في الجزء الأول تحدثنا عن 3 دول عربية يتجاهلها الأشقاء الكبار في جامعة الدول العربية هي الصومال والسودان وجزر القمر، وكيف أن مثقفين صوماليين اعتبروا أن إضافة بلادهم للجامعة العربية كانت خطأً لعدة عوامل مختلفة وأنهم يعانون من احتقار بعض العرب لهم، بينما طالب سودانيون بالانسحاب من الجامعة مستذكرين مقولة الرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سيدار سنغور التي قال فيها: “كان بإمكان السودان أن يصير أفضل الأفارقة إلا أنه اختار أن يكون أسوأ العرب”، حسب تعبيره.
كما يشتكي أهل جزر القمر من تجاهل العرب جميعًا وكأن الأرخبيل القمري ليس جزءًا من جامعة الدول العربية التي تدعو في شعاراتها إلى التضامن ووحدة المصير، والتجاهل العربي لجزر القمر وغيرها دفع دولًا أخرى في المنطقة لتقوية علاقاتها الاقتصادية مع جزر القمر مثل تركيا وإيران.
نواصل ما تبقى من حديثٍ عن الدول المنسية عربيًا ونفرد المساحة الآتية لكل من جيبوتي وموريتانيا اللتين ينطبق عليهما أيضًا تصنيف الدول العربية المهمشة.
أولًا: جيبوتي.. البلد الصغير الذي لم يكتشف عربيًا إلا بعد حرب اليمن
هي دولة صغيرة مجهولة للعقل الجمعي العربي وعاصمتها جيبوتي أيضًا، تقع في منطقة القرن الإفريقي وتحدها إريتريا من الشمال، وإثيوبيا من جهة الغرب والجنوب، والصومال في الجنوب الشرقي، وتتكون بقية الحدود من البحر الأحمر وخليج عدن في الشرق.
ولا تزيد مساحة جيبوتي على 23 ألف كيلومتر مربع فقط ويسكنها نحو مليون مواطن، لكنها ـ في الوقت نفسه ـ تتمتع بموقعٍ إستراتيجيٍّ مهم في منطقة القرن الإفريقي بين القارة السمراء وآسيا، كما تعد مركزًا رئيسًا لإعادة التزود بالوقود وإعادة الشحن، وتتشارك مع اليمن في إدارة مضيق باب المندب الذي يعتبر واحدًا من أهم الممرات المائية حول العالم مما جعلها محط أنظار القوى العالمية الكبرى، فقد أنشأت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية في جيبوتي منذ حرب الخليج الأولى وبالطبع ترك المستعمر الفرنسي قاعدة قبل أن تنتهي فترة انتدابه لجيبوتي ثم انضمت كل من الصين واليابان إلى قائمة الدول التي تمتلك قواعد عسكرية في جيبوتي.
وبعد أن اندلعت الحرب اليمنية انتبهت المملكة العربية السعودية للموقع الإستراتيجي الذي تمتلكه جيبوتي؛ فطلبت من الأخيرة السماح لها بإنشاء قاعدة عسكرية لدعم عمليتها العسكرية المتعثرة في اليمن ووافقت جيبوتي على الطلب دون مناقشة نسبة لقوة العلاقات بين البلدين ولاعتمادها بدرجة كبيرة على المساعدات السعودية، إذ تساعد الرياض جيبوتي بنحو 70 مليون دولار سنويًا.
يستخدم ميناء جيبوتي كنقطة انطلاق للأساطيل الأجنبية الموجودة في المنطقة بهدف مراقبة خليج عدن وحماية الممر المائي من عمليات القرصنة، ولهذا يعد ميناؤها مؤثرًا بشكل كبير خصوصًا في الوقت الراهن، حيث يشهد اليمن حالة من الصراع وحربًا ضروسًا تدور رحاها بين قوى محلية مدعومة بأخرى إقليمية ودولية.
