“محارب على أربع”.. الصهيونية والكلب الاستعماري في فلسطين

في أواسط نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أي بعد نحو شهرين من الطوفان وبدء حرب الإبادة على قطاع غزة، تجمع العشرات من الإسرائيليين من بينهم مجندين ومجندات يعلو التوتر وجوههم، أمام باب إحدى غرف العمليات في مستشفى “شامير – آساف هاروفيه” في مدينة بير يعقوب من ضواحي تل أبيب جنوبًا، مترقبين مصير “مايكي”.

بعد ساعتين، فُتح باب غرفة العمليات، وشقت طبيبة طريقها من بين المتجمعين تحمل بين ذراعيها “مايكي”، فيما علا تصفيق المتجمعين وهتافهم لنجاة هذه الأخيرة. كانت مايكي كلبة أُصيبت بانفجار عبوة ناسفة في يوم 12 يناير/ كانون الثاني بعد أن تقدمت كتيبة عسكرية اقتحمت شقة سكنية في شمالي قطاع غزة.

خضعت الكلبة “مايكي” لعناية طبية بحسب تقرير مصور على “قناة 12” العبرية نُشر في أواخر الشهر نفسه، نُقلت فيها الكلبة على مدار أيام لأكثر من مشفى وعيادة بيطرية في ضواحي تل أبيب، إلى أن استقرت في بيت أحد مجندي وحدة “عوكيتس/ اللدغة”، الوحدة المختصة بتدريب ومرافقة كلاب الحرب في جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث الطريقة التي تتقاعد فيها الكلاب المحاربة بعد خروجها من الخدمة إذا ما نجت فيها.

أكثر من 100 كلب وكلبة شاركت مع جيش الاحتلال وتقدم كتائبه في حرب إبادته على القطاع منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بحسب تقرير نشره موقع “لإيشاه” الإلكتروني التابع لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية في أواخر أغسطس/ آب الماضي.

ومثلما ينتج الإسرائيليون لقتلى ومصابي حرب الإبادة الدائرة من صفوف جيش الاحتلال في القطاع قصص وحكايات تضمّنت احتفاءات “البطولة” و”التمجيد” على مدار أيام عام الحرب، فإن لـ”المحاربين على أربع” من كلاب وحدة عوكيتس نصيبًا من ذلك “التمجيد”، لدور مخالبها تنغرس في صدر الحاجة دولت عبد الله الطناني في بيتها في مخيم جباليا، وأنيابها تنهش وجه الشاب محمد صلاح بهار المصاب بمتلازمة داون على أريكته في وسط بيته في حي الشجاعية، إلى أن مزّق الكلب جسد بهار شهيدًا.

لكلاب وحدة “الكلفانيم” أو ما يُعرف بـ”عوكيتس” في جيش الاحتلال دور وحشي لا يقلّ وحشية عن سوّاسها وممارساتهم، لا بل أوكلت كلاب الوحدة بمهمات في القطاع وسجون الاحتلال، لم يسبق أن أوكلت لها من قبل، تماهيًا مع ممارسات جيش الاحتلال غير المسبوقة في وحشيتها تجاه أهالي القطاع وأسرى السجون، وصلت إلى حد تدريب الكلاب على اغتصاب الأسرى، بحسب ما نقل المحامي خالد محاجنة، نقلًا عن موكله الصحفي المعتقل محمد عرب في معتقل سديمه تيمان قبل شهور.

استدعانا ذلك إلى تقريرنا هذا، في رصد سيرة “الكلب الاستعماري” المعروف صهيونيًا بـ”المحارب على أربع” في السياق الاستعماري لفلسطين منذ ما قبل النكبة.

كلاب جنوب أفريقيا في فلسطين

“ألححت قائلًا: لكن ما من دليل على وجود صلة لأولئك الناس بكمين البارحة. اعترته الدهشة، ثم قال بنبرة معترضة: بالله عليك يا رجل! ألم تقدنا الكلاب إلى هناك؟”، كان ذلك من حوارٍ طويل دار بين ضابطين من كبار ضباط البوليس الإنجليزي على أبواب قرية إجزم المهجرة في صيف عام 1938 من سنوات الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939).

وذلك بعد يومٍ على كمينٍ نفّذه ثوار لاذوا بالقرية، بعد أن أسفر عن مقتل ضابط في سلاح الجو البريطاني وإصابة عابرة سبيل بريطانية بحسب ما يروي ماثيو هيوز في كتابه “الاستعمار البريطاني وإجهاض الثورة العربية الكبرى في فلسطين”، حيث ترتب عن ما دلت عليه كلاب الأثر في إجزم، اقتحام دوريات الجيش البريطاني القرية والعيث فسادًا فيها وقتها. 

