في واحة سيوة بقلب محافظة مرسى مطروح (غرب مصر) على مقربة من الحدود الليبية، يقطن ما يقرب من 30 – 35 ألف مواطن، ورغم أنهم يحملون الجنسية المصرية، فإنهم يتمتعون بعادات وتقاليد ولهجة وطقوس لم يعتدها بقية المصريين، فضلًا عن تواصلهم الدائم مع فروع عائلاتهم في معظم دول إفريقيا.
أمازيغ مصر.. القوام الأساسي للجيش المصري إبان الأسرة الـ21 وما بعدها، أسسوا القاهرة الفاطمية وساهموا في تطوير البنية التحتية لمصر طيلة العقود الماضية، فخرج منهم زعماء وقادة ومسؤولون كبار، تقلدوا أرفع المناصب في تاريخ الدولة المصرية الحديثة، على رأسهم الزعيم مصطفى كامل ومحمد حيدر باشا، وآخرهم اللواء عمر سليمان رئيس المخابرات الأسبق.
ورغم قدومهم إلى مصر منذ 3 آلاف عام استطاعوا خلالها تثبيت أركانهم والحفاظ على هويتهم الثقافية والحضارية في ظل التعدد القومي والثقافي للسكان المصريين، فإنهم في الـ250 عامًا الأخيرة زادت أعدادهم بصورة لم تشهدها السنوات السابقة، ومع ذلك لا يزالون يحاربون من أجل البقاء، ماراثون من اللقاءات والنقاشات من أجل الاعتراف بهم، رسميًا وشعبيًا، فهل ينجحون؟
3 آلاف عام من التاريخ
تختلف الدراسات الأنثروبولوجية بشأن الأصول العرقية للأمازيغ، إذ تتراوح التفسيرات ما بين إغريقية وأخرى هندوأوروبية فيما ذهب رأي ثالث إلى امتزاجها بالبربر، غير أن العديد من الدراسات رجحت أن تكون أصولهم إفريقية.
أما فيما يتعلق بوجود الأمازيغ في مصر، فالتقويم الأمازيغي المعمول به (12 من يناير/كانون الثاني من كل عام) يشير إلى أن استقرارهم في الأراضي المصرية يعود إلى أبعد من ذلك، حيث الأسرة الـ22 التي حكمت مصر بعد هزيمة القائد شيشنق (من أصول أمازيغية) جيوش الفرعون المصري آنذاك.
غالبية الجيش المصري كانوا من الأمازيغ وتحديدًا من قبيلة كتامة، وكانت تلك القبيلة شديدة الإخلاص للمعز لدين الله، كما كانوا يعتنقون نفس مذهبه
يبلغ تعداد الأمازيغ حاليًّا نحو 40 مليون نسمة في العالم، منهم نحو 35 مليونًا في موطنهم الأصلي شمال إفريقيا والذي يطلقون عليه “تمازغا”، ونحو 5 ملايين موزعين على دول المهجر وعدة آلاف متناثرين في الأمريكتين الشمالية والجنوبية و”إسرائيل”، بينما يستوطن أمازيغ مصر الذين يتراوح عددهم ما بين 25 – 30 ألف مواطن في الصعيد والإسكندرية، وإن كانت الغالبية العظمى تسكن واحة سيوة بمرسى مطروح.
جاء الأمازيغ إلى مصر منذ 3 آلاف عام من خلال موجتين من الهجرة، الأولى في عهد الملك رمسيس الثالث الذي قرر الاستفادة من الأمازيغ النازحين وتجنيدهم في الجيش المصري، بينما كانت الثانية مع جيش المعز لدين الله الفاطمي الذي قرر غزو مصر، وأرسل جيشًا قوامه 100 ألف جندي بقيادة جوهر الصقلي، وكان غالبية هؤلاء الجنود من الأمازيغ.
وجود الأمازيغ في مصر يرجع إلى 3 آلاف عام
المشاركة في حكم مصر
لم يكن الأمازيغ مجرد أقلية في تاريخ مصر القديم والحديث، بل شاركوا في الحكم لعقود طويلة، وحكموا الدولة المصرية قرابة 200 عام، كما أسسوا 3 أسر “22 – 23 – 24” خلال الفترة من 950 – 730 قبل الميلاد، ومن أشهر ملوكهم (الأسرة 22): شيشينق الأول – أوسركن الأول – تاكلوت الأول – أوسركن الثاني – شيشينق الثاني – تاكلوت الثاني – شيشينق الثالث – باماي – شيشينق الرابع، بينما الأسرة الـ23 فمن ملوكها: بادي باست – شيشينق الخامس – أوسركن الثالث – تاكلوت الثالث – أمنرود – أوسركن الرابع.