بعد الاستقلال انضمت جيبوتي إلى جامعة الدول العربية أي عام 1977 وقد أثار انضمام الصومال وجيبوتي إلى الجامعة جدلًا بين الدول الأعضاء على اعتبار أن لغتهما الرسمية ليست العربية، ولكن مجلس الجامعة رأى أن أصل الشعبين عربي فقبل عضويتهما
والمنطقة التي يطلق عليها اسم جيبوتي في الوقت الراهن كانت جزءًا من التاريخ العام لمنطقة القرن الإفريقي ككل، ولم تتميز المنطقة بتاريخ مستقل تمامًا، أي لم تتشكل فيها دول متعاقبة ذات دور سياسي منفصل، ولذلك فإن تاريخ جيبوتي يأتي متناغمًا بشكل كبير مع تاريخ الصومال والحبشة القديمة، وارتبط تاريخ المنطقة كذلك بالهجرات العربية من شبه الجزيرة إلى القرن الإفريقي وشرق إفريقيا ككل، وهي الهجرات التي أسهمت في ربط المنطقة بالثقافة العربية الإسلامية والتاريخ العربي العام.
ولكن بعد مجيء الإسلام تكونت عدة ممالك في منطقة الصومال وجيبوتي الحاليّة وعُرف ملوك هذه الإمارات باسم ملوك أودل أو الزيلع وأهمها ممالك أوفات ودوارو وأبيني وهوية وشرخا وبالي وداره، التي كانت تحيط بالحبشة إحاطة السوار بالمعصم، وقد كانت هذه الممالك تتبادل أدوار الزعامة على القرن الإفريقي.
وفي التاريخ الحديث بعد الاستقلال انضمت جيبوتي إلى جامعة الدول العربية بعد استقلالها مباشرة أي عام 1977 وقد أثار انضمام الصومال وجيبوتي إلى الجامعة جدلًا بين الدول الأعضاء على اعتبار أن لغتهما الرسمية ليست العربية، ولكن مجلس الجامعة رأى أن أصل الشعبين عربي فقبل عضويتهما.
كان الكاتب الصومالي حسام أحمد قد انتقد في مقالٍ نشرته صحيفة صومال تايمز ـ المتوقفة عن الصدور ـ انضمام بلاده وجيبوتي وجزر القمر إلى جامعة الدول العربية قائلًا: “لا أدرى كيف ولماذا أصبحت دول مثل الصومال وجيبوتي وجزر القمر والسودان أعضاء فى جامعة الدول العربية رغم أن انتماءها لمنظمة الوحدة الإفريقية سابقًا والاتحاد الإفريقي حاليًّا أرحم وأشرف وأسلم لها، فعلى الأقل هناك قواسم مشتركة تجمعها إلى ذلك الاتحاد أكثر مما تضمها إلى تلك الجامعة”.
واتفق مع حديث أحمد، الكاتب الجيبوتي عبد اللطيف عمر الذي قال في حديث خاص لـ”نون بوست” إن “الجامعة العربية منذ تأسيسها لم تحقق شيئًا يذكر لهذه الدول بل كثيرًا ما تجاهلتها حتى في بياناتها الافتتاحية والختامية”، مضيفًا “لم نسمع مثلاً عن المأساة الصومالية وإن حدث فلمجرد الاستهلاك الإعلامي ليس إلا، وتتعامل الجامعة العربية مع جيبوتي بتجاهل شديد لم تقدم لنا كمؤسسة أي شيء لذلك لا أستغرب عندما أجد مواطنًا عربيًا يجهل موقع جيبوتي على الخريطة”.
ثانيًا: موريتانيا، هي هل دولة عربية؟ موقف حقيقي حصل لشاعرٍ موريتاني
ذات نهارٍ ربيعيٍّ العام الماضي، وصل الصحفي الموريتاني حنفي ولد دهاه إلى مطار رفيق الحريري في العاصمة اللبنانية بيروت، ولم يكن الكاتب الموريتاني يحمل في جوازه تأشيرة دخول مسبقة لأنه يعلم أن السلطات اللبنانية لا تشترطها للزوار العرب، ولكنه فوجئ بموقف غريب لم يتوقعه فقد سأله ضابط الجوازات عندما رأى الجواز الذي يحمله: “هل موريتانيا دولة عربية؟” فأجابه بنعم، ولكن الضابط فضّل التأكد من زملائه لأنه لم يقتنع!
