أعلنت الولايات المتحدة يوم الاثنين 23 سبتمبر/ أيلول 2024، عن تسمية الإمارات شريكًا دفاعيًا رئيسيًا، بما يؤهّلها لشراء أسلحة وتكنولوجيا أمريكية أكثر تطورًا، وذلك في أعقاب اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي جو بايدن برئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان في البيت الأبيض، على هامش زيارة الأخير لواشنطن.
البيت الأبيض في بيان له تعليقًا على هذه الخطوة المثيرة للجدل والمفاجئة في الوقت نفسه، قال إنها “ستسمح بتعاون غير مسبوق من خلال التدريبات المشتركة والمناورات والتعاون العسكري بين القوات العسكرية للولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة والهند”.
ولم تمنح الولايات المتحدة هذا التصنيف (الشريك الدفاعي) لأي دولة في العالم قبل ذلك سوى الهند فقط، لتصبح الدولة الخليجية الصغيرة هي الثانية التي تستحوذ على هذا المسمّى، هذا في الوقت الذي تعاني فيه منطقة الشرق الأوسط من توترات حادة جرّاء حرب الإبادة التي تشنّها “إسرائيل” ضد قطاع غزة، ومن بعدها التصعيد على الجبهة اللبنانية وسط تحذيرات بنشوب حرب شاملة.
ورغم تحفُّظ أمريكا على أداء الإمارات في بعض الملفات كالسودان والعلاقات مع روسيا والصين، إلا أن ذلك لم يؤثر في رغبتها في إبقاء أبوظبي ضمن معسكرها، الأمر الذي يدعو للتساؤل حول دوافع هذا الإصرار، وما الذي قدّمه أبناء زايد لتشجيع الأمريكيين على تلك الخطوة رغم تواضع إمكانيات وقدرات دولتهم مقارنة بدول إقليمية أخرى، هذا بخلاف علامات الاستفهام التي تطل برأسها حول الرسائل التي تحاول واشنطن إيصالها من وراء هذا الموقف.
الهند.. مبررات منطقية للشراكة
بالنظر إلى قدرات وإمكانيات الهند الجغرافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وما تتمتع به من ثقل إقليمي ودولي، فإن منح الولايات المتحدة لها صفة “شريك دفاعي رئيسي” قد يكون مفهومًا ومقبولًا وفق معطيات المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة من خلال تلك الشراكة.
فالهند التي تستحوذ على مساحة 3.2 ملايين متر مربع، وأكثر من نحو 1.4 مليار نسمة (17.7% من إجمالي سكان العالم) هي رابع أقوى جيش في العالم حسب التصنيفات الموثوقة، فلديها 5 ملايين و132 ألف جندي، و2182 طائرة، و4 آلاف و614 دبابة، بجانب 12 ألف مدرعة، و100 مدفع ذاتي الحركة، وأكثر من 3 آلاف و300 مدفع مقطور، وراجمات صواريخ يتجاوز عددها 1338 راجمة.
كما يصنّف الأسطول الحربي الهندي في المرتبة السابعة عالميًا، ويضمّ 295 وحدة بحرية بينها حاملة طائرات واحدة ومدمرات وفرقاطات وكورفيتات وغواصات، فيما تقدَّر ميزانية الدفاع الهندية بـ 49.6 مليار دولار وتصنَّف في المرتبة الـ 6 عالميًا بين أضخم ميزانيات الدفاع في العالم بحسب تصنيف عام 2022.
أما على المستوى الاقتصادي فبلغت قيمة التبادل التجاري بين الهند وأمريكا 119.42 مليار دولار خلال عام 2022 (76.11 مليار دولار صادرات الهند لأمريكا، و51.62 مليار دولار صادرات أمريكا للهند)، بجانب عشرات الآلاف من المشاريع المشتركة في مجال الدفاع والتكنولوجيا والرقائق وغيرها، ما يجعل من التحالف والتشارك فرصة لكل دولة من الدولتين.
الموقع الجيوسياسي للهند كان أحد العوامل التي أسالت لعاب الأمريكيين ودفعتهم لتدشين شراكة دفاعية متميزة مع الهنود، حيث الاقتراب من خصوم أمريكا التقليديين، روسيا على المستوى السياسي والصين على الجانب الاقتصادي، ومن ثم إن التحالف معها قد يكون خطوة في مسار التصدي للنفوذ الصيني المتصاعد دوليًا بصورة عامة، وفي منطقة المحيطَين الهندي والهادئ بصورة خاصة.
