أدت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر وما تلاها من إبادة جماعية إسرائيلية، إلى تداعيات كبيرة على الاقتصاد الإسرائيلي، تسبّبت في تراجع قطاعات حيوية إلى جانب خسائر كبيرة نتجت عن الإجراءات والسياسات الحكومية المختلفة التي طبقتها حكومة بنيامين نتنياهو منذ اندلاع الحرب.
وزاد الإنفاق العسكري الهائل وتعويضات مالية لأكثر من 250 ألف مستوطن من الضغط على الموازنة العامة، وتكليف الوزارات الحكومية 6.4 مليارات شيكل (1.8 مليار دولار)، حسب بيانات وزارة الرفاه الإسرائيلية.
ومنذ بداية العام الحالي سجّلت الموازنة العامة عجزًا تراكميًا بقيمة 26 مليار شيكل (7 مليارات دولار)، علمًا أن هذا العجز وصل إلى رقم قياسي خلال الأشهر الـ 12 الأخيرة، قدره 117.3 مليار شيكل (31.7 مليار دولار)، وهو الأعلى في تاريخ البلاد.
تكلفة الحرب الباهظة
بلغت تكلفة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر العام الماضي حتى منتصف العام الجاري أكثر من 270 مليار شيكل ما يعادل (73 مليار دولار). وحسب بيانات وزارة الأمن الإسرائيلية، فإن كلفة الحرب اليومية خلال الشهرين الأولين من الحرب بلغت مليار شيكل يوميًا (270 مليون دولار)، ثم انخفضت خلال عام 2024 لتصل إلى 350 مليون شيكل (94 مليون دولار).
هذه التكلفة والأرقام دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى توسيع الموازنة العامة لسنة 2024 لتكون 584 مليار شيكل (158 مليار دولار)، بزيادة قدرها حوالي 14% مقارنة بحدّ الإنفاق الأصلي الذي تم تحديده في العام الماضي كجزء من ميزانية السنتين 2023-2024.
كما قدمت الحكومة زيادة في ميزانية وزارة الأمن بعد تجاوزها الموازنة السنوية المخصصة، بزيادة قدرها 30 مليار شيكل (8.1 مليارات دولار)، وبذلك بلغ الحجم الإجمالي لميزانية الأمن خلال الحرب حوالي 100 مليار شيكل (27 مليار دولار).
لكن هذا لم يمنع من التسبّب في عجز في نمو الموازنة السنوية، إذ بلغ حتى نهاية مارس/ آذار الماضي 6.2% من الناتج المحلي الإجمالي، ويتوقع أن يستمر ليبلغ حوالي 6.6% في نهاية عام 2024.
انخفاض التصنيف الائتماني
وإلى جانب التكلفة العسكرية، انكمش الاقتصاد الإسرائيلي في الربع الثاني من 2024 بنسبة 0.4% بمقياس نصيب الفرد من الناتج المحلي. وفي الوقت الذي توقّع فيه محلّلو بورصة تل أبيب نمو اقتصاد “إسرائيل” 5.9% خلال الربع الثاني من العام 2024، إلا أن الأرقام جاءت أقل من التوقعات لتسجل 1.2% فقط.
وخفضت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في 13 أغسطس/ آب الماضي التصنيف الائتماني لإسرائيل من “أ+” إلى “أ”، مشيرة إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية مع استمرار الحرب في غزة، فيما أبقت على توقعاتها السلبية بخصوص الموازنة الإسرائيلية، ما يعني إمكانية خفضه مرة أخرى.
وبعد عدة مخاوف أعربت عنها وكالات تصنيف دولية أخرى، قال سيتي بنك في تقرير نشره أن مكانة “إسرائيل” الإئتمانية ستبقى على ما هي عليه، مع عدم وجود أمل بانتهاء التوتر الإقليمي في وقت قريب. وأشار البنك في تقريره إلى أن الفارق بين السندات الحكومية الإسرائيلية ونظيرتها الأمريكية بالدولار، وصل إلى نحو 200 نقطة أساس.
كما لفت الانتباه إلى نيّة بعض الوكالات فرض مزيد من التخفيضات الائتمانية على “إسرائيل” قريبًا، منها وكالة موديز القابضة بسبب شكوك المحللين الكثيرة حول قدرة الحكومة الإسرائيلية على ضبط العجز المالي خلال العام المقبل.