استعان الجيش البريطاني بالكلاب المدربة وخصص لها سوّاسًا من عناصره، منذ بداية انتدابه على فلسطين في عشرينيات القرن الماضي، وكانت الكلاب المستوردة من جنوب أفريقيا هي الأشهر في حينه، ليس لأنها مهجّنة في جنوب أفريقيا، بل كان معظمها من نوع الدوبرمان الألماني، إنما لأن سوّاسها كانوا من المجندين الجنوب أفريقيين في الجيش البريطاني في فلسطين، حيث كانوا سوّاس الكلاب “يرتدون ملابس مدنية ويتحزمون بمسدسات ويتميزون بالقبعات الجنوب أفريقية العريضة الحواف، ويكلمونها باللغة الأفريقانية فتنقض على الحناجر”، بحسب ما يروي هيوز في كتابه. 

مع انطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) لعبت الكلاب الجنوب أفريقية في البوليس البريطاني دورًا أساسيًا في اقتفاء وتعقُّب أثر الثوار الفلسطينيين تحديدًا، كما ساهمت كلاب الأثر في بناء التصنيف الاستعماري الذي أقامه الجيش البريطاني لقرى فلسطين، بين قرى “طيبة” وأخرى “شقية أو شريرة”.

حول ذلك التصنيف وإدانة القرى الفلسطينية خلال سنوات الثورة، يقول هيوز: “عمدت السلطات البريطانية إلى الإدانة المسبقة أو الحكم بناءً على الانتماء الطائفي، أو القرب من مسرح الجريمة، أو حاسة الشم لدى الكلاب”، إذ كان يكفي أن يقصَّ كلب بوليس الانتداب الأثر متجهًا نحو قرية فلسطينية ما، كي يجعلها في قفص اتهام سلطات الانتداب في حينه. 

“قامت الكلاب بعمل رائع، لكنها للأسف لا تستطيع تقديم الأدلة في المحاكم حسب القانون”، يقول الفريق أول أورشيبالد ويفل الذي شارك في حملات إجهاض الثورة، وذلك لأن الكلب إذا ما اقتفى الأثر نحو بيت أو حقل أحدهم، لم يكن يعتبر ذلك دليلًا كافيًا على إدانة صاحب البيت أو الحقل بالنسبة إلى قضاء سلطات الانتداب في فلسطين وقتها.

إلا أن الأمر كان مختلفًا بالنسبة إلى دوريات الجيش الإنجليزي، إذ كان مرور الكلب من جانب أحد البيوت أثناء اقتفائه الأثر دليلًا كافيًا لنسفه، بحسب ما يروي الحاج سامي أحمد خطاب في مقابلة معه عن قريته عين الزيتون من قضاء صفد على موقع “فلسطين في الذاكرة”، والذي شهد نسف عدة بيوت في قريته خلال حملات الدوريات الإنجليزية عليها.

في روايات التاريخ الشفوي عن سنوات الثورة الكبرى، إشارات متكررة لدور كلاب الإنجليز في تعقب الثوار واقتفاء أثر السلاح في مداهمات التفتيش والأطواق العسكرية التي كان ينفّذها الجيش على القرى والمدن الفلسطينية، وقد ابتكر الأهالي في حينه وسائل تقليدية للتحايل على الكلاب الاستعمارية أثناء دخولها الأحياء والبيوت.

الحاجة حليمة المنسي من قرية العبيدية في قضاء طبريا، تروي في مقابلة معها على “موقع فلسطين في الذاكرة”، بينما كانت طفلة صغيرة في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، عن يوم قيام والدها في أواخر الثورة الكبرى ببعثرة الفلفل الحار على عتبة بيتهم عند وصول إحدى دوريات السلطات الاستعمارية لتفتيشه بصحبتها كلب أثر، في محاولة منه للتحايل على هذا الأخير كما تروي، لأن الفلفل الحار يساعد على تعطيل أو التشويش على حاسة الشم لدى الكلاب.

الاستخدام الصهيوني: تاريخ متقطع

قلّما أشارت التقارير والمصادر إلى استخدام الصهاينة للكلاب المدربة في سطوهم المسلح على فلسطين في النكبة عام 1948، وحتى الذاكرة الشفوية الفلسطينية عن أحداث الاقتلاع والتهجير، يكاد يكون ذكر اصطحاب العصابات الصهيونية للكلاب المدربة شبه معدوم، على خلاف أحداث الثورة الكبرى (1936-1939) كما بيّنا سابقًا.

مردّ ذلك أن الصهاينة لم يسعوا في عام النكبة إلى التعقب والتفتيش في المدن والقرى الفلسطينية، إنما للتخلص من أهلها بطردهم وتهجيرهم، ما يعني أنه ليس من دور للكلاب المدربة يستدعي استخدامها في عمليات التطهير وقتها. عدا عن أن الصهيونية لم تكن قد تحولت إلى سلطة حكم ودولة إلا بعد ذلك العام، مع العلم أن أول تأسيس لوحدة “الكلفانيم/مدربي الكلاب” الصهيونية يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي.

أنشأ الصهاينة في عام 1939 أول وحدة كلاب للاستخدام الأمني، أطلق عليها في العبرية “إرغون نوهجيه كلافيم” أي “منظمة مشاة الكلاب”، كانت تتبع لمنظمة الهاغاناه العسكرية في حينه، غير أن تقرير يؤرّخ لتاريخ وحدة مدربي الكلاب نُشر على موقع “عموتات هولخيم باروش” العبري، يشير إلى أن توظيف الكلاب لأغراض استعمارية صهيونية يعود إلى عام 1934، مع إقامة دورات تعليمية برعاية منظمة الهاغاناه لتدريب عناصر من يهود المستوطنات، كي يكونوا سوّاسًا للكلاب بغرض حماية الاستيطان العبري في فلسطين، والتي أفضت إلى إقامة منظمة “مشاة الكلاب” في العام 1939.

وفي سياق حلّ ودمج المنظمات الصهيونية العسكرية، فيما صار يُعرف بـ”جيش الدفاع الإسرائيلي” أواخر عام 1948، تم دمج أيضًا منظمة “مشاة الكلاب” في الجيش وأطلق عليها بعد دمجها اسم “وحدة خدمات الكلاب”، كانت مهماتها في حينه تقتصر على مهمات عسكرية محدودة، متصلة بالتعقب واقتفاء أثر ما يُعرف في العبرية بـ”مستننيم” أي “المتسللين” الفلسطينيين الذين كانوا يتسللوا من خارج فلسطين إلى قراهم وبلداتهم التي طُردوا منها في أحداث النكبة، إلا أنه اتُّخذ قرارًا في الجيش بحلها وتفكيكها نهائيًا في العام 1954. 

“محارب أو محارب يهودي بصحبته كلب ليس بالأمر الجيد…”، يقول أحد ضباط وحدة مدربي الكلاب “عوكيتس” في تقرير متلفز نُشر على “القناة 13” العبرية بعنوان “محارب على أربع: القصة كاملة”، محاولًا تفسير السبب وراء حل وتفكيك “وحدة خدمات الكلاب” في الجيش العام 1954، ليقتصر استخدام الكلاب المدربة على الأجهزة الأمنية الداخلية مثل الشرطة.

ورغم أن للمرجعية الدينية اليهودية موقفًا من الكلاب واستخدامها متصل بنجاستها، إلا أنه ليس للعامل الديني دور في التخلي عن استخدام الكلاب المدربة في الجيش، لا بل رفضت قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي المعلمنة توظيف الكلب لأسباب متصلة بالشرف العسكري الذي لا يستحسن استخدام الكلاب فيه.

بالإضافة إلى ما كان يُحيل إليه الكلب المدرب في ذاكرة المحرقة اليهودية، حيث استخدم النازيون الألمان وحدات كلاب مدربة في إخافة اليهود وتعذيبهم، وتحديدًا في معسكرات الاعتقال، ما ولّد موقفًا سلبيًا من استخدام الكلاب في مهمات عسكرية رسمية، بحسب التقرير “محارب على أربع: القصة كاملة”. 

العودة السرّية لتوظيف الكلب

ظلت الكلاب بعيدة طوال عقدي الخمسينيات والستينيات عن جيش الاحتلال ووحداته، فيما كانت تشهد فلسطين بعد إقامة الدولة العبرية على أنقاضها طفرة في أنواع الكلاب التي جلبها المستوطنون اليهود معهم من أوروبا، والتي لم يألفها الفلسطينيون من قبل.