وكانت أمريكا لأجل هذا الغرض عززت تحالفاتها الدفاعية في تلك المنطقة (اتفاقية أوكوس (AUKUS) مع كل من بريطانيا وأستراليا، والتحالف الرباعي “كواد (QUAD)” مع اليابان والهند وأستراليا)، بجانب تعزيز الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية مع دول جنوب آسيا المطلة على المحيط الهندي، وفي مقدمتها الهند وكذلك إندونيسيا وسريلانكا.
وعليه وجدت أمريكا في الهند، بما تتمتع من إمكانيات وقدرات، السلاح المناسب لتقليم أظافر النفوذ الصيني والروسي في وقت واحد، حيث استغلت التوتر في العلاقات بين بيجين ونيودلهي وصراع النفوذ بينهما، سياسيًا واقتصاديًا، وفي الوقت ذاته فتحت ترسانتها التسليحية أمام الهنود لدفعهم نحو تقليل الاعتماد على السلاح الروسي الذي يعتمد عليه الجيش الهندي.
ومن ثم حين تُعزز أمريكا تحالفها وشراكتها مع الهند التي تتمتع بقدرات لا تقل عمّا تتمتع به الولايات المتحدة، فضلًا عن الدور الذي يمكن أن تقوم به في مواجهة نفوذ خصوم واشنطن التاريخيين، فالوضعية هنا مقبولة على كافة المقاييس والمعايير، شراكة تقوم على مبدأ التعاون والندّية والمصالح المتبادلة، وليس المنح والمجاملة.
وبالقياس على المستوى الإماراتي فالأمر يختلف شكلًا ومضمونًا، فالدولة صغيرة المساحة (83 ألف كيلومتر) والسكان (9.4 ملايين نسمة) وتمتلك جيشًا محدود الإمكانيات والقدرات (100 ألف ضابط ومجند، و436 دبابة و415 عربة مدرعة)، ليبقى السؤال: على أي أساس تمنح أمريكا الإمارات تلك الصفة وما هي المبررات والدوافع التي دفعتها للإقدام على تلك الخطوة؟
مكافأة التفاني في التطبيع.. حرب غزة نموذجًا
أثبتت الإمارات منذ توقيع اتفاقية أبراهام في سبتمبر/ أيلول 2020 أنها حليف مطيع ومخلص لدولة الاحتلال الإسرائيلي على كافة المستويات، واستطاعت في وقت قصير أن تتجاوز الدول التي سبقتها في مسار التطبيع (الأردن ومصر) بمسافات ضوئية كبيرة فيما يتعلق بتعميق العلاقات مع تل أبيب.
وبعد أيام قليلة من إبرام هذا الاتفاق، فتحت الإمارات أسواقها وخزائنها أمام الشركات الإسرائيلية، وسارت بخطوات متسارعة نحو تعاظم الشراكة والتعاون في مختلف المجالات، حتى أصبحت في غضون السنوات الأربعة الماضية (عمر اتفاق أبراهام) الحليف الأبرز والأهم لدولة الاحتلال في الشرق الأوسط.
وبجانب البُعد الاقتصادي سخّر أبناء زايد إمكانيات وقدرات بلدهم، إعلاميًا وسياسيًا، لدعم “إسرائيل” وتبرير خطوة التطبيع والتعظيم من المكاسب المحققة من هذا التوجه الملفوظ شعبيًا، وساهموا بشكل كبير في تحقيق حلم الانخراط في الجسد العربي، بل أشهرت سلاح التنكيل والاعتقال والاستهداف لكل من تجرّأ على التغريد خارج هذا السرب، حتى بات انتقاد دولة الاحتلال جريمة نكراء قد تزجّ بصاحبها في غياهب السجون لسنوات.
ثم جاء الاختبار الحقيقي والترمومتر الأدق لقياس وتقييم إخلاص الإمارات لحليفها الإسرائيلي: عملية “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة التي شنّها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة، إذ تبنّت أبوظبي منذ الوهلة الأولى خطابًا متسقًا ومتناغمًا مع سردية الاحتلال، ومشيطنًا للمقاومة وقادتها ورموزها، وارتأت لنفسها الاصطفاف إلى مربع “إسرائيل” في مواجهة المقاومة ومحورها.
