اعتاد العالم أن ينظر إلى الجامعة على أنها المرحلة الأساسية لإثبات ذكاء الفرد وقدرته على النجاح في سوق العمل، ولكن مع التقلبات الاقتصادية والقفزات النوعية في عالم التكنولوجيا، لم يعد مقياس النجاح واحدًا، لا سيما أن أشخاصًا مثل بيل غيتس وستيف جوبز ومارك زوكربيرغ لم يتخرجوا من الجامعة ومع ذلك حققوا نجاحًا لا مثيل له في عالم الأعمال والمال.
قد يعتقد البعض أن تفوق هذه الشخصيات ليس سوى ضربة حظ أو صدفة استثنائية في دول العالم المتقدمة ولن تتكرر مع أولئك الذين يعيشون في دول العالم الثالث، إلا أن شركة جوجل أمضت سنوات عديدة في تحليل سبب نجاح موظفيها في الشركة، وكانت المفاجأة أن التحصيل العلمي لا علاقة له بالنجاح في بيئة العمل.
إذ يقول نائب الرئيس السابق في شركة جوجل العملاقة لازلو بوك في حديث له مع صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، عن آلية التوظيف في الشركة: “عندما تنظر إلى الأشخاص الذين لا يذهبون إلى الجامعة، ويشقون طريقهم في العالم بالاعتماد على أنفسهم تلاحظ كم هؤلاء البشر استثنائيون وعلينا أن نفعل كل ما بوسعنا للعثور عليهم”.
شركات عالمية: “لا نهتم بمؤهلاتك الأكاديمية”
في بداية العام الحاليّ نشر موقع “جلاسدور” المتخصص في التوظيف تقريرًا يقول: “ارتفاع الرسوم الدراسية على مستوى البلاد، لم يعد يتوافر للكثير من الأمريكيين الوقت أو المال للحصول على شهادة جامعية، ومع ذلك لا يعني هذا تضاؤل فرصتهم في الحصول على وظيفة، فقد أصبحت العديد من الشركات – على نحو متزايد – توفر وظائف ذات رواتب مجزية لمن لم يحصلوا على تعليم تقليدي، أو من اقتصر تعليمهم على شهادة الثانوية”.
لذلك أعد الموقع قائمة بمجموعة من الشركات العملاقة – مثل جوجل وآبل وهليتون – التي لا تشترط شهادة جامعية للتوظيف وإنما ترى أن الموهبة والمهارة وغيرها من أخلاقيات العمل الشروط الأنسب للوظائف العصرية، وتحديدًا تلك التي تندرج تحت مجالات الهندسة الإلكترونية والبرمجة.
ونظرًا إلى هذا التوجه العام في سياسات التوظيف بالشركات العالمية، من المرجح أن تبدأ التعريفات التقليدية والتحيزات المسبقة للتعليم الجامعي بالذوبان، فهل تفقد المؤهلات الأكاديمية قيمتها في القرن الـ21؟
يقول النائب السابق بوك الذي ألف كتابًا بعنوان “قواعد العمل”: “أول ما تبحث الشركات عنه في كل وظيفة هي القدرات المعرفية العامة وليس الذكاء، بل القدرة على التعلم ومعالجة الأمور بسرعة ومرونة”، مشيرًا إلى أن هذا لا يعني أنه ينبغي على الشباب عدم الذهاب إلى الجامعة، فهي “تتيح لهم إتقان الأساسيات اللازمة للعديد من الوظائف، لكن من المهم أن يدركوا أن شهادتهم ليست دليلًا على قدراتهم وخاصةً في العصر الذي أصبح فيه الابتكار مسعى الجميع”، بحسب قوله.
ساعدت التحديثات التكنولوجية في تغيير مفهوم التعليم، فقد فتحت أبوابًا واسعة أمام الأجيال الناشئة نحو عالم المعلومات والدراسات والأبحاث من خلال مواقع التعليم الذاتي والإلكتروني
تضيف إلى ذلك ماجي ستيل ويل الشريك الإداري في شركة “إرنست أند يونج”، التي ترى أيضًا أن هذه السياسات لن تقلل من قيمة المؤهلات الأكاديمية، لكنها ستمنح أصحاب المهارات والميزات رصيدًا أكبر في الحياة المهنية، إذ تقول: “ستظل المؤهلات الجامعية تؤخذ بعين الاعتبار، وستظل في الواقع اعتبارًا مهمًا عند تقييم المرشحين لنيل الوظائف، ولكنها لن تعمل كحاجز أمام الحصول على وظيفة”.
جدير بالذكر أن التحديثات التكنولوجية ساعدت كثيرًا في تغيير مفهوم التعليم، فقد فتحت أبوابًا واسعة أمام الأجيال الناشئة نحو عالم المعلومات والدراسات والأبحاث، إذ يمكن لأي شخص أن يطور من اهتماماته العلمية وينمي معارفه من خلال مواقع التعليم الذاتي والإلكتروني، ولذلك لم تعد الشهادة الجامعية علامة امتياز.