اللافت أن العرب في البلاد والمنطقة عمومًا بات بعضهم منذ خمسينيات القرن الماضي يُطلق أسماء عبرية على كلابهم، ففي مذكراته “دفاتر فلسطين” يروي الشاعر الفلسطيني معين بسيسو أثناء اعتقاله مطلع الخمسينيات في السجون المصرية، عن كلبة استخدمها السجانون المصريون في ضبط المعتقلين الشيوعيين وترويعهم، أطلقوا عليها اسم “جولدا” نسبة إلى رئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير.

كما أطلق الصهاينة بدورهم على كلابهم أسماء عربية، في واحدة من مظاهر العداء والتحقير المتبادلَين بين العرب والصهاينة منذ تلك الفترة.

أُعيد إنشاء وحدة مدربي الكلاب “كلفانيم” سنة 1974، غير أنها ظلّت وحدة سرية مُتكتمًا عليها إلى بعد أكثر من عقد من الزمن، واتصلت هذه العودة لإحياء العنصر الحيواني في جيش الاحتلال عبر استعمال الكلب استعماريًا، باحتلال “إسرائيل” الضفة الغربية وقطاع غزة منذ حزيران/ يونيو 1967.

إذ استدعت سياسات وممارسات الرقابة والضبط ومواجهة العمل الفدائي الفلسطيني الحاجة للكلاب المدربة في الجيش لمهمات مختلفة، كان أبرزها إسناد وحدة الاستخبارات العسكرية 269 في حينه -“سييرت متكال” لاحقًا- في مواجهة ما يصفه الصهاينة بالعمل “الإرهابي” أي العمل الفدائي، وقد أُطلق على وحدة الكلاب وقتها رقمًا تسلسليًا الوحدة 7142، ومقرها كان في “معسكر سيركين” أو “قاعدة ألون” في مستوطنة بيتح تكفا.

كانت أول مهمة عسكرية اُستخدمت فيها وحدة 7142  عملية “فندق سافوي” في 5-6 مارس/ آذار 1975 بتل أبيب، التي نفّذها مجموعتان فدائيتان من حركة فتح، ردًّا على عملية الفردان في بيروت، التي استشهد فيها كل من كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار.

استولى حينها الفدائيون على الفندق واحتجزوا بداخله مجموعة من الرهائن، وطالبوا بإطلاق سراح الأسرى المعتقلين في السجون الإسرائيلية. في تقرير عن تلك العملية، تضمن وثائق مكتوبة وأشرطة صوتية مسجلة كُشف عنها، ونُشر على موقع “N12″ التابع لـ”القناة 12” العبرية في تاريخ 2015 نيسان/ أبريل 2، يشير إلى دور كلاب وحدة 7142 المدربة في مساعدة وحدة “سييرت متكال” العسكرية في تخليص الرهائن من أيدي الفدائيين الفلسطينيين المتحصنين في الفندق.

وكذلك اُستخدمت الوحدة بعد عام على العملية الأولى، في عملية تخليص رهائن عنتيبي الشهيرة في يوم 4 تموز/ يوليو 1976 في مطار أوغندا. 

ارتبطت مهمة الكلاب المدربة في وحدة 7142 وقتها، في عمليات تخليص الرهائن المحتجزين التي كان ينفّذها الفدائيون الفلسطينيون، من خلال دورها في تحديد مكان المُختَطفين مع الفدائيين “الخاطفين” في موقع العملية والتشويش على هؤلاء الأخيرين. ومع ذلك، ظلت قيادات في جيش الاحتلال الإسرائيلي والمستوى العسكري عمومًا، غير مقتنعين بفاعلية الكلب استعماريًا وتوظيفه رسميًا في وحدات الجيش، وظلت الوحدة سرية.

لم يكن نوع مخصص من الكلاب تعنى به وحدة الكلفانيم 7142 عند إنشائها أواسط السبعينيات، بحسب ما جاء على لسان أحد ضباط مدربي الوحدة في تقرير “محارب على أربع: القصة الكاملة”، إذ اعتمدت الوحدة على كلاب من أنواع مختلفة منها، الروت وايلر أو الرُتفلير (Rottweiler) الألماني، والذي يُنسب في تسميته إلى مدينة رُتفيل الألمانية، وكلب البولماستيف (Bullmastiff) الأمريكي، فضلًا عن الدوبرمان (Dobermann) والوولف (Wolf dog). 