ويحكي ولد دهاه أنه تم تحويله إلى عدة موظفين آخرين في الأمن العام كانوا على وشك ترحيله إلى بلاده، إلى أن تأكدت إحدى الموظفات من “عروبة” موريتانيا عن طريق موقع ويكيبيديا لتكتشف الموظفة حينها أن موريتانيا دولة عربية ويحق للصحفي الدخول وأخذ تأشيرة الدخول من مطار بيروت مباشرة.
الحادثة فجّرت جدلًا شعبيًا كبيرًا حيث علّق عليها آنذاك عدد من المثقفين الموريتانيين معتبرين أنها “واقعة مبكية”، ورموا حكومة بلادهم بسهام النقد متسائلين عن دورها “الحكومة” في التعريف بالشعب الموريتاني وحضارته وثقافته على العالم، كما سألوا عن زهد السلطات الموريتانية في إقامة علاقات حميمة مع دول المشرق العربي بالتزامن مع العلاقات الجيدة التي تربط نواكشوط مع بعض من دول المغرب العربي.
لكن في الجهة المقابلة، يرى مثقفون موريتانيون أن الجامعة العربية لم يكن لديها أي دورٍ إيجابي تجاه الموريتانيين الذين رُحِّلوا ظلمًا إلى السنغال ثم أعيدوا بعد عقدين من الزمان دون أرضية ينطلقون منها أو وجهة يتجهون إليها، وكذلك لم تتدخل الجامعة لحل الأزمة بين المغرب والبوليساريو، وبين الجزائر والمغرب ولا حتى في أزمات السودان المختلفة من النزاع بين حكومة الخرطوم ومتمردي الحركة الشعبية في الجنوب أو قضية دارفور مع مسلحي الحركات المتمردة في الإقليم.
تعرف موريتانيا بأنها بلد المليون شاعر وأديب، وذاع صيتها في العالم باسم بلاد شنقيط، وهي دولة تزخر بثروات معدنية كالحديد والنحاس والذهب والنفط، كما تعد ثاني بلد عربي بعد السودان تمتلك ثروة حيوانية هائلة تفوق عدد سكان البلاد
رسميًا تعرف موريتانيا بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، وهي دولة عربية إفريقية، تقع في شمال غرب القارة السمراء وعلى شاطئ المحيط الأطلسي، يحدها من الشمال كل من المغرب والجزائر، ومن الجنوب السنغال، ومن الشرق والجنوب مالي، وكنقطة وصل بين شمال إفريقيا وجنوبها تجمع صحراء موريتانيا الشاسعة منذ آلاف السنين بين أعراق وثقافات مختلفة منها عربية وأمازيغية وإفريقية.
في بداية القرن الخامس الهجري دخلت قبائل عربية المنطقة التي فيها موريتانيا حاليًّا، ثم في القرن السادس الهجري استقرت قبائل بنو المعقل العربية هناك، وقد جاءت من صعيد مصر ضمن الهجرة الهلالية الشهيرة إلى بلدان المغرب العربي لكنها واجهت معارضة شديدة من القبائل الأمازيغية في البداية لكنها ما لبثت أن تقبلتهم وقد ساهم ذلك في إزالة المعارضة وحدة الدين حيث سبق الإسلام العرب إلى المنطقة، واختلطت المجموعتان مع الزمن وتشكّل عرقٌ منسجمُ من الأمازيغ والعرب مكونًا أهم مجموعة بشرية على مر تاريخ موريتانيا من الأمازيغ والعرب، هي سكان موريتانيا الحاليّون.
وتعرف موريتانيا بأنها بلد المليون شاعر وأديب، وذاع صيتها في العالم باسم بلاد شنقيط، وهي دولة تزخر بثروات معدنية كالحديد والنحاس والذهب والنفط، كما تعد ثاني بلد عربي بعد السودان حيث تمتلك ثروة حيوانية هائلة تفوق عدد سكان البلاد!
وينص الدستور الموريتاني على وجود أربع لغات وطنية أولها اللغة العربية “اللغة الرسمية للبلاد” إلى جانب اللغة البولارية والألفية والسونونكية وهي لغات إفريقية، لكن هناك لغة خامسة لا ينص عليها الدستور هي اