لسنواتٍ طويلة، تعاملت اليابان مع مشكلة انخفاض معدلات المواليد في البلاد من خلال الأبحاث العلمية والتجارب المخبرية، إذ أنّ طفلًا واحدًا من بين كلّ 20 طفلًا يولد من خلال الإخصاب المختبريّ، ما يعني أنّ البلاد منفتحة على طرق الحمل غير التقليدية والتي تجنّد لسبيلها حقول الهندسة الوراثية وأبحاث الخصوبة البشرية.
وتماشيًا مع التقدّم السريع الذي تسجّله الأبحاث، حقق مجموعة من العلماء في اليابان تقدّمًا ملحوظًا في الأيام الأخيرة في سعيهم المتواصل لمكافحة العقم وإيجاد الحلول البديلة لتكاثر الإنسان. إذ نُشرت ورقة بحثية تؤكد نجاح العلماء في إنتاج خلية بويضة بشرية في وعاءٍ مخبريّ لا يحوي شيئًا سوى خلايا دم أنثوية، ما يجعل من هذه التجربة خطوةً غير مسبوقة في عملية التكاثر البشريّ لدرجة أنّ العلماء المسؤولين أطلقوا عليها تقنية “تغيير اللعبة”.
وعلى الرغم من كون البويضة أو الخلية البدائية التي أنتجها العلماء لا تعدّ بالبويضة الناضجة، والتي لا يمكن تخصيبها لتكوين جنينٍ، إلا أنّ الباحثين يصرّون على أنهم في الطريق الصحيح لذلك، أي في طريق تحقيق “التزواج المخبريّ” وخلق البويضات والحيوانات المنوية في أطباق مخبرية تحوي عددًا من الخلايا الدموية أو الجذعية أو غيرها، خاصةً بعد النجاح الذي حقّقوه في إنتاج بويضات بالفعل من خلايا ذيل مأخوذة من فئران، ومن ثمّ تخصيبها لإنتاج فئران رضيعة في المختبر نفسه.
عالم جديد: هل نحن على أعتاب ثورة في التكاثر البشريّ؟
عام 1932، نشر الكاتب الإنجليزي الشهير “ألدوس هكسلي” روايته “عالم جديد شجاع Brave New World” التي تدور أحداثها في المستقبل، عام 2540 تحديدًا، حيث يسيطر العلم على البشر، ويُبنى المجتمع على أساس اختيار النمط الجينيّ والوراثيّ ويسيطر النظام على التكاثر من خلال إنتاج أطفالٍ محدّدي الوظائف الورغبات في مجتمعٍ ينبغي له أن يكون سعيدًا لكنه معدوم الحرية.
يتخيل هكسلي أنّ العلم سوف يصل بالبشر إلى حد الاستغناء عن الزواج والجنس، وتكوين الأجنة في القوارير بطريقة علمية بدلًا من تكوينها في الأرحام والأطفال. ومنذ لحظة صدورها حتى يومنا هذا، أصبحت الرواية مرجعًا مهمًّا للكثير من النقاشات حول الهندسة الوراثية وطرق تحسين النسل وتصميم الأجنة وتعديل أساليب التكاثر والإنجاب. فرواية هكسلي تُشبه إلى حدٍ بعيد ما توصّلت إليه آخر التجارب في التكاثر البشريّ.
رواية عالم جديد شجاع- ألدوس هكسلي
وقريبًا من رواية هكسلي تلك، يفترض أستاذ القانون والمهتم بالعلوم البيولوجية في جامعة ستانفورد، هانك جريلي، في كتابه “نهاية الجنس ومستقبل التكاثر البشري“، عالمًا لا يبدأ فيه تكوين الأجنّة في غرف النوم من خلال العلاقات الجنسية الطبيعية، وإنما في أطباق مخبرية في العيادات الطبية أو المعامل المتخصصة.
لكنّ جريلي لا يروي قصة خيالٍ علميّ على الإطلاق، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك ليذكر في جملة افتراضاته أنه “خلال ما بين 20 و40 عامًا، حين يريد زوجان إنجاب طفل، سيقوم الرجل بتقديم الحيوانات المنوية كما هو معتاد، بينما ستوفر المرأة خزعة من خلاياها الجلدية فقط”.
هانك جريلي يتحدث عن كتابه “نهاية الجنس ومستقبل التكاثر البشريّ”
يصف جريلي السيناريو كالآتي: تقدّم الأنثى خلية جلدية ويقدّم الذكر حيوانًا منويًا. سيكون المختبر قادرًا على إنتاج ما يقارب المائة جنينٍ منهما، لكلٍ منها حمضه النووي الذي يمكن قراءته ومعرفة جيناته وصفاته الوراثية بما في ذلك لون العين والشعر والطول وشكل الجسم والصفات السلوكية وتلك المتعلقة بالمواهب والقدرات الإدراكية. ومن ثمّ يمكن للوالدين المأموليْن اختيار أيّ جنينٍ يرغبان بزراعته وفقًا للخصائص المتوقعة.
يتوقّع هانك جريلي في كتابه فعليًا قدرة العلماء على إنتاج بويضات وحيوانات منوية بشرية من خلايا جلدية في المختبرات، واضعًا العديد من الإمكانيات الإنجابية المتوقّعة مثل قدرة الأشخاص العقيمين ومثليي الجنس على الإنجاب
الكتاب الذي نُشر قبل عامين توقّع فعليًا قدرة العلماء على إنتاج بويضات وحيوانات منوية بشرية من خلايا جلدية في المختبرات، واضعًا العديد من الإمكانيات الإنجابية المتوقّعة مثل قدرة الأشخاص العقيمين على الإنجاب، أو حتى الأشخاص مثليي الجنس نظرًا لأنه قد يكون من الممكن إنتاج بويضة من خلايا جلد رجل وحيوانًا منويًا من جلد امرأة. وعلى جانبٍ آخر، سيساعد هذا الإنجاز المرأة على التخلص من ضغط ساعتها البيولوجية فيما يتعلّق بالفترة التي تستطيع فيها الحمل ما يسمح لها بتأجيل ذلك وفقًا لرغبتها والبدء بتكوين أسرة في الوقت الذي تريده بعيدًا عن الفترة العمرية المتعارف عليها الآن.
يناقش جيرلي أيضًا الآثار والأبعاد القانونية والأخلاقية والاجتماعية لمثل هذه التقنيات الحيوية الناشئة، خاصة وأنها ستؤدي إلى مشاكل أخلاقية كبيرة إحداها التساهل في أخذ عيّنات من خلايا الآخرين وتحويلهم إلى آباء أو أمهات من دون علمهم، أو حتى قدرة البعض للوصول إلى هذه التقنية وعجز البعض الآخر تبعًا للعامل المادّي والماليّ.
ولعلّ واحدًا من أكثر الأسئلة تعقيدًا فيما يتعلّق بمثل هذه التقنية هو البُعد الأخلاقي والدينيّ لتحديد جينات الجنين مُسبقًا، ما يعني اختيار الكثير من مسارات حياته وقدره قبل ولادته حتى لا سيّما فيما يتعلّق بالسلوكيات والاهتمامات والمواهب والقدرات الإدراكية والمعرفية.
جدالٌ بين الدين والعلم
في الخامس والعشرين من تموز عام 1978، وُلدت “لويز براون” لتكونَ أول إنسان ولد بعد الحمل عن طريق الإخصاب في المختبر أو التلقيح الاصطناعي. ومنذ ذلك الحين، أنتج الإخصاب في المختبر أو التلقيح الاصطناعي والتقنيات ذات الصلة حوالي 7 ملايين طفل في جميع أنحاء العالم، لكن من يومها والنقاش أو الجدال بين الدين والأخلاق من جهة وبين العلم من جهةٍ أخرى فيما يخصّ التلقيح الصناع وكلّ ما يتعلّق بالجينات والوراثة والتكاثر لا يزال قائمًا وحاضرًا بقوة دون أن يُحسم أمره.
لويز براون- أول إنسان يولد عن طريق التلقيح الصناعي برفقة الطبيب “روبرت إدواردز” الحائز على جائزة نوبل لتطويره أساليب التلقيح الصناعي
إذ ترى الآراء الدينية والأخلاقية أنّ كلّ هذه التقنيات المتقدّمة ما هي إلا اعتداء على وظيفة الخلق. وكلٍ من الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، تنظر إلى الخلق بوصفه فعل مقدّس وأنّ أيّ تلاعبٍ به أو تعديلٍ في وظيفته وكينونته وطريقة عمله فهو انتهاك لقدسيته وقدسية الخالق. وعلى أنّ هذه الأديان كانت في يومٍ ما تنظر للتلقيح الصناعيّ نظرةً رافضة، إلا أنها أخذت بالتسامح مع هذه العملية منذ سنوات، لكنّ القلق المتزايد لا يزال يحيط بكلّ المحاولات العلمية الحديثة التي لا سقف لها ولا خطوط حمراء.
فيما يرى العلماء أنّ كل هذه المحاولات تهدف لخدمة البشرية والمجتمع وتحسين النسل عن طريق خلق أجيال تخلو من أمراض الوراثة والسرطان وأية أمراض أخرى. لكنّ جميع تطميناتهم لا تمكنها أن تحسم القلق القائم بخصوص مثل هذه التجارب والإنجازات فشجع البشر في التحكّم والسيطرة لا يمكن التنبؤ به أو إيقافه أبدًا، ولعلّ كل قصص وأفلام الخيال العلمي التي تٌبنى على العوالم المستقبلية المبنية على هذه التقنيات ستصبح بالفعل حقيقةً يومًا ما، فيستيقظ جيلٌ كامل ليجد نفسه أسيرًا للعلم ومختبرات تجاربه وبعيدًا عن الدين والمشاعر والفنون والطبيعة وغيرها من المدارك والمعارف الإنسانية.