بين سقوط القناع وارتدائه

مع الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، شاركت وحدة الكلاب “الكلفانيم” في الحملة العسكرية، وقد تحولت تسميتها في تلك الفترة من الرقم التسلسلي 7142 إلى اسم “هكلفياه” في حينه، وتعني “بيت الكلب”. كما اُستخدمت الوحدة في مهمات عسكرية نُفّذت في الضفة والقطاع مطلع الثمانينيات في ظل الاحتلال الإسرائيلي للقطاع، بحسب ما ورد في التقرير على موقع “عموتات هولخيم باروش”.

ظلت وحدة الكلاب ومدرّبيها سرية إلى أن كان عام 1988، حين نفّذت قوة صهيونية من وحدة الكوماندوز عملية في 8 ديسمبر/ كانون الأول، عُرفت إسرائيليًا بعملية “كَحول فِحول” (أزرق وبني)، هاجمت فيها مجموعة فدائية تتبع للجبهة الشعبية كانت تتحصن في مغاور تلال الناعمة في لبنان.

استعانت حينها القوة المهاجمة بكلاب من وحدة “الكلفانيم” كانت مفخّخة ومدرّبة لتنفجر عند مدخل المغارة، بحسب ما كتب نجم الهاشم في مقالته “رحل أحمد جبريل… لماذا تبقى قواعده؟”.

غير أن غيل بيندر، أحد الضباط الصهاينة من وحدة “الكلفانيم” الذين شاركوا في العملية، يروي في التقرير المتلفز “محاربين على أربع…” أن الكلبَين اللذين اُستخدما في العملية، وهما من نوع روتفيلر، كانا يحملان على ظهريهما قنابل غاز -وليست متفجرة- موصولة بجهاز سلكي مع القوة المقتحمة، تم تفعيل قنابل الغاز بعد اقتحام الكلبان المغارة بغرض خنق الفدائيين وإخراجهم منها لتصفيتهم.

فشلت تلك العملية، وقُتل ضابط الوحدة المهاجمة ومعه الكلبان. في اليوم التالي كانت الصور الملتقطة عن العملية المحبطة والكلبَين ممددين على الأرض بعد أن أرداهما رصاص الفدائيين تملأ الصحف العبرية والعالمية كذلك، “هل تستعمل قواتنا الكلاب؟” تساءل الإسرائيليون مستغربين، لينكشف أمر وحدة “الكلفانيم”. وفي الوقت الذي عُرف عن وجود وحدة للكلاب ومدرّبيها في جيش الاحتلال الإسرائيلي، صار مدرّبو وسوّاس الكلاب يقودونها مقنّعين. 

مأسسة “العضة”

طوال عقدَي السبعينيات والثمانينيات، لم تكن وحدة الكلاب ومدربيها “الكلفانيم” الصهيونية منظمة وممأسسة بالشكل الذي صارت عيه لاحقًا، إذ لم تكن تعتمد على نوع معيّن من الكلاب لتدريبها في تلك الفترة، ولا مهام بعينها يدرّبون الكلاب عليها. لا بل اعتمدت أنواع مختلفة من الكلاب مثل الروتفلير والدوبرمان وغيرهما، التي كان يمنحها أصحابها المواطنين هبةً للوحدة، بسبب شراستها أو خوفًا عليها من السرقة، بحسب ما يذكر أمير شفيرتس أحد ضباط وحدة “الكلفانيم”.

يضاف إلى ذلك أن الوحدة كانت لا تزال تفتح أبواب التطوع في صفوفها أمام مربّي كلاب مدنيين يتطوعون ومعهم كلابهم التي درّبوها بأنفسهم في وحدة “الكلفانيم”، ومن بين الذين تطوعوا في الوحدة خلال سنوات الانتفاضة الأولى، كانت المجندة الصهيونية دوريت دامفن التي لم تكن مجندة أصلًا، إلا بعد أن تقدمت بكلبتها المدربة “كيتي”، مقترحة على وحدة مدربي الكلاب “الكلفانيم” التطوع معهم والخدمة في الأراضي المحتلة في الضفة والقطاع.

كانت مهمة الكلاب في حينه تعقب واقتفاء أثر مطلوبي الانتفاضة الأولى الفلسطينيين في الضفة والقطاع، كما كان تطوع أصحاب الكلاب الخاصة مع الوحدة في مطاردة وترويع فلسطينيي الأراضي المحتلة كتجربة “متعة وتشويق”، بابًا للالتحاق رسميًا في صفوف جيش الاحتلال، كما تروي دامفن في مقابلة معها ضمن تقرير “محاربون على أربع…”.