تعكس هذه الأرقام فشلًا لعدة قطاعات تدهورت بسرعة كبيرة منذ شنّ الاحتلال حربه على غزة، على رأسها قطاع البناء والسياحة والزراعة والإنتاج الذي يعدّ أحد أكبر القطاعات التي تراجعت خلال الربع الثاني من العام، مسجّلًا انخفاضًا بنسبة 7.1%.
خسارات قطاعَي التصدير والبناء
نال قطاعا التصدير والبناء في “إسرائيل” الحصة الأكبر من مجموع خسارات القطاعات الأخرى بعد تجميد الحكومة الإسرائيلية تصاريح العمل لحوالي 80 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية، كانوا يعملون في قطاع الصناعة والزراعة والبناء، فيما تقدَّر خسائر قطاع البناء حوالي 150 مليون شيكل يوميًا (40 مليون دولار)، مع استمرار تخوف شركات المقاولات من مصير قروض تقدر قيمتها بنصف تريليون شيكل.
ورغم محاولات الحكومة الإسرائيلية معالجة مشكلة نقص الأيدي العاملة، عبر إطلاق حملات توظيف في الهند وسريلانكا، إلا أن الخطة لم تنجح بشكل كامل بسبب تخوف العمال من العمل في ظروف حرب، أو التأخر في سداد الأجور.
ووفقًا لمسح أجرته شركة الأعمال CofaceBDI، فإن نحو 60 ألف شركة إسرائيلية سوف تغلق أبوابها هذا العام بسبب نقص القوى العاملة، وانقطاع الخدمات اللوجستية، وضعف معنويات الأعمال، وهو ما يهدد مكانة “إسرائيل” كواحدة من أغنى الدول في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
أما على صعيد الناتج المحلي الإجمالي، فانكمش بنسبة 4.1% في الأسابيع التي أعقبت هجوم “طوفان الأقصى”، واستمر في الانحدار حتى العام الجاري 2024 بنسبة 1.1% و 1.4% إضافية في الربعَين الأولين، ما يؤثر بثقة المستهلكين وبالتالي تراجع خطط الاستثمارات من جانب الشركات.
هروب شركات التكنولوجيا
يعدّ قطاع التكنولوجيا أقوى القطاعات التجارية في “إسرائيل” من ناحية الاستثمار والتصدير، إذ يقوم بمثابة البنية التحتية للاقتصاد الإسرائيلي، حيث يمثل ما يقرب من نصف إجمالي الصادرات وخُمس الناتج الاقتصادي.
بناءً على تقرير هيئة الابتكار الإسرائيلية، تسبّبت الاحتجاجات داخل حكومة نتنياهو عام 2023، وما تلاها من العدوان على غزة، في تأثيرات سلبية بارزة على قطاع التكنولوجيا الفائقة (الهايتك)، فقد أدّت إلى انخفاض في حركة رأس المال للشركات الناشئة عالية المخاطر بنسبة 55%، وتباطؤ في عمليات التطوير وتأخر في جدول تسليم المنتجات، وانخفاض في توظيف القوى العاملة.
إلى جانب انخفاض مكانة وسمعة الشركات الإسرائيلية بسبب الحرب على غزة، وانخفاض ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد والشركات الإسرائيلية، وانكماش في زيادة حجم التشغيل من 10% في العام 2022 إلى 2.6% في العام 2023، وانخفاض بنسبة 70% في تجنيد رؤوس الأموال لصناديق الاستثمار الإسرائيلية المتخصصة في الشركات الناشئة، وانكماش في حجم الاستثمار في شركات التكنولوجيا الحديثة من 28 مليار دولار في العام 2022 إلى 8 مليارات دولار في العام 2023.
إضافة إلى خسارة عدد كبير من العاملين في قطاع التكنولوجيا الحديثة لصالح التجنيد الاحتياطي في الجيش الإسرائيلي بما نسبته 7% من العاملين، ونقل العديد من الشركات مكاتبها خارج “إسرائيل”، وانتقال العديد من الموظفين إلى دول أوروبية.
