أخبار متضاربة عما تفعله النقابة التونسية، فالأمين العام للنقابة السيد نور الدين الطبوبي يتحدث عن السلم الاجتماعي بينما تصدر الهيئة الإدارية (برلمان النقابة) قرارات بالإضراب العام، نعرف أن النقابة تجمع داخلها تيارات سياسية متناقضة المشارب والأهواء ونعرف أن هناك على الأقل تيارين كبيرين يسيطران عليها هما تيار اليسار النقابي في مقابل تيار العاشوريين (نسبة إلى الحبيب عاشور أمين عام سابق).
ونتذكر أن هذين التيارين طالما تصارعا للسيطرة على النقابة منذ السبعينيات وتوجيه نضالاتها السياسية، لكن نتذكر أنهما اتفقا على إسقاط حكومة الترويكا بعد الثورة ومساندة الرئيس الباجي؛ لذلك بدا لنا الخلاف الحاليّ منذرًا بعودة الاصطفاف القديم (يسار ضد عاشوريين) ونستشرف أنه سيكون عميقًا وأن المصالحات الداخلية التي كانت تسود بعد كل خلاف ستكون عسيرة، لنفصل بعض وجوه الخلاف الأخير.
أهم محطات الخلاف الأخيرة
كانت قيادة النقابة على قلب رجل واحد في خدمة نظام بن علي وظلت كذلك في حربها على حكومة الثورة التي جاءت بانتخابات 2011، لم تسمح لأحد بالحكم بل تحولت إلى متحكم في المشهد السياسي ومجرياته مستغلة هشاشة المشهد الحزبي واصطفافه ضد الإسلام السياسي (حزب النهضة)، وفي معركة انتخابات 2019 التي بدأت مبكرًا نزلت النقابة بثقلها إلى جانب الرئيس وابنه ووضعت إسقاط حكومة الشاهد هدفًا رئيسيًا.
استغرب الكثيرون انحناءة الأمين العام أمام الشاهد وقبوله العودة إلى البرلمان لحل الخلافات السياسية
كان من أدوات هذه المعركة تقرير لجنة الحرية والمساواة أو ما سيعرف في تونس بتقرير بشرى (رئيسة اللجنة) الذي كان ينتظر الموقف الرجعي لحزب النهضة من مسألة الميراث ليظهر حزب النهضة حزبًا رجعيًا معاديًا للتقدم، لكن الموقف المحافظ جاء من الأمين العام للنقابة؛ مما أصاب جمهور اليسار واللجنة بالذهول، ففي النقابة تيار محافظ غير مستعد لإدخال النقابة في نقاش مسلمات الدين الإسلامي، وكانت هذه أول محطة خلاف، فالنقابة أو على الأقل الأمين العام لن يشارك في معركة حداثة ضد إسلام سياسي.
المحطة الثانية التي أشّرت على عمق الخلاف هو تصريح الأمين العام بعد لقائه برئيس الحكومة حيث قال إن مشاكل الحكم بما في ذلك مسألة استمرار الحكومة من عدمه يحل في البرلمان وليس خارجه، هذا التصريح جاء عكس كل لغة التصعيد النقابي منذ فشلت مفاوضات النقطة 64 من وثيقة قرطاج الثانية التي كانت تهيئ الشارع لإسقاط الحكومة.
للرد على هذا التوجه الديمقراطي الذي أظهره الأمين العام فجأة ودون مقدمات جاءت قرارات الهيئة الإدارية بالتصعيد والدعوة إلى إضرابين عامين في الأيام القادمة والهدف دومًا إسقاط الحكومة.
لقد استغرب الكثيرون انحناءة الأمين العام أمام الشاهد وقبوله العودة إلى البرلمان لحل الخلافات السياسية، لكن إذا ربطنا هذه الإنحناءة بالمكسب الذي حصل عليه الأمين العام في تفاوضه مع نقابة الأعراف بزيادة تعتبر مجزية (6 فاصل 5 بالمائة) نستشف أن هناك تيارًا يشتغل على بقاء الحكومة حتى نهاية مدتها ممثلاً خاصة في نقابة الأعراف التي قبلت بزيادات غير معتادة (كانت الزيادات في عهد بن علي تتراوح دومًا بين 3 و4 بالمائة في أحسن الحالات).
الأجراء الأشد هشاشة هم أجراء القطاع الخاص الذين قبلت لهم زيادة لا تساويهم مهما ارتفعت بأجراء القطاع العام، حيث لا تزال الفوارق في الأجور واضحة
انعقدت الهيئة الإدارية في ظل هذه الأجواء المتضاربة بين تيار الأمين العام العاشوري وتيار اليسار الذي ينطق باسمه سامي الطاهري الأمين العام المساعد من حزب الوطد (الوطنيون الديمقراطيون ضمن الجبهة الشعبية)، ويبدو أن تيار التصعيد هو من فرض موقفه، فصدرت إعلانات الإضراب العام في القطاع العام ثم الإضراب العام في الوظيفة العمومية بحجة حماية القدرة الشرائية للشغالين.