غالبية الجيش المصري كانوا من الأمازيغ وتحديدًا من قبيلة كتامة، وكانت تلك القبيلة شديدة الإخلاص للمعز لدين الله، كما كانوا يعتنقون نفس مذهبه، وجاءت كتامة مع جيش المعز لغزو مصر، حسبما أشارت أماني الوشاحي نائب رئيس منظمة الكونجرس العالمي الأمازيغي (غير حكومية).
يتشكل أمازيغ مصر في سيوة أو “شالي” كما يحبون أن يطلقوا عليها، في صورة مجتمع قبلي له مضارب ومشايخ، وتنتقل مشيخة القبيلة عند الأمازيغ بالوراثة، شريطة أن يتمتع المرشح بقدر كاف من العلم والثقافة
استقر الأمازيغ المصريون في القاهرة في حارة تسمى “كتامة” نسبة للقبيلة، تبعتها قبائل أخرى، مثل قبيلة “زويلة” التي أطلق اسمها على إحدى بوابات القاهرة الفاطمية وهي “باب زويلة”، ثم قبيلة “شعرية” التي أطلق اسمها على بوابة أخرى للقاهرة وهي “باب الشعرية”، وهناك قائد أمازيغي اسمه سعادة وكان ضمن قيادات الجيش ومقربًا من المعز لدين الله، وأُطلق اسمه على منطقة بالجمالية هي “درب سعادة”.
وتشير الوشاحي إلى أن كلمة “نيل” في الأصل أمازيغية أطلقها المصريون على النهر في أثناء موجة الهجرة الأولى، وحين فتح العرب مصر أضافوا حرفي “أل” لتصبح “النيل”، كما أنهم من أسسوا “القاهرة الفاطمية” مع موجة الهجرة الثانية، وأطلقوا عليها هذا الاسم نسبة إلى كوكب المريخ الذين كانوا يطلقون عليه بالعربية “القاهر”.
واحة سيوة
تعد واحة سيوة – الواقعة في الصحراء الغربية وتبعد نحو 300 كيلومتر عن ساحل البحر المتوسط إلى الجنوب الغربي من مرسى مطروح، وتتبع محافظة مطروح إداريًا – المرتكز الرئيسي للأمازيغ في مصر خلال السنوات الأخيرة، نظرًا لقربها من القبائل الأمازيغية في ليبيا ودول شمال إفريقيا.
تضم واحة سيوة ما يقرب من 11 قبيلة يشكلون 22 ألف نسمة، وهي موازية لواحة “يغبوب” الواقعة تحت السيادة الليبية، ويرجع اسم يغبوب إلى الاسم الأمازيغي الأصلي “ئغبولا” بمعنى عيون الماء من المفرد “أغبالو” بمعنى عين الماء.
يتشكل أمازيغ مصر في سيوة أو “شالي” كما يحبون أن يطلقوا عليها، في صورة مجتمع قبلي له مضارب ومشايخ، وتنتقل مشيخة القبيلة عند الأمازيغ بالوراثة، شريطة أن يتمتع المرشح بقدر كاف من العلم والثقافة التي تؤهله للدفاع عن أهل هذه الأقلية والزود عنهم في إطار الصراع الثقافي الذي يواجهونه بصورة أو بأخرى.
الأمازيغيين المصريين من أكثر الشعوب تمسكًا بدينها، رغم دخولهم في الإسلام متأخرين عن بقية المصريين، بخلاف دماثة أخلاقهم وهدوئهم وانغلاقهم على أنفسهم
تعد “منظمة الكونجرس العالمي الأمازيغي” وهي منظمة دولية غير حكومية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الأمازيغي أمام المحافل الدولية، كما أنها أبرز المنظمات المعنية بالدفاع عن حقوق الأمازيغيين في العالم، تأسست عام 1995 بالعاصمة الفرنسية “باريس” ويكون العمل فيها تطوعيًا، فيما تقتصر العضوية على النشطاء الأمازيغ فقط.
ترأس المنظمة في الوقت الراهن الجزائرية “قمرة آيت سيد” ولها نائب في كل دولة بها أمازيغ، يكون ممثلًا لأمازيغ هذه الدولة أمام حكومته وأمام المحافل الدولية، كما تعقد مؤتمرًا فيدراليًا كل 3 سنوات، ومن المقرر أن يكون المؤتمر القادم في تونس أيام 27 و28 من أكتوبر/تشرين الأول القادم.
