مدن الريف المغربي
ارتبط اسم الريف المغربي منذ عقود عدة بالفتوحات الإسلامية نحو أوروبا وحروب التحرير الـ3 ضد المستعمر الأجنبي والحركات الاحتجاجية المتواترة في المنطقة بين الحين والآخر خلال السنوات الأخيرة، فلا نكاد نسمع عن الريف إلا الحركات الشعبية والمسيرات المطلبية والقمع الأمني، في هذا التقرير سنغير الوجهة ونبتعد عن السائد، ونتعرف معًا مميزات هذه المنطقة المهمة في المملكة المغربية.
الامتداد الجغرافي
يقع الريف المغربي في شمال المملكة، يمتد بين مضيق جبل طارق ومدينة طنجة غربًا إلى حدود الجزائر شرقًا مع محاذاة البحر المتوسط، وجنوبًا تتداخل المنطقة مع سهول الغرب ثم سايس، وصولًا إلى مناطق المغرب الشرقية.
تنقسم منطقة الريف إلى 3 مناطق: الريف الغربي ويمتد من طنجة إلى بلدة كتامة، وهي بلدة معزولة في قلب الريف سرت عليها سمعة زراعة القنب الهندي أو الحشيش حتى غطت على غيرها مما هو معروف عنها.
يتمتع الريف المغربي بسلاسل جبلية تجعل منه قِبلة لعشاق المناظر الطبيعية
فيما يمتد الريف الأوسط من كتامة غربًا إلى وادي كرت شرقًا، ويُشكل عمق الريف بتضاريسه الوعرة وهويته الأمازيغية الريفية الخالصة، أما الريف الشرقي فيمتد من أقصى شرق المنطقة إلى حدود الجزائر، وإن كان بعض المهتمين بتاريخ المنطقة يعتبرون أن الريف له امتدادات إلى داخل الجزائر سواء على الصعيد الثقافي أم اللغوي أم الجغرافي.
من أبرز مدن الريف المغربي الحسيمة وتطوان والناضور وشفشاون وطنجة وتاونات، ومن بين مدن المنطقة أيضًا مدينتا سبتة ومليلية اللتان تحتلهما إسبانيا إلى جانب جزر متفرقة على البحر المتوسط تحديدًا، ويطالب المغرب باستردادهما غير أن السلطات الإسبانية تعتبر هذه المدن تابعة لها.
الأمازيغ.. السكان الأصليون
يعتبر الريف المغربي موطن لجزء مهم من الأمازيغ يُسمون “ريافة”، ومنه أخذوا تسميتهم، ويتحدثون “تريفيت” (أحد الفروع الثلاث للغة الأمازيغية بالمغرب)، وينتشر الأمازيغ الريافة في وسط وشرق الريف، كما تتعايش معهم منذ القدم مجموعات أخرى منها صنهاجة وهم أمازيغ كذلك، ويعتقد أن جذورهم البعيدة تعود إلى الصحراء الكبرى التي هي موطن صنهاجة الأول في المنطقة.
“الجبالة”.. خليط من العرب والمورسكيين
إلى جانب الأمازيغ، تقطن الريف مجموعات بشرية أخرى تعرف بـ”الجبالة”، ويطبق هذا الاسم على سكان المناطق الجبلية بمقدمة الريف والأطلس المتوسط الناطقين بالعربية خلافًا لجيرانهم من القبائل الأمازيغية، وهي خليط من العرب والمورسكيين، وهم المسلمون الذين عادوا إلى المغرب واستوطنوه بعد سقوط غرناطة عام 1492 ميلاديًا.
جبال وغابات وشلالات وشواطئ أيضًا
يتمتع الريف المغربي بسلاسل جبلية تجعل منه قبلة لعشاق المناظر الطبيعية، ويعتبر بعض الجيولوجيين جبال الريف وجبال الأندلس وحدة جيولوجية واحدة نتجت عن تصادم الصفيحة التكتونية الإفريقية والأوروبية قبل فترات سحيقة ثم انفصالها لاحقًا.
