أحمد الشقاقي إن “مسيرة العودة وفرت مساحة واسعة للشباب الثائر للإبداع وتصدير أشكال جديدة للعمل الشعبي المقاوم، وعلى طول حدود القطاع وجدنا هؤلاء الشباب يطرقون أبوابًا جديدة لإرهاق جيش الاحتلال واستنزافه”.
مشيرًا إلى أن “الأيام القليلة الماضية شهدت تصعيدًا كبيرًا من المتظاهرين الذين صنعوا بطولة الإرباك الليلي، وحظيت هذه الفعالية باهتمام شبابي واضح، راقت لهم وأدركوا جدواها وهم يقتحمون الحدود ويخترقون حصون جيش الاحتلال”، حسب تعبيره.
ويؤكد المحلل السياسي أن “الإرباك الليلي كفعل وكظاهرة يعني قدرة الشباب الثائر على تقديم الجديد، وعمليًا يفتح المجال أمام مزيد من الإبداع خصوصًا أنها جاءت على إثر مجموعة خطوات سابقة أربكت منظومة الاحتلال الأمنية وجعلته عاجزًا حتى أمام الطائرات الورقية والبالونات، وتخوفات الاحتلال من هذه الظاهرة الليلية أنها مكنت الشباب من اقتحام الدشم العسكرية لجيشه”.
يذكر أن جيش الاحتلال هاجم بالحديد والنار المشاركين العزل في فعاليات مسيرة العودة وكسر الحصار، حيث تعمد جنود الاحتلال والقناصة المنتشرون خلف التلال الرملية استخدام الرصاص الحي والمطاطي والمتفجر فضلًا عن قنابل الغاز، مما أسفر عن استشهاد ما يزيد على 180 مواطنًا وإصابة الآلاف من بينهم أطفال ونساء وصحفيون ومسعفون.
وخلال فعاليات المسيرة سيّرت هيئة الحراك الوطني لكسر الحصار رحلتين بحريتين من ميناء غزة باتجاه ميناء “ليماسول” في قبرص سعيًا لكسر الحصار البحري، إلا أن الاحتلال اعتدى على المشاركين من الحالات الإنسانية في كلتا الرحلتين واعتقلهم في ميناء “أسدود” البحري، قبل أن يفرج عن بعضهم لاحقًا.