مع مطلع التسعينيات وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، بدت تتضح لقيادات وحدات جيش الاحتلال الحاجة إلى الكلاب المدربة للكشف عن الألغام والعبوات الناسفة التي كانت تزرعها المقاومة في طريق جيش مشاة الاحتلال في جنوب لبنان، حيث كان يُقتل بمعدل 19 جنديًا إسرائيليًا في كل عام بسبب الألغام، وقد أخذت وحدة “الكلفانيم” دورًا أكبر في إسناد وحدات الجيش منذ ذلك الحين.

ومنذ مطلع التسعينيات أخذت الوحدة تتخلى تدريجيًا عن أنواع الكلاب سريعة التعب مثل الروتفيلر والبولماستيف، والبحث عن كلاب أقل حجمًا وأخف وأكثر سرعة وأبطأ شعورًا بالتعب، إلى أن اعتمدت وحدة “الكلفانيم” في سنة 1994 كلب كلب الراعي البلجيكي الذي أصبح كلب وحدة “الكلفانيم” الرسمي إلى يومنا.

كما في العام نفسه اتخذت الوحدة اسمها الشهير “عوكيتس” وتعني حرفيًا “اللدغة” تخفيفًا لعضة الكلب، واللافت في أحد أسباب تخلي الوحدة عن أنواع الكلاب الضخمة سريعة التعب هو مناخ قطاع غزة، بحسب ما يروي ضابط وحدة “عوكيتس” أمير شفيرتس، حيث مناخ القطاع الساحلي الجاف الذي بات يتطلب احتلاله كلابًا مدربة أخف سرعة وأصغر حجمًا وأبطأ تعبًا، كما يروي في التقرير نفسه.

منذ اندلاع الانتفاضة الثانية مطلع القرن الحالي، “يعلم الفلسطيني بأننا نأتيه على 6 أقدام”، يقول أحد الضباط من مدربي وحدة “عوكيتس”، في إشارة إلى الكلب المحارب على أربع برفقة سائسه (قائده) من مجندي الوحدة خلال المداهمات الليلية لبيوت الفلسطينيين، حيث أوكلت للكلاب المصطحبة مهمات مثل تمشيط الموقع المستهدف أمام القوة المداهمة، واقتفاء رائحة السلاح والمواد المتفجرة، فضلًا عن استخدامها على الحواجز العسكرية داخل الأراضي المحتلة عند تفتيش المركبات العربية، وركابها منذ سنوات الانتفاضة الثانية وبعدها.

“عوكيتس” في حرب الإبادة على غزة

لم تخلُ روايات اختراق الطوفان يوم السابع من أكتوبر مستوطنات غلاف قطاع غزة، من الإشارة إلى كلاب بيوت المستوطنات كجزء من ضحايا الطوفان، لا بل أعدّ الإسرائيليون على مدار شهور الحرب تقارير مكتوبة منها ومصورة، خصّت وروت عن دور اعتبروه استثنائيًا قامت به تلك الكلاب في الدفاع عن بيوت مستوطنيها.

كان آخرها مقالة نشرتها صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية بمناسبة “يوم الكلب العالمي” الذي يصادف تاريخ 26 أغسطس/ آب، حملت المقالة عنوان “أبطال على أربع في يوم السابع من أكتوبر”، أشارت إلى كلاب حمت أصحابها في مستوطنات الغلاف يوم الطوفان، وأخرى قُتلت برصاص المهاجمين، بأسمائها وكامل سيرتها كما لو كانت بشرًا، فضلًا عن الكلاب التي التحقت بالحرب على القطاع ومآثر وحشيتها بلحم سكان القطاع.

ما يزيد عن 100 كلب وكلبة مدربة، زجّت بها وحدة “الكلفانيم” في إسناد وحدة المظليين وغيرها من وحدات جيش الاحتلال في غزة منذ بدء حرب الإبادة عليها. وبحسب يوئاف زيتون في تقرير له نُشر على موقع “واي نت”، التابع لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية في يونيو/ حزيران الماضي، فإن أكثر من 30 كلبًا من كلاب وحدة “الكلفانيم” قُتلوا في غزة برصاص القسّام أو بعبواتهم الناسفة حتى تاريخ نشر التقرير.

وبحسب التقرير، فمن المتوقع أن تتضاعف وحدة الكلاب بكلابها ومدربيها إلى الضعفين خلال العامين القادمين، وذلك نظرًا إلى الدور الوحشي (الفعّال بنظرهم) الذي تؤديه كلاب الوحدة في حرب الإبادة على القطاع.

