لعبت السينما منذ بداياتها أدوارًا كبيرة في التأثير على حياة الأفراد وقراراتهم وخياراتهم في الحياة، سواء سلبًا أم إيجابًا، إذ أصبحت ميدانًا واسعًا لتمرير الأفكار والمعتقدات والرغبات ونشرها بين الأفراد والمجتمعات في شتى مجالات الحياة، السياسية والاجتماعية والنفسية والثقافية وحتى ميدان السفر والسياحة.
ولسنواتٍ عديدة، وجد الناس مصدر إلهامهم للسفر في الكتب والروايات، لكنّ الأمر أخذ بالتطوّر والتغير مع ظهور المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية التي أصبحت أكثر شعبية من الأدب والقراءة في السنوات الأخيرة. ولهذا لا عجب وأن برز في السنوات الأخيرة ما يُعرف بمصطلح “السياحة السينمائية” كواحدٍ من أكثر القطاعات السياحية نموًا ورواجًا على نطاقٍ واسعٍ في العالم مقارنةً مع أنواع أخرى من السياحة.
والسياحة السينمائية هي ذلك النوع من السياحة المرتبط بفيلمٍ سينمائيّ معيّن بحيث تصبح الأماكن التي صُوّر فيها الفيلم وجهةً سياحية رائجة يقصدها محبّو الفيلم ومعجبوه للتعرّف على المكان عن قرب رغبةً منهم في تجربة الهروب إلى “عالمٍ مختلف”، وهو عالم الأفلام والمسلسلات التي يشاهدونها.
إذ عادةً ما تميل الأفلام إلى التأثير على المشاهدين بشكل غير مباشر كجزء أساسي من رسالة الفيلم، وقد أكدت العديد من الأبحاث أن الأفلام تستطيع الوصول إلى الجمهور والتأثير به بشكلٍ أقوى من الإعلانات والبرامج السياحية التي تستهدف شريحةً معينة على وجه التحديد.
السياحة السينمائية هي السياحة المرتبطة بفيلمٍ سينمائيّ معيّن بحيث تصبح الأماكن التي صُوّر فيها الفيلم وجهةً سياحية رائجة يقصدها محبّو الفيلم للتعرّف على المكان عن قرب
خذ فيلم “طعام، صلاة، حب” على سبيل المثال، حيث تبدأ “جوليا روبرتس” برحلة البحث عن ذاتها بعد سيطرة اللامعنى والملل على حياتها بكاملها لتبدأ رحلة التحوّل والتغيّر واكتساب المعنى شيئًا فشيئًا مع كلّ مكانٍ تزوره وتستكشفه بدءًا من إيطاليًا ومرورًا بالهند وبالي وغيرها.
سوف يجعلك هذا الفيلم تحلم بتناول المزيد من المعكرونة في حارات إيطاليا القديمة، وركوب الدراجة حول جزيرة بالي، والرقص طوال الليل على شواطئها، والمشي عبر حقول الأرز في أندونيسيا أو حتى الانضمام إلى الجماعات الدينية ومعابدها في الهند. الخبر الجيّد في الموضوع أنّ الكثيرين قرروا مباشرة تنفيذ الرغبة والبدء برحلتهم التي تستهدف أماكن تصوير الفيلم.
الأفلام كبديلٍ عن الإعلانات: إنعاشٌ للسياحة والاقتصاد
في عام 2014، وجدت شركة أبحاث السياحة التنافسية أنّ أكثر من 45 مليون سائحًا دوليًا اختاروا وجهات سفرهم في المقام الأول لأنهم شاهدوا فيلمًا أو عرضًا تلفزيونيًا تم تصويره في ذلك البلد. وقد كشفت دراسة استقصائية أُجريت عام 2015 وتضمّنت أكثر من 2000 مشارك، أنّ واحدًا من بين كلّ أربعة أشخاص يختار بانتظام وجهاته السياحية على أساس فيلمه أو برنامجه التلفزيونيّ المفضل. وقد تصدّرت نيوزلندا القائمة بفضل سلسلسة أفلام “سيّد الخواتم” أو “The Lord of the Rings” التي وضعت الدولة على خارطة الوجهات السياحية المميزة في العالم.
تشير بعض المصادر أنّ عدد الوافدين إلى نيوزلندا قد زاد بنسبة 50% منذ صدور الفيلم الأول من السلسلة “ The Fellowship of the Ring” عام 2001. إذ قام معظمهم بزيارة المناطق الريفية والتمتع بالمناظر البانورامية الخلّابة التي تظهر أمام أعينهم تمامًا كما ظهرت في الفيلم، خاصة قرية “الشاير” الشهيرة التي تم ذكرها في الفيلم، لا سيّما بعد أنْ قامت هيئة السياحة النيوزيلدنية بتدشين حملة دعائية كبيرة من أجل الترويج لهذه الأفلام وتعريف السائحين من جميع أنحاء العالم بأماكن تصويرها.