ونتيجة لاعتماد قطاع التكنولوجيا على السوق الخاص والاستثمارات الأجنبية بشكل شبه كامل، أدّت كل هذه التغييرات إلى توقف 49% من استثماراته، وأعربت أكثر من 80% من الشركات عن شكوكهم بشأن قدرة الحكومة على تقديم المساعدة حسب دراسة نشرها موقع “كالكالست” الإسرائيلي.
كما أكدت الدراسة أن الوضع أكثر خطورة في شمال “إسرائيل”، حيث أعربت 69% من شركات التكنولوجيا في هذه المنطقة عن قلقها الكبير بشأن قدرتها على جذب استثمارات جديدة العام المقبل، ونتيجة لذلك تخطط 40% من هذه الشركات في نقل أنشطتها جزئيًا أو كليًا إلى دول أخرى.
تضرر البنية التحتية
بدأ حجم الخسائر في البنية التحتية الناجمة عن تعرض الجبهة الداخلية الإسرائيلية للقصف الصاروخي بالظهور بشكل أكبر في البيانات الحكومية الإسرائيلية، إذ أكدت تقديرات سلطة الضرائب الإسرائيلية أن حجم الأضرار المباشرة للمباني والمنشآت التي تكبّدتها مستوطنات “غلاف غزة” بلغت 1.5 مليار شيكل (405 ملايين دولار).
كما أكدت التقارير أن قيمة الأضرار غير المباشرة والتعويضات للمتضررين في مستوطنات الغلاف والنقب الغربي وصلت إلى 12 مليار شيكل (3.35 مليارات دولار)، بما فيها الأضرار التي تكبّدتها فروع الزراعة والسياحة الداخلية، والترفيه والمطاعم والمقاهي، والصناعات الخفيفة، حيث تضررت أكثر من 500 منشأة سكنية زراعية وصناعية وتجارية، على ما أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت”.
خسارات قطاع الزراعة
تكبّد قطاع الزراعة خسائر كبيرة منذ انطلاق عملية “طوفان الأقصى”، نتيجة وقوع منطقة “رقعة الخضار الإسرائيلية” التي تضمّ مزارع وحقول ومنشآت للدواجن والماشية والأسماك، بالقرب من غلاف غزة، حيث تكثر هجمات المقاومة الفلسطينية، ما ضيّق الخناق على مستوى الأمن الغذائي الإسرائيلي، حيث بلغت خسائر محصول الفاكهة نحو 130 مليون شيكل في العام 2023، وتبعه قطاع الخضروات بخسائر بلغت قيمتها 79 مليون شيكل، وقطاع تربية الماشية بخسائر تجاوزت 70 مليون شيكل.
وأعلنت شركة “مهدرين” للاستثمار الزراعي، وهي مصدّر رئيسي للحمضيات وغيرها من المنتجات الزراعية في “إسرائيل”، أوائل العام الجاري عن خسارة تفوق 160 مليون شيكل (43.8 مليون دولار) للربع الثالث من عام 2023.
ونقلت صحيفة “غلوبس” الاقتصادية الإسرائيلية عن رئيس اتحاد المزارعين، عميت يفراح، قوله إن 75% من الخضروات المستهلكة في “إسرائيل” تأتي من غلاف غزة، إضافة إلى 20% من الفاكهة، و6.5% من الحليب.
مع اقتراب نهاية العام الجاري، وتوسع الحرب في الجبهة الشمالية مع “حزب الله” ومن ورائه لبنان، تغدو آمال بنيامين نتنياهو في استعادة زمام الاقتصاد الإسرائيلي أبعد من أي وقت مضى، حيث ستفرض عليه الحكومة في الأشهر القليلة المقبلة وضع موازنة الدولة لعام 2025، فيما سيترتب إجراء انتخابات مبكرة في حال لم يستطع تمرير الموازنة بحلول 31 مارس/آذار 2025 نتيجة عدم قدرته على إنهاء الحرب واستعادة ثقة الشارع.
من جانبها، تعتقد وكالة فيتش أن إسرائيل ستتبنى مزيجًا من تدابير التقشف وزيادات الضرائب، وأن “الانقسام السياسي وسياسات الائتلاف والضرورات العسكرية قد تعيق بشكل كبير عملية التوحيد المالي واستقرار الأسهم”.