هنا تجلى الاختلاف في تيار التصعيد الذي يمكن نعته بتيار التوريث (توريث ابن الرئيس) مقابل تيار العمل المؤسساتي، فكيف سيدار الصراع في الأشهر القادمة؟
القطاع العام الأسير
صار يقينًا أن النقابة لا يمكنها الاعتماد على أجراء القطاع الخاص لتحريك الشارع، فأصحاب المؤسسات الخاصة لا يولون أي اعتبار للنقابات، والسائد بينهم أنه ليس أسهل من شراء نقابي بسيارة إدارية وممارسات رشوة النقابيين منتشرة بينهم، والنقابة في حقيقة وضعها لا تعمل على توسيع انتشارها في المؤسسات الخاصة لأن إجراءات الاقتطاع الآلي من المصدر (أي تحويل مبالغ الانخراط من الأجر إلى النقابة) لا يتم تطبيقها لذلك يبقى قطاع مؤسسات الدولة هو القطاع الأثقل داخل النقابة والأسهل في التحريك عند الحاجة والذراع التي توجع كل الحكومات.
تكذب النقابة عندما تتحدث عن مطلب حماية الأجراء، فالأجراء الأشد هشاشة هم أجراء القطاع الخاص الذين قبلت لهم زيادة لا تساويهم مهما ارتفعت بأجراء القطاع العام حيث لا تزال الفوارق في الأجور واضحة، ولذلك يقوم ذباب النقابة الإلكتروني الآن بحملة أكاذيب منهجية تتمثل في بث أخبار عن التفويت في المؤسسات ورفع الدعم عن المواد الأساسية، والحكومة تتابع الإشاعات وتنفيها بشكل رسمي لكن الأجواء تهيأت بفعل ذلك للإضراب العام.
لقد نقل الرئيس معركة توريث ابنه إلى داخل الإدارة، هذا جوهر موقف/نتيجة قرارات الهيئة الإدارية الأخيرة، ومهما تسترت النقابة (تيار التصعيد/التوريث) بمطلبية اجتماعية فإن جوهر المعركة يظل إسقاط الشاهد من أجل أن يمر ابن الرئيس إلى سدة الحكم ولو بإحداث أزمة حكم تؤجل الانتخابات إلى أجل غير مسمى وهو ما يريده الرئيس ويعمل عليه تيار اليسار النقابي الذي اشتغل دومًا كعصا غليظة للمنظومة (الممثلة الآن في الباجي وابنه) ضد تيار الإسلام السياسي (الذي وجد نفسه في شق رئيس الحكومة برغبة منه أو بخوف من الفوضى المؤدية إلى إسقاط المسار الانتخابي/الانتقال المؤسساتي)، فهل يفلح تيار التهدئة في إعادة النقابة إلى العمل المؤسساتي؟
متى تتدخل السفارات؟
هذا السؤال العار هو الذي ينتظره التونسيون، هناك مشهد لم يتجل بعد بكامل الوضوح لكن كثيرًا من التونسيين يحللون به المشهد ولديهم حجج تزداد متانة، وهو أن تيار التوريث هو تيار السفارة الفرنسية في مقابل تيار الشاهد (مع النهضة واتحاد الأعراف) وهو تيار السفارة الأمريكية، وقد صار من النكت السمجة والحزينة في تونس أنه كلما ارتفع خطاب السيادة الوطنية انتظر الناس تدخل إحدى السفارتين لتغليب تيار على آخر، السفارتان تختصمان على قيادة البلد فيما النخبة تسوق خطاب السيادة الوطنية.
أسلوب الشاهد التصعيدي ينذر بمعركة كسر عظم مع النقابة
لقد صارت صور السفير الفرنسي في مكتب الأمين العام صورًا عادية تروجها النقابة دون حياء، لا غرابة أن نرى السفير الأمريكي بدوره في مكتب الأمين العام رغم أن احتمال دعوته إلى السفارة أقرب من تلقيه زيارة السفير.
من أوصل البلد إلى هذه الحالة من الهوان؟ لم تعد الإجابة عن هذا السؤال مهمة، فالواقع الآن أن النقابة انقسمت ومن قسمها هو الرئيس لأجل غاية واضحة فعل كل الممكن لقطع مسار سياسي لا يخلد الحكم في بيته وأسرته، وقد التقت مصلحته مع مصلحة اليسار الذي يفعل كل الممكن لقطع الطريق على حزب النهضة.
هل يملك الشاهد في الأيام القادمة وسيلة لإيقاف مسار التصعيد؟ إن أسلوبه الصعيدي ينذر بمعركة كسر عظم مع النقابة، وقد تنتهي المعركة بكسر حقيقي داخل النقابة يتجاوز كل قدراتها على لملمة مواقفها والحفاظ على بنيانها سليمًا (سنختبر في الأثناء مصداقية ما يهدد به من ملفات جزائية لبعض القيادات النقابية).
ليس من السهل بناء توقعات ثابتة للأيام القادمة (كمقدار الاستجابة لدعوة الإضراب العام)، فالجميع منفلت بلا شكيمة في اتجاه السيطرة المسبقة على نتائج انتخابات 2019، لكننا نختصر بألم أن القرار النهائي سيكون في حوار بين السفارتين بينما سنسمع حديثًا كثيرًا عن استقلالية القرار الوطني، هناك على الأقل يقين يترسخ أن هموم الأجراء المفقرين هو آخر هموم النقابة، بعدها سيقول كل من ملك حدًا أدنى من الوعي السياسي دعني أبادر فقري بما ملكت يدي.