وتمتد بين الجبال الصخرية غابات شاسعة من أشجار الشوح (التنوب) والصنوبر الأسود، إلى جانب مئات الأنواع من النباتات والحيوانات الفريدة التي سكنت المنطقة منذ مئات السنين، حيث وجدت فيها ملاذًا آمنًا.
جبال الريف المغربي
إضافة إلى جمال أشجارها وحدائقها وزهورها، تمتاز المنطقة أيضًا بشلالاتها وبحيراتها ومائها المتدفق الرقراق في شلالات عذبة تشق الجبال، ومرتفعاتها المكسوة بالزهور والنباتات المتنوعة، بفضل التساقطات الثلجية التي تغمر المكان كل عام في فصل الشتاء، فتجعل منها منطقة فاتنة وساحرة تستقطب السياح الذين يبحثون عن الراحة والهدوء والابتعاد عن صخب المدن الكبرى، وتمنحهم رؤية رومانسية خاصة لحظة تدفق المياه بغزارة.
فضلًا عن سلاسله الجبلية والغابات والشلالات، يمتلك الريف شواطئ ساحرة ممتدة على طول ساحل المتوسط تشكل محجًا لعشاق السباحة والرياضات البحرية، ومناظر طبيعية خلابة تجعل منها وجهة للاستجمام وقضاء أجمل الأوقات رفقة العائلة أو الأصدقاء، وتوصف مدينة الحسيمة عاصمة الريف بـ”جوهرة المتوسط” و”أم شواطئ المتوسط”، لتوافرها على عدة شواطئ جعلت منها وجهة لكل من يبحث عن أوقات ممتعة.
وتعطي شواطئ الريف رونقًا خاصًا للمنطقة تجعل عيون السياح وعدسات كاميراتهم تنجذب إليها، من ذلك شاطئ بوسكور الذي يتميز بمزجه بين صفاء البحر وهدوء الجبل، حيث يمكن لزواره الاستمتاع بمناظر خلابة لن يجدوها في مكان آخر، ومنها جاء أصل تسميته الذي يعني بالأمازيغية طائرة “الحجل”، اللقب يطلقه الريفيون على كل شيء جميل.
تتميز المنطقة أيضًا بعمارتها العظيمة الشاهدة على حضارة كبيرة عرفتها الجهة، عمارة تحكي عن تاريخ الريف العريق والحافل بالأمجاد
إلى جانب شاطئ كيمادو الواقع وسط مدينة الحسيمة على بعد أمتار قليلة من ساحة محمد السادس أحد أروع الشواطئ بـ”جوهرة الريف”، حيث يتميز بصفاء مياهه وهدوئها وجمالية أرجائه التي مزجت بين زرقة البحر واخضرار الشجيرات على جبل “مورو بييخو” المحاذي للشاطئ من جهة اليمين، وألوان المدينة وأصواتها، ويقصده السكان والسياح للاستمتاع بالسباحة والاستجمام وقيادة “جيت سكي”، وهو مكان يستحق الزيارة.
ويعتبر شاطئ أشقار من أفضل شواطئ المنطقة وإن صعب تفضيل أو تمييز واحد على آخر، فهو مناسب جدًا لمحبي الرياضات المائية بكل أنواعها، وفيه أيضًا مغارة هرقل التي توجد على كاب سبارتل، قمة صخرية جبلية على الساحل، تعد المدخل الأساسي لجبل طارق ونقطة التقاء المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وتعتبر مغارة هرقل أكبر مغارات إفريقيا في المنطقة التي تمتد على مسافة 30 كيلومترًا في باطن الأرض، وعبارة عن كهف عميق مظلم وله فتحة مضيئة تتخذ شكل القارة الإفريقية.
عمارة عظيمة
تتميز المنطقة أيضًا بعمارتها العظيمة الشاهدة على حضارة كبيرة عرفتها الجهة، عمارة تحكي عن تاريخ الريف العريق والحافل بالأمجاد، فهناك يوجد الماضي والحاضر جنبًا إلى جنب في نفس الوقت بدرجة متساوية.
