ترجمة وتحرير: نون بوست
يبدو أن الرئيس ترامب مصرّ على تغيير مسار 70 سنة من السياسة الخارجية الأمريكية الراسخة خاصة تجاه أوروبا، التي لا ترتقي إلى مرتبة الحليف، ولا تعد في نفس الوقت منافسا. وقد أدى التغيير، الذي اتبعه ترامب، إلى بداية رحلة بحث محتدمة على جانبي المحيط الأطلسي بهدف الحصول على إجابات على الأسئلة الصعبة، التي تتعلق بالدور العالمي للولايات المتحدة الأمريكية وما يمكن لأوروبا المنهكة القيام به وما يجب عليها أن تفعله خدمة لمصالحها في ظل وجود شريك أمريكي غير موثوق.
خلال حديثه قبل انعقاد مؤتمر السفراء الألمان خلال الشهر الماضي، أشار وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، إلى سياسة أوروبا الخارجية والدفاعية، التي تُعد أقوى في مواجهة مستقبل غامض غير متوقع. وفي هذا السياق، قال ماس إن “النظام الدولي القائم على القواعد بصدد التآكل في عالم لا يمكن اعتبار فيه أن كل شيء مضمون في السياسة الخارجية”. وفي إشارة إلى الطريقة التي أصبح فيها التفكير متصلّبا، استشهد ماس، المؤمن بالفكر الاشتراكي، بالمفكر الأمريكي المحافظ، روبرت كاغان من معهد بروكنجز وبكتابه، الذي سيُبصر النور قريبا والذي يحمل عنوان “الغابة تنمو من جديد: الولايات المتحدة الأمريكية وعالمنا المعرض للخطر”.
كتب روبرت كاغان أن “النظام العالمي الليبرالي، الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من سبعة عقود، آخذ في الانهيار”
عموما، يعد هذا الكتاب واحدا من العديد من الكتب، التي تُكتب حديثا والتي تتناول هذه القضايا. ومن وجهة نظر كاغان، يعيد انسحاب الولايات المتحدة، باعتبارها الجهة التي تفرض النظام الذي أسسته بعد الحرب العالمية الثانية، العالم إلى حالته الطبيعية، التي تُعد بدورها بمثابة الغابة المظلمة التي تتنافس فيها المصالح وتتصادم فيها القومية مع القبلية ومع المصالح الذاتية.
في هذا السياق، كتب كاغان أن “النظام العالمي الليبرالي، الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية قبل أكثر من سبعة عقود، آخذ في الانهيار”، وهي مهمة يتمثل الهدف منها في إثقال كاهل الولايات المتحدة بأعباء العالم، التي برزت قبل انتخاب ترامب والتي كانت تُعتبر أحد أسباب انتصاره في الانتخابات. لكن مع انسحاب الولايات المتحدة المنهكة من الاعتناء بما يسميه كاغان “حديقة النظام الليبرالي”، أي عصارة 70 سنة استثنائية من السلام النسبي والتجارة الحرة و”التضارب التاريخي”، الذي سمحت به قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت المخاطر الجمّة تُحْدق بأوروبا”.
بالإضافة إلى ذلك، حذّر كاغان من أن “أوروبا المرهقة بالفعل بسبب السياسات المتعلقة بالشعبوية وبالهوية معرضة لخطر نشوب صراع ناجم عن اتباع مفهوم الشمولية الذي تم اعتماده خلال فترة الثلاثينات”. وفي هذا الصدد، قال كاغان إن “القضية المصيرية لا تتعلق بالشرق الأوسط أو بروسيا أو حتى بالصين”. وأضاف كاغان أن “اللعبة الكبيرة هي في الواقع ما كان عليه الأمر منذ أكثر من قرن من الزمان. وإذا ما فقدنا أوروبا أو جعلناها تعود إلى حالتها الطبيعية، فستكون تلك هي النهاية”.
تم تنظيم مسيرة لليمين في مدينة كيمنتس الألمانية خلال هذا الشهر. وقد حذر بعض المحللين من وهن أوروبا خاصة بعد انسحاب الولايات المتحدة من دورها باعتبارها الجهة، التي تفرض النظام العالمي.