تستخدم وحدة “الكلفانيم” في الحرب كلاب مجهزة ومحملة بأحدث التقنيات لمهمات عسكرية أمنية، ووحشية انتقامية في الوقت نفسه، ففي الجانب العسكري الأمني تنبّه الكلاب سوّاسها وقوات المشاة خلفها من أي طارئ محتمل حولها.

كما تمسح الكلاب أمام وحدة المظليين المواقع المستهدفة مثل المباني المهجّر سكانها منها، وركام أنقاض البيوت المهدمة حيث مهمة الكلب الكشف بحاسة شمّه عمّا إذا وُجدت مواد متفجرة أو عبوات زُرعت في طريق القوات المهاجمة أو المقتحمة.

فضلًا عن دور الكلب في تنبيهه القوات خلفه وتحييدها من الكمائن التي قد تُنصب لها داخل الأحياء وأزقتها، والأهم من كل ما سبق الدور الذي أنيطت به كلاب وحدة “الكلفانيم” في الكشف عن أنفاق المقاومة ومداخلها في القطاع خلال الحرب.

ما كان لجيش الاحتلال كشف بعض الأنفاق ودخوله بعضها بحسب التقارير والفيديوهات التي نشرها الجيش خلال حربه على القطاع، لولا كلاب وحدة “الكلفانيم”، التي كانت أول من اكتشفتها ودخلها، حيث يجهّز الكلب في مهمة الكشف عن النفق محمّلًا بأحدث التقنيات منها كاميرا مثبتة على ظهره، وأجهزة تنصت واستشعار بغرض جسّ بيئة النفق والتحقق ممّا في داخله.

كما يُذخّر الكلب في بعض الأحيان بقنابل غاز تُفعّل بعد دخوله النفق، إذا ما أعطت الأجهزة المحملة عليه إشارة إلى وجود أحدهم في النفق، ما يحول الكلب قربانًا في هذه الحالة. كانت معظم الكلاب التي “قضت” بحسب تقرير يوئاف زيتون، قد قُتلت في هذه المهمة “الكشف عن النفق واستكشافه”.

من جانب آخر، تستخدم كلاب وحدة “الكلفانيم” في الحرب الدائرة على غزة، بدرجة من الوحشية بما يجعل الكلب أداة من أفظع وأبشع أدوات الانتقام الوحشي الذي يمارسه جيش الاحتلال على الغزيين.

وللممارسة الانتقامية، تستخدم وحدة “الكلفانيم” كلاب تسميها “توكفنيت”، أي هجومية، من أنواع تختلف عن تلك التي يوكل إليها مهام التنبيه والاستكشاف والمسح واقتفاء الأثر، منها كلاب الراعي الألماني والدوبرمان المخصصة والمدرّبة على مهاجمة الإنسان ونهشه بعد نزع سواسها الكمامات عن  أفواهها.

ولا تزال صورة كلب وحدة “الكلفانيم” يغرس مخالب يده في صدر الحاجة المسنة دولت الطناني ابنة مخيم جباليا، بينما لُعابه يقطر من بين أنيابه في وجهها، عالقة في أذهاننا جميعًا كلما سمعنا عن دور كلاب جيش الاحتلال في الحرب على القطاع، كما اُستخدمت الكلاب في قتل بعض الغزيين إلى حد تمزيق أجسادهم.

“فكوا العَصبة عن عيوننا بعد أربعين يوم واحنا معصوبين، بدهم يفرجونا إشي، استدعوا شب أسير ونيموه على بطنه وجردوه من ملابسه وأطلقوا كلب عليه…”، والبقية عندكم! هذا ما قاله فادي أحد المعتقلين المفرج عنهم من معسكر “سديه تيمان” في بئر السبع، والذي تمّ تفعيله منذ اليوم التالي على الطوفان.

بحسب شهادة فادي في مقابلة معه بعد إطلاق سراحه موجودة على يوتيوب، يمارس جنود الاحتلال على المعتقلين الغزيين في المعسكر حفلات اعتداء جنسي تنفذها الكلاب التي جرى تدريبها على ممارسة ذلك الاعتداء، في سابقة لم يُسمع عن وحشيتها ودرجة انتهاكها للصفة الآدمية من قبل، والشهادات عن تلك الممارسات بواسطة الكلاب تطول في ظل الحرب الدائرة على القطاع والأسرى المعتقلين في سجون ومعسكرات اعتقال الاحتلال. 

الكلب لغم بوجه أصحابه

يظل الكلب المدرب في وحدة “الكلفانيم” أداة بنظر ضباط ومدربي الوحدة، وذلك أيًا كان شكل العلاقة التي تربط الكلب بسائسه، فالغرض في الأخير أن يحمي الأول الثاني وليس العكس.