جولة سياحية في أحد مواقع تصوير فيلم “سيد الخواتم” في نيوزلندا
وقد تنبّهت الحكومة النيوزيلاندية بقوّة إلى دور السينما في صناعة القطاع السياحيّ وتعزيزه، فأصدرت عام 21012 طوابع بريدية تحمل وجوه عدةِ شخصياتٍ من الفيلم. أما ختم جوازات سفر القادمين فحمل عبارة “مرحبًا بك في الأرض الوسطى”\”welcome to middle earth“. وعلى الرغم من مرور سنواتٍ على إصدار الجزء الأخير من السلسلة، إلا أنّ الرحلات إلى مناطق تصويره لا تزال قائمة بقوة.
في حال زرتَ نيوزلندا، سيتم استقبالك في المطار بخاتم مستوحىً من سلسلة “سيد الخواتم” مطبوعًا على جواز سفرك
أمّا السياحة المستوحاة من مسلسل “لعبة العروش Game od Thrones” فهي أيضًا واحدة من أكبر السياحات ووجهات السفر، لا سيّما وأنها أعادت صياغة الاقتصاد السياحيّ للعديد من البلدان والدول. فعلى سبيل المثال، سجّلت آيسلندا قفزةً كبير من حواليْ 566 ألف سائح وزائر في عام 2011 إلى أكثر من 1.6 مليون زائر في عام 2015 لوحده.
تظهر الصورة الأولى موقعًا لتصوير “لعبة العروش” في آيسلندا فيما تُظهر الثانية عددًا من السيّاح في مسارٍ تتبعيّ للموقع
وقد خصصت وزارة السياحة والشركات المسؤولة العديد من مسارات المشي والتجوال التي يقودها مرشدين مخصّصين لتتبع الأراضي والمناطق التي صُوّرت فيها مشاهد المسلسل وحروبه. جديرٌ بالذكر أيضًا أنّ أفلامًا أخرى ساهمت بجذب انتباه السياح إلى الدولة مثل Batman Begins و Interstellar لكنّ “لعبة العروش” هو ما فجّر القنبلة السياحية بالشكل الذي هي عليه الآن
وإضافةً إلى أيسلندا، فقد شهدت كرواتيا أيضًا نموًا اقتصاديًا بارزًا بفعل السياحة الناشئة عن المسلسل. إذ تحوي المنطقة موقعًا لملوك ما يُعرف بـKing’s Landing. ووفقًا لموقع ” TripAdvisor“، فقد شهدت الدولة نموًا سياحيًا متزايدًا بنسبة 120% منذ بدء المسلسل مقارنةً بما قبله.
صورة عامة من كرواتيا وأخرى لمشهدٍ من مشاهد مسلسل “لعبة العروش”
وعلى سبيل المثال أيضًا، أدت سلسلة “هاري بوتر” إلى زيادة بنسبة 50% في عدد السياح الذين قصدوا بريطانيا لزيارة مواقع تصوير السلسلة. أما فيلم “Frozen ” فحقّق زيادةً بنسبة 37% في القطاع السياحيّ في النرويج. فيما فجّر فيلم Braveheart قنبلةً سياحية بنسبة 300% في أسكتلندا، وفيلم “Mission Impossible 2” بنسبة 200% إلى حديقة سيدني الوطنية. وقد ساعد فيلم “Troy ” على إنعاش السياحة التركية في مدينة “جناق قلعة” بنسبة 73%.
ما مدى استدامة السياحة السينمائية؟
تشير الأبحاث إلى أنّ السياحة السينمائية يمكن أنْ تلعب دورًا كبيرًا في إنعاش الاقتصادات المحلية على المدى الطويل، لا سيّما وأنّ السياحة المرتبطة بفيلمٍ معين يتوقع لها أن تبقى في ازدياد بين ثلاثة إلى أربعة أعوام على أقل تقدير من بعد صدور الفيلم. كما تبين أن امتلاك فيلم لمدينة أو وجهة سياحية يمكن أن يكون أحد أكثر الطرق فاعلية للتسويق للسياح المحتملين بعيدًا عن طرق التسويق التقليدية.
من خلال هذا السياق، يصبح من المنطقيّ أن تقوم الحكومات بتقديم الحوافز والتشجيعات لصانعي الأفلام وشركات الإنتاج لتصوير فيلمٍ ما في بلدانهم، لتشجيع السياحة ومن ثمّ تحقيق نموٍ وانتعاشٍ في الاقتصاد المحليّ. فعلى الرغم من أنّ ثمة الكثير من الأفلام الهوليوودية تمّ إنتاجها في مصر والأهرامات تحديدًا، إلا أنّه لا يوجد أيّ إحصاءات مؤكدة عن أثر ذلك على السياحة الأجنبية في مصر. فهل يمكن لبلداننا العربية أنْ تحقّق نفس الأمر في يومٍ ما؟