فعلى المستوى السياسي، أدانت الإمارات المقاومة الفلسطينية بشكل رسمي على منبر مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، حيث وصفتها بـ”البربرية” ومنحت الكيان حق الدفاع عن النفس، وتبنت خطابًا سياسيًا تجاوز في كثير من محطاته ذاك الذي تتبنّاه الأحزاب الصهيونية.
وفي الوقت الذي حاول فيه البعض رفع الحرج عن الدولة الخليجية والحديث عن احتمالية تأثر العلاقات السياسية مع “إسرائيل” بسبب حرب غزة، إذ بها تشدد على الإبقاء على تلك العلاقات في أعلى منسوبها وتفتح أبوابها لاستقبال الضيوف الإسرائيليين، في وقت يغلي فيه الشارع العربي جرّاء خذلان الأنظمة والحكومات ويطالب بقطع العلاقات مع “إسرائيل”.
أما على الجانب الاقتصادي، فمثّلت الإمارات طوق النجاة للإسرائيليين في مواجهة الحصار الذي فرضه الحوثيون على البحر الأحمر، ومنع مرور السفن القادمة إلى دولة الاحتلال من البحر الأحمر ومنها إلى ميناء إيلات، حيث دشّنت جسورًا برّية من المساعدات التي تحمل المواد السلعية والغذائية التي تحتاجها “إسرائيل” ومنعتها حركة “أنصار الله”، وذلك انطلاقًا من الموانئ الإماراتية عبر السعودية والأردن، هذا بخلاف الجسور الجوية لنقل المساعدات الطبية والإغاثية والعسكرية.
وفي الوقت الذي تصاعدت فيه الدعوات التي تطالب بالمقاطعة الاقتصادية لـ”إسرائيل”، كأحد الأسلحة المستخدمة للضغط عليها لوقف حرب الإبادة التي تشنّها ضد أطفال ونساء غزة، وصلت فيه معدلات التبادل التجاري بين الإمارات ودولة الاحتلال خلال فترة الحرب لمستويات غير مسبوقة، وفق ما أظهرته إحصائيات رسمية إسرائيلية.
وتشير الإحصائيات الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي إلى أن إجمالي التبادل التجاري بين البلدين خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي (2024) بلغت 1.9 مليار دولار، بمعدل نمو 7% مقارنة بالفترة نفسها من العام 2023، كما زاد في الأشهر الثلاثة الأخيرة من نهاية عام 2023 بنسبة 17% عمّا كان عليه في العام 2022.
وعلى المستوى العسكري، فتذهب بعض التقارير إلى تعاون عسكري واضح بين الإمارات و”إسرائيل” منذ بداية حرب غزة، وهي المعلومات التي نفتها أبوظبي قبل ذلك، فيما تشير أنباء أخرى حديثة عن مشاركة طائرات إماراتية، تنطلق من قاعدة أمريكية في الأردن، في العمليات العسكرية التي يشنّها جيش الاحتلال في جنوب لبنان.
ومن هنا يمكن قراءة تلك الخطوة الأمريكية (منح أبوظبي صفة الشريك الدفاعي الرئيسي) كونها تأتي في سياق مكافأة الإمارات على هذا الدور اللوجستي الذي قامت به لدعم وخدمة الحليف الإسرائيلي، إذ أثبتت بما لا يدع مجالًا للشكّ أنها حليف أمين وموثوق فيه مهما كانت التحديات والعقبات والانتقادات، كذلك تشجيعها على القيام بالمزيد، مستغلة في ذلك نفوذها المالي والنفطي.
الترمومتر الإسرائيلي.. رسائل الإغراء
تحاول الولايات المتحدة أن ترسخ من خلال تلك الخطوة لحقيقة اعتبار أن “العلاقات مع إسرائيل” هي الترمومتر الحقيقي لتقييم الدول والأنظمة، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى، مغازلة بذلك دول المنطقة الطامحة في تعزيز نفوذها الإقليمي وتعميق شراكاتها مع أمريكا، وهو ما يمكن الوقوف عليه بشكل عملي مع حالتَي الإمارات ومصر.
إماراتيًا.. رغم السجلّ الحقوقي المشين للنظام الإماراتي بحق المعارضين والنشطاء، والذي أثار ضدها انتقادات إقليمية ودولية، كذلك تحفُّظ واشنطن بشكل كبير على السياسة الإماراتية إزاء بعض الملفات كالموقف في السودان والتقارب مع روسيا والصين والملف اليمني، وهو ما يتعارض مع مصالح الأمريكيين بشأن تلك الملفات، إلا أن ذلك كله يمكن تجاوزه إذا ما كان الإخلاص مع الحليف الإسرائيلي وخدمة مصالحه في المنطقة هو البديل.