ولطالما شكّلت كلاب الوحدة في الحرب على القطاع إحدى أبشع أدواتها، فالمقاومة لجأت إلى التحايل على هذه الكلاب ودورها عبر أساليب تقليدية ابتكرتها خلال الحرب، منها إطلاق عناصر المقاومة لكلب، وعادة تكون أنثى، في وجه كلب الاحتلال بغرض تشويشه وحرفه عن مهمته العسكرية والاستعمارية في الحرب.

وفي العودة إلى يوئاف زيتون في مقالة له بالعبرية بعنوان “حماس قتلت كلبًا من وحدة عوكيتس…”، نُشر على موقع “واي نت”، يذكر زيتون عن اقتحام قوة وحدة المظليين من جيش الاحتلال مخيم جباليا في منتصف مايو/ أيار الماضي بعد نزوح معظم سكانه منه.

طوّقت الوحدة المهاجمة أحد المباني المهجورة في المخيم، وكانت تتحصّن فيه مجموعة من عناصر المقاومة، أطلقت وحدة “الكلفانيم” المرافقة لوحدة المظليين أحد كلابها بغرض مسح واستكشاف المبنى قبل دخول القوة المهاجمة إليه، فلم يعد الكلب بعد دخوله المبنى، ولم يسمع له نباح أو ما يدل على مهاجمته أحد.

لذلك أرسل جنود الوحدة طائرة “درون” مزودة بكاميرا إلى مبنى ملاصق للمبنى المستهدف للتحقق من مصير الكلب فيه، وكشفت الكاميرا عن مصير الكلب ممددًا على الأرض داخل المبنى، فعرفوا أن عناصر حماس قد قتلوا الكلب بطريقة ما دون إطلاق النار عليه أو ما ينبّه جنود جيش الاحتلال إلى وجودهم في المبنى.

حينها دخلت قوات وحدة المظليين إلى المبنى لإخراج الكلب بعد قتله، وما أن اقتربوا من جثة الكلب حتى صاح بعضهم: “ملكودت” أي فخّ، كان الكلب مفخخًا بالألغام، فخّخته عناصر المقاومة بعد قتله، وبحسب زيتون لم يُصب أحد من أفراد الوحدة المهاجمة لأنهم كانوا قد اكتشفوا أمر تلغيم الكلب قبل رفعهم جثته.

في الأخير

إلى المقبرة المخصصة لكلاب وحدة “الكلفانيم”، نُقل الكلب المقتول الذي جرى تلغيمه بالمتفجرات في جباليا ودُفن فيها، وقد سبقه كلابٌ كثر إلى تلك المقبرة التي خصصتها وحدة “عوكيتس” لكلابها النافقة، وموقعها على أطراف بلدة “موديعين” غربي القدس المحتلة، حيث تقيم الوحدة طقوسًا ومراسيم دفن لكلابها كما لو كان ضباط الوحدة يدفنون أحدهم، كما تُدفن كلاب وحدة “الكلفانيم” إلى جانب بعضها البعض وتخصص لها قبور وشواهد تحمل اسم الكلب ورقمه التسلسلي وتاريخ نفوقه.

يمثل الاستخدام الصهيوني للكلب المدرب في وحدة “الكلفانيم” وتوظيفه استعماريًا، خصوصًا في ظل الحرب الدائرة على قطاع غزة والشعب الفلسطيني عمومًا، المستوى الوحشي الذي غدت عليه حكومة الاحتلال وجيشها لناحية تفعيل الكلب بعد تدريبه كأداة فاعلة على درجة من الوحشية، بما ينال من آدمية الفلسطيني في إذلاله وانتهاكه انتقامًا وليس تأديبًا.

ما أدى، بحسب يوئاف زيتون في تقاريره، إلى الحديث عن اعتزام جيش الاحتلال تمكين ومضاعفة قوة وحدة “الكلفانيم”/ مدربي الكلاب “عويكتس” في السنوات القادمة، ليستكمل ما يسمّونه “المحارب على أربع” مهامه.

وفي صورة التقطتها ونشرتها وحدة “الكلفانيم” لكلاب ضالة في قطاع غزة في ظل الحرب على موقع “حدشوت” العبري، كُتب بالعبرية تحتها: “حفيم ميبيشع برتسوعاة عزة” أي “أبرياء في قطاع غزة” حيث لم يروا أبرياء في غزة سوى في كلابها الضالة.