في المقابل، لا يكاد الجميع يؤيّد اقتراح كاغان، الذي يفيد بأنه يجب على الولايات المتحدة الأمريكية استيعاب هذا الأمر وفهم ضرورة أن تظل الضامن الأساسي، في الوقت، الذي يبدو فيه الكثيرون متعاطفين مع شكوى ترامب المتعلقة بأن حلفاء الولايات المتحدة لا يفعلون ما يكفي فيما يتعلق بمسألة الدفاع المشترك.
في شأن ذي صلة، أجرت جوليان سميث، المستشارة السابقة لنائب الرئيس بايدن والتي تعد في الوقت الراهن زميلة زائرة في أكاديمية روبرت بوش في برلين، مؤخرا جولة إلى الولايات المتحدة تحدثت خلالها عن السياسة الخارجية. وفي هذا الصدد، قالت سميث: “إذا كان رأي الحزبيْن في واشنطن يتعلق بالقيام بالمزيد، فإن الناس يتساءلون عما إذا كنا طموحين أكثر مما يجب”. وأضافت سميث قائلة: “نحن في وضع لا يرى فيه العامّة الدليل، الذي يدعم حجج كاغان”. وتابعت سميث قائلة: “لا وجود للكونغرس ولا لوسائل الإعلام ولا لعامة الناس. في المقابل، لا نرى في بعض الأحيان سوى الصفقات”.
من جهته، أشار ستيفن والت من جامعة هارفارد في كتابه، الذي سيبصر النور قريبا والذي يحمل عنوان “جحيم النوايا الحسنة: نخبة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة وتراجع صدارة الولايات المتحدة”، إلى أنه يجب أن يكون تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في العالم محدودا، ولكن يجب أن يكون في نفس الوقت بشكل أكثر انتقائية”.
لقد ساهم شعور الأمريكيين بالإرهاق إزاء “الحروب الأبدية” في ظهور ممانعة جديدة للتدخل الأمريكي في العالم
وباعتباره جزءا من المدرسة الواقعية، قال والت إنه “منذ نهاية الحرب الباردة، قامت الولايات المتحدة بسلسلة من الجهود المكلفة وغير الضرورية، والتي باءت في نهاية المطاف بالفشل، من أجل إعادة تشكيل الشعوب بعيدا عن صورتها المعتادة”. علاوة على ذلك، أشار والت إلى أن “استعارة الحديقة تعني أن دورنا غير مؤذ ومفيد في الوقت الذي كنا فيه نزيح الستار عن الكثير من الأمور”. وأضاف والت قائلا: “في حال بدأنا نجوب العالم ونقوم بحملات صليبية، واتخذ بعضها منحى سيئا، وهو ما سيحدث في نهاية المطاف، سيتراجع التأييد الشعبي حول موضوع اعتماد سياسة خارجية نشطة”.
من جهته، يعتبر توماس فالاسيك، الذي يدير مؤسسة كارينغي البحثية في أوروبا، أن وجهة النظر هذه تتسم بالكثير من التشاؤم. وفي هذا الشأن، قال فالاسيك: “نحن لسنا في فترة الثلاثينيات، فهناك قوى مزعجة تمارس نشاطها في أوروبا على الرغم من أنها لا تتبنى نفس الأفكار. وأنا لا أشاطر كاغان الرأي، الذي يفيد بأن النخب الأوروبية ستفشل في الرد”.
القوات الخاصة الأمريكية تقف في الصف الأمامي خارج مدينة منبج الواقعة في شمال سوريا خلال شهر شباط/فبراير.
من جانبه، أضاف فالاسيك قائلا: “يجب أن نوضح للشعب الأمريكي أن الاستمرار في التدخل يُعد من مصلحته وأن الآخرين هم الذين يقومون بذلك ويدفعون الثمن نيابة عنهم”. كما أشارت ناتالي توتشي، مديرة معهد الشؤون الدولية في إيطاليا ومستشارة الممثل الأعلى لسياسة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني، إلى أن التغير في المواقف الأمريكية بدأ يظهر خلال الدور، الذي لعبته ما بعد الفترة الإمبريالية، أي قبل ظهور ترامب حينما فشلت الحرب العراقية.