تعرضت هذه الرؤية إلى الانتقادات من أولئك الذين يرون أن عدم إكمال المرحلة الجامعية دليل على الفشل في الالتزام وعدم قدرة الشخص على إتمام ما عليه
لكن في الوقت ذاته، هدد انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات آلاف الوظائف التي تعتمد على الأيدي العاملة البشرية، ما زاد تدريجيًا من متطلبات السوق ومستوى المنافسة في الحياة المهنية، خاصة أن الروبوتات قادرة على التعلم والتفاعل بطريقة أذكى وأسرع من الإنسان.
من جانب آخر، تعرضت هذه الرؤية إلى الانتقادات من أولئك الذين يرون أن عدم إكمال المرحلة الجامعية دليلًا على الفشل في الالتزام وعدم قدرة الشخص على إتمام ما عليه، كما ذهبوا إلى أبعد من ذلك وقالوا إن الجامعة هي الحد الفاصل بين الشخص الناجح والفاشل.
عوضًا عن الشهادة، ماذا تريد الشركات؟
رغم قضاء 4 سنوات في الحرم الجامعي بين المحاضرات والواجبات والمشاريع فإن ذلك لا يجعل الفرد أكثر ذكاءً أو إبداعًا، لا سيما لو كانت الالتزامات الدراسية تستنزف طاقاته الفكرية بدلًا من أن تشحنها وتنميها وتحفزها، ولا داعي للذكر أنه يصعب تحقيق ذلك في ظل الأنظمة التعليمية التقليدية التي تتجاهل الفروقات والتفضيلات الفردية.
واعتبارًا لذلك، يشترط سوق العمل الجديد بعض الميزات غير التخصصية ومن أهمها ما يسمى بـ”المهارات الناعمة” التي يحتاج الفرد إلى 85% منها ليتمكن من الاندماج في سوق العمل وإثبات تفوقه بجدارة، ويندرج تحت هذا الجزء مهارة التواصل والتفاوض والتأقلم والمرونة والتنظيم والتعاون والتفكير الناقد وإدارة الأزمات والرغبة في التعلم.
وبحسب دراسة أجراها موقع “مونستر” للتوظيف حددت أهم 5 مهارات ناعمة يبحث عنها المديرون، وتشمل القدرة على حل المشاكل والانتباه للتفاصيل، بالإضافة إلى استخدام مايكروسوفت بكفاءة، فضلًا عن مهارات التواصل الكتابي والشفهي والتسويق.
تأكيدًا على أهمية وفعالية هذه المهارات يقول الموظف السابق بوك: “ليس مهمًا أنك كنت رئيس بنك، الأهم من ذلك أن تعرف كيف ستتصرف إذا واجهت مشكلة ما في العمل، هل ستتدخل؟ هل ستساعد في حلها؟ هل ستتخلى عن سلطتك؟ هل ستترك شخص آخر يتولى المسؤولية؟”، هذه الأسئلة جميعها تدلل على إمكانات الفرد ومدى قدرته على ضمان سيرورة وإنتاجية العمل.
هذه الشروط والمستجدات لا تنطبق فقط على الشركات الغربية، فقد صرحت عدة شركات في الشرق الأوسط عن موقف مماثل للشركات العالمية
وفي جانب آخر، يضرب بوك مثالًا آخر عن أهمية التواضع في بيئة العمل، لما تتيحه من مرونة في تقبل أفكار الآخرين واحتضان آرائهم، وبالتالي يخلق بيئة عمل متنوعة ومختلفة، وهذا ما قد يعرقله الكبرياء الذي يعيق المعرفة وتبادل الخبرات ويهدد أجواء العمل الإيجابية.
جدير بالذكر، أن هذه الشروط والمستجدات لا تنطبق فقط على الشركات الغربية، فقد صرحت عدة شركات في الشرق الأوسط عن موقف مماثل للشركات العالمية، فعلى سبيل المثال، يقول إيهاب حافظ رئيس مركز استقطاب الكفاءات المتميزة التابع لشركة بيبسيكو في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إن “المهارات التخصصية هي التي تساهم في وصول الباحث عن العمل إلى مقابلة التوظيف، لكن وفي المقابل، فإن المهارات الناعمة والكفاءات القيادية هي التي تؤدي إلى نجاحه في المقابلة والحصول على الوظيفة”، مشيرًا إلى أهمية المهارات القيادية في بناء بيئة عمل تتمتع بالتنوع والابتكار وتشجيع ثقافة العمل الجماعي.
إلى ذلك، يواصل التقدم التكنولوجي تغيير نمط الحياة الاجتماعية التي تؤثر تلقائيًا على جوانب الحياة الأخرى، وأهمها الاقتصادية التي تتحكم وتغير من السياسات والتوجهات القائمة في ذاك العالم، فقد تتوجه حاليًّا إلى تخصصات فنية وتسويقية وبرمجية لم تكن معروفة من قبل، لكنها باتت الأكثر طلبًا في عصرنا هذا، إرضاءً لمتطلباتها وشروطها.