مصريًا.. الأمر ذاته يتكرر مع الجانب المصري، فرغم علامات الاستفهام العديدة حول أداء مصر الحقوقي وما تعاني منه من خروقات حادّة في هذا الجدار، وهو ما دفع أمريكا قبل ذلك لاحتجاز جزء من المعونة السنوية، وارتهان الإفراج عنها بتحسُّن هذا الملف، إلا أن تعامل النظام المصري مع الحرب في غزة وتحمّله للاستفزازات الإسرائيلية التي تنتهك السيادة المصرية دون اتخاذ ردود أفعال رادعة، فضلًا عن التماهي مع رؤية الاحتلال في تسويف المسار التفاوضي وامتصاص غضب المقاومة وإطالة أمد الحرب بما يصبّ في صالح المحتل، كل هذا كان لا بدَّ له من ثمن ومقابل.
وبالفعل جاء الرد سريعًا، حيث منحت الإدارة الأمريكية مصر المعونة كاملة هذا العام، والبالغ قيمتها 1.3 مليار دولار، دون اقتطاع أي جزء منها كما كان في السنوات السابقة، وذلك لأول مرة منذ تولي جو بايدن السلطة عام 2020.
كما وافقت وزارة الخارجية الأمريكية الثلاثاء 25 سبتمبر/ أيلول 2024 على صفقة محتملة لبيع 720 صاروخ ستينغر لمصر مقابل 740 مليون دولار، حسبما نقلت وكالة “رويترز” عن وزارة الدفاع الأمريكية، الأمر الذي فُهم على أنه مكافأة للقاهرة على موقفها الإجمالي من الحرب وخدمتها للمصالح الأمريكية، كونها هي الآخر حليفًا موثوقًا به وفيه.
رسائل التحذير والمغازلة
تحمل المكافأة الأمريكية للإمارات رسائل من نوع آخر، بعضها يأتي في سياق المغازلة لكل الدول والكيانات المتأرجحة يمينًا ويسارًا بشأن التقارب مع الاحتلال، والحث على الانخراط طواعية في حظيرة التطبيع، كتلك الموجهة للسعودية مثلًا، والتي تقدّم خطوة وتؤخر أخرى في مسار التطبيع الرسمي مع “إسرائيل”، في ظل ما تتبناه من مقاربات تحاول من خلالها تحقيق أكبر قدر من المكاسب وتقليل سهام النقد وتجنب التخلي عن المرتكزات الثابتة في سياستها الخارجية قدر الإمكان.
الولايات المتحدة بتلك الخطوة تقول إن كل من يختار طريق التطبيع وخدمة مصالحها وحلفائها في الشرق الأوسط، سيحظى بالدعم والشراكة الكافية التي تجعله أحد أبرز اللاعبين في المنطقة، وتعزز من نفوذه وتزيد حظوظه نحو الريادة والثقل الإقليمي والدولي، هذا بجانب غضّ الطرف عن الخروقات الأخرى والتي كانت تمثل صداعًا مزمنًا في رأس الأنظمة، كالملف الحقوقي والإنساني والسياسي وخلافه، فهي رسالة مغازلة وطمأنة معًا.
لكن على الجانب الآخر من تلك الرسالة، هناك بُعد تحذيري آخر، فكل من يفكر أن يغرد خارج السرب، وينأى بنفسه عن المسار المرسوم له، سيعاني من تقزيم لدوره وتراجع لنفوذه وإخراج الملفات المجمدة للأضواء مرة أخرى، وتغليب كيانات وقوى أخرى عليه في قائمة اللاعبين الرئيسيين في الملعب الإقليمي (تعزيز نفوذ الإمارات على حساب السعودية على سبيل المثال)، وهي الرسالة التي قد تربك حسابات الكثير من القوى، لا سيما المتأرجحة في مواقفها إزاء هذا التوجه تحديدًا.
وهكذا تحاول الولايات المتحدة عبر التقرّب والتحذير والابتزاز، ومن خلال تكريس استراتيجية الاستقطاب، وقلب معادلة التوازنات وتغيير خارطة القوى في المنطقة، دعم حليفها الإسرائيلي بشتى السبل، بما يضمن تحقيق مصالحها وتعزيز حضورها وتقويض خصومها التقليديين والمحتملين.