لكن بالنسبة لها، “يتمثل الجانب المشرق في أوروبا في إدراك القادة الحاليين، الذين يعتمدون على أسلوب المراوغة بأننا جميعا ضعفاء للغاية”. وتابعت توتشي قائلة “إن هناك إدراكا متناميا بأنه لا بد من وجود أوروبا واتحاد أوروبي قوي بغض النظر عن الأخطاء المرتكبة”.
من جانبه، أفاد دانيال دريزنر، أستاذ السياسة الدولية في مدرسة فليتشر بجامعة تافتس، أن “الأمريكيين سئموا من الحروب، التي تدور رحاها في كل من أفغانستان والعراق. في المقابل، يعد كل من كاغان ووالت مخطئان فيما يتعلق بالرأي العام الأمريكي”. وتابع دريزنر حديثه قائلا: “بإمكانك التوجه لهم بالسؤال حول المواضيع المتعلقة بالتجارة، الهجرة والتحالفات. وسيتّضح أن ترامب قد أعاد لليبرالية الدولية مجدها من جديد”، وذلك في ظل تفضيل الأمريكيين للقيام بالتجارة الدولية وإبرام التحالفات مع الديمقراطيات الأوروبية والآسيوية.
في حال لم يتجه ترامب نحو إرساء النظام العالمي الليبرالي، سيكون بإمكان الحلفاء التسعة الأكثر ديمقراطية للولايات المتحدة فعل المزيد للحفاظ عليه فيما يتعلق بالتجارة والأمن العالميين
في الواقع، تُظهر استطلاعات الرأي أن مواقف الأمريكيين تجاه التجارة والتحالفات المتبادلة أكثر إيجابية منذ أربعين سنة، وذلك وفقا لما صرح به رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، إيفو دالدر. ووفقا لدالدر، لم يسأم الأمريكيون من التدخل الذي تقوم به البلاد، وإنما سئموا من الحروب الأجنبية الغبية، التي لا نهاية لها. وعموما، سيبصر كتاب من كل دالدر وجيمس ليندسي، الذي يُدعى “العرش الخالي: تنازل الولايات المتحدة عن القيادة العالمية”، النور قريبا. وفي هذا الكتاب، يصف الكاتبان تأثير ما يعتبرانه أكبر تغير في السياسة الخارجية الأمريكية منذ انسحاب أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى. وعلى غرار كاغان، يعتبر كل من دالدر وليندسي أن العواقب ستكون وخيمة.
في المقابل، يجادل الكاتبان أنه في حال لم يتجه ترامب نحو إرساء النظام العالمي الليبرالي، سيكون بإمكان الحلفاء التسعة الأكثر ديمقراطية للولايات المتحدة فعل المزيد للحفاظ عليه فيما يتعلق بالتجارة والأمن العالميين. وفي شأن متصل، يدعو كل من ليندسي ودالدر إلى انعقاد مجموعة التسعة، التي تضم كلا من بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، أستراليا، كوريا الجنوبية، اليابان، كندا والاتحاد الأوروبي، بغية التصرف بشكل أكثر جرأة فيما يتعلق بمصْلحتهم الخاصة على غرار ما يقومون به فيما يتعلق بملف التجارة.
في الحقيقة، يريد كاغان التأثير على هذه الخيارات. وفي هذا الصدد، يجادل كاغان قائلا: “على الرغم من الأخطاء التي تم ارتكابها في كل من العراق وأفغانستان وليبيا، إلا أن الانسحاب تحت مسمى الحقيقة، يُعد أمرا ساذجا وبعيدا عن التاريخ”. وأضاف كاغان قائلا: “بعد عقود من العيش في فقاعة النظام العالمي الليبرالي المحمية، نسينا كيف يبدو العالم كما هو”. وتابع كاغان حديثه قائلا إن “الاعتقاد بأن الربع قرن الذي مر بعد الحرب الباردة يعد كارثيا، هو نسيان لما تعنيه كلمة الكارثة فيما يتعلق بالشؤون العالمية”.
المصدر: نيويورك تايمز