في تطوان مثلًا يظهر المعمار الأندلسي جليًا، بدوره المسقفة بالقرميد ونوافذه الخارجية، حيث توجد قصبة سيدي المنظري، بقايا سور يبلغ طوله 65 مترًا ويرتفع على علو 7 أمتار، تلتصق به 3 أبراج ترتبط فيما بينها عبر ممر حراسة يتم الدخول إليه عبر درج بجانب باب القصبة، التي بنيت خلال القرن الـ15 من طرف مؤسس المدينة الأول أبو الحسن علي المنظري، وكانت مقرًا للحكم وقاعدة عسكرية لمراقبة كل التحركات الخارجية والممرات التجارية انطلاقًا من أحد أبراجها.
قصبة “سيدي المنظري”
في طنجة تقف القصبة التي تحتوي على قصر واسع مشيد (تحول إلى متحف) وجامع مميز ذي مئذنة مثمنة الأضلاع فوق قمة الربوة الصخرية المطلة على الساحل، قصبة كانت تشكل في وقت مضى نقطة مهمة للالتقاء وتبادل الثقافات، وتحتضن أهم متاحف المدينة “متحف القصبة” ويمكن الولوج إليها من السوق الصغيرة أو من برج البارود، وتعتبر من الأمور الإلزامية لكل سائح مُحب للسياحة، فهي من أهم ما تقدمه هذه المدينة لعدسات الكاميرا.
ومن مآثرها أيضًا، رأس المنار المشرف على مجمع البحرين وجبل الشرف المطل على المدينة وعلى البحر وضاحية مرشان المواجهة لبعض مدن الأندلس وجبالها، ورأس سبارطيل المشرف على المحيط الأطلسي، وفيه المنار البحري العظيم والمدافع المنتصبة في بعض جهات المدينة التي لطالما قاتلت في الماضي وقصفت الغزاة.
أما في مدينة شفشاون التي اختارت أن تُحيك لنفسها ثوبًا وترتديه، تزاوجت فيه ألوان السماء والشلالات المحيطة، فانعكست بكل زرقتها على أرض هذه المدينة الصغيرة الواقعة بين أحضان الجبال، فنجد القصبة التي تعد النواة الأولى لشفشاون وأحد رموزها الثقافية والفنية، أين كانت الإدارة والمخزن والسجن والجيوش، محاطة بسور تتوسطه 10 أبراج على النمط المعماري الأندلسي الذي يجمع بين البساطة والتناسق.
يتميز لباس النساء في معظم مدن الريف بحمولته الثقافية الأندلسي، فكثير منهن ما زلن يلبسن لباسًا يشبه لباس نساء غرناطة
تحتوي القصبة – إضافة إلى فضاءات الخزف الريفي ومنتجات الحرف التقليدية وقطع الحلي – على حديقة كبيرة مُزينة بحوضين، عدا المتحف الإثنوغرافي الذي يعتبر أهم معلم ثقافي في المدينة، حيث يعرض المتحف لوحات تاريخ المدينة من خلال لوحات فنية قيمة، كما يعرض أيضًا الزي التقليدي لسكان شفشاون، بالإضافة إلى بعض الآلات الموسيقية الأندلسية القديمة.
عادات وتقاليد ظلت راسخة رغم تقدم الزمن
تحتفظ الكثير من مناطق الريف بالعديد من التقاليد التي تميزها عن باقي مناطق المملكة، من ذلك الزفاف الريفي التقليدي الذي يترجم تمسك أهل المنطقة بجذورهم وعاداتهم المحافظة، ويستمر الزفاف مدة 3 أيام انطلاقًا من يوم الإثنين، بينما تختار بعض القبائل الريفية بداية احتفالاتها يوم الجمعة اعتقادًا منهم ببركة هذا اليوم لما له من دلالات دينية.
خلال أول أيام العرس تجتمع النساء في بيت العريس، حيث يتحلقن حول حفنة من القمح الذي وضع في وسطه صحن مليء بالماء وبيضتين، وخلخال والدة العريس المصنوع من الفضة، تشرع النساء في الغناء بينما تقوم والدة العريس بالرقص حافية القدمين فوق القمح، بعد انتهاء الحفل يُجمع القمح، بينما تحتفظ الأم بالبيضتين اللتين سيتم تناولهما من طرف الزوجين.