واحة سيوة.. موطن أمازيغ مصر الأول
طقوس وعادات
يتميز الأمازيغ في مصر بعدد من العادات والتقاليد التي نجحوا في الحفاظ عليها رغم التعدد الثقافي على مر العصور، كما استطاعوا أن تكون أحد الراوفد الثقافية لدى بقية المصريين، ومن أبرز عاداتهم تلك المتعلقة بالتعليم، وعلى رأسها “التعليم الليلي” و”عرس القرآن” و”بخاري رمضان” و”المولد النبوي”، ثم “أدوال” بنوعيه: النزهة والسياحات.
كما تعد وجبة “الكسكسي” المكونة من دقيق القمح أو الذرة، واحدة من أشهر الأكلات الأمازيغية على وجه الإطلاق، ويتناولونها بديلًا عن الأرز والمكرونة، وذلك يوم الجمعة من كل أسبوع، أما ليلة رأس السنة فيعد “الكسكس بالدجاج والخضراوات السبعة” الوجبة الرئيسية التي تجتمع عليها العائلة.
وقبل تناول الوجبة، على كل أمازيغي أن يتمنى أمنية خلال العام الجديد، وتكون سرية، ثم توضع “نواة زيتونة” داخل الطبق الكبير للوجبة، ومن تكون هذه النواة من نصيبه يصبح هو صاحب الأمنية التي ستتحقق في العام الجديد، هكذا يعتقدون وهم على إيمان راسخ بذلك رغم اعتناق الجزء الأكبر منهم للإسلام.
يتميز الأمازيغ في مصر رغم قلة عددهم بالاندماج داخل المجتمع والتأقلم مع الأوساط المحيطة بهم، مع الاحتفاظ – في الوقت ذاته – بهويتهم الثقافية
أما عن الاحتفال بعيد رأس السنة، فيجتمع الأمازيغ عادة على العشاء ليلة العيد ويشعلون الشموع التي ترمز في الثقافة الأمازيغية إلى النور والأمل، وفي الصباح يرتدون الملابس الجديدة، ثم يخرجون للتنزه والاستماع إلى الأغنيات الأمازيغية، ويعد هذا العيد من أشهر أعياد الأمازيغ القومية على الإطلاق.
جدير بالذكر أن الأمازيغيين المصريين من أكثر الشعوب تمسكًا بدينهم، رغم دخولهم في الإسلام متأخرين عن بقية المصريين، هذا بخلاف دماثة أخلاقهم وهدوئهم وانغلاقهم على أنفسهم، ورغم فقرهم النسبي فإنهم يتميزون بالكرم وحسن الضيافة، كذلك يحرصون على تمسكهم بلغتهم الأصلية الأمازيغية، رغم أن كثيرًا منهم يتحدث العربية بطلاقة.
أماني الوشاحي نائب رئيس منظمة الكونجرس العالمي الأمازيغي
الهوية الثقافية أول المطالب
قائمة مطالب كثيرة يرفعها الأمازيغيون المصريون بشأن انصهارهم في المجتمع المصري والحصول على الحقوق التي كفلها لهم القانون، الدولي والمحلي، لا سيما المتعلقة بكونهم أقلية لهم حقوق كما أن عليهم واجبات، وهو ما ذهبت إليه الوشاحي في حديثها لـ”نون بوست”.
الوشاحي نائب رئيس منظمة الكونجرس العالمي الأمازيغي، كشفت أن أول ما يطالب به الأمازيغيون الحفاظ على ثقافتهم في مصر من الاندثار، لافتة إلى أن الثقافة الأمازيغية في حقيقتها جزء من الثقافة المصرية الأم، مشيرة أنها رغم ما بذلته من جهود في مضمار العمل الأهلي فإنه على الدولة اتخاذ عدد من التدابير اللازمة من أجل الحفاظ على ثقافتها المحلية ومن بينها الثقافة الأمازيغية.
“الخطوة الأولى في هذا الدرب الطويل بدأت بالفعل، عبر الإقرار بـ”التعددية الثقافية” في الدستوري المصري التي جاءت نتيجة مشاركتنا في لجنة الـ50 بعد عقود طويلة من التهميش”، هكذا أضافت نائب رئيس المنظمة، موضحة أن هناك عددًا من الخطوات الأخرى المنوط بالدولة القيام بها للوصول إلى الهدف المنشود، كاشفة أن مصر دولة متعددة القوميات، فليس كل المصريين ينتمون إلى القومية العربية.
وفي المجمل، يتميز الأمازيغ في مصر رغم قلة عددهم بالاندماج داخل المجتمع والتأقلم مع الأوساط المحيطة بهم، مع الاحتفاظ – في الوقت ذاته – بهويتهم الثقافية وخصوصية عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم التي فرضوها على أطياف عدة من المصريين، غير أن الاستمرار في التمسك بهذه الهوية بات كابوسًا يؤرق الكثير منهم ما لم تتحرك الدولة في هذا الإطار.