اللباس الفلوكلوري الأمازيغي
يتميز لباس النساء في معظم مدن الريف بحمولته الثقافية الأندلسية، فكثير منهن ما زلن يلبسن لباسًا يشبه لباس نساء غرناطة، فهن تتزين بالمنديل المورسكي المخطط غالبًا بالأحمر والأبيض يسمى “أتازير”، ويعتمرن “الشاشية” وفوطة بيضاء توضع على الكتف، وحزام يربطن به المنديل يسمى الكرزية، في حين ظل لباس الرجال مشابهًا للباس المغاربة المحلي والمتمثل بصفة خاصة في البرنس والحايك.
في زيارتك للريف، لابد أن تأكل أكْلة “القواقع” (الحلزون)، ويعد هذا الطبق اللذيذ بطريقة فريدة بعد خلطه بمجموعة من الأعشاب والزيتون، كما أن لمرق الحلزون نكهة خاصة، والحلزون الذي يختبئ في النهار ويخرج في الصباحات الباكرة يتم العثور عليه وفق عملية بحث منظمة تشبه رحلات صغيرة لصيده وجمعه، ومن ثم بيعه لأصحاب العربات أو يجلب لطبخه في المنازل.
عُرف الريف المغربي بزراعة وتجارة “القنب الهندي”، والذي يتم تهريبه إلى أوروبا بشكل كبير
كما يجب أن تأكل من الأكلة الشعبية التي يطلق عليها اسم “البوكاديوس” التي عرفت لفترة طويلة على أنها طعام للفقراء، إلا أنها الآن أصبحت وجبة للجميع، وهي عبارة عن نصف رغيف خبز محشو بمصبرات السمك، بالإضافة إلى البصل والطماطم والبطاطس والبيض والفلفل الأخضر والباذنجان والأرز، ويمكن إضافة الفلفل الأحمر الحار لمن أراد، إنها أكلة سريعة الإعداد لذيذة وشهية.
القنب الهندي.. التجارة الرائجة
إلى جانب كل هذا، عرف الريف المغربي بزراعة وتجارة “القنب الهندي” وتهريبه إلى أوروبا، وتستغل مافيا المخدرات القرب الجغرافي لأوروبا والمسالك البحرية والبرية والجوية المتوفرة لتهريب المخدرات، وتقول دراسات مغربية إن 40% من القنب الهندي المستهلك عالميًا مصدره المغرب، كما أن 80% من الاستهلاك الأوروبي لهذه المادة يأتي من المغرب.
يعيش مئات الآلاف من سكان مناطق الريف وجباله شمال البلاد من المداخيل المالية الكبيرة التي تدرها زراعة الحشيش، ويقول العديد من المواطنين في مدن الريف المغربي إن لا شغل لهم سوى زراعة الحشيش، فطبيعة التربة وثقافة المنطقة لا تسمح له بالعمل في أي مجال آخر غير زراعة القنب الهندي، وبفضل الحشيش أصبح شمال المغرب ثاني أغنى مناطق المملكة رغم أنه إقليم مهمَش منذ فترة حكم الملك الحسن الثاني.
انتشار زراعة الحشيش في الريف
تفيد تقديرات أهلية بأن أكثر من 50 ألف شخص من السكان المحليين في المناطق التي يزرع بها القنب الهندي، صدرت بحقهم مذكرات اعتقال من السلطات الأمنية المحلية بتهمة زراعة المخدرات والاتجار غير المشروع بها، في إشارة إلى القنب الهندي، وتعود زراعة الحشيش في مدن الشمال المغربي إلى القرن الـ12 الميلادي كما يقول الأهالي هناك.
وفي 6 من فبراير/شباط 1917 تم إصدار قانون تم بمقتضاه الترخيص لقبائل كتامة وبني سدات بإقليم الحسيمة ولبني خالد بإقليم شفشاون في الريف المغربي، بزراعة “الكيف”، بشرط ألا يبيع المزارعون محاصيلهم إلا لشركة احتكار الدخان في المغرب.
أخيرًأ، هذه هي أبرز سمات الريف المغربي التي كان يجب أن تعرفها عزيزي القارئ، فما هو أكثر شيء شد انتباهك حوله، خاصة وإنه جمع كل هذه المتناقضات في رقعة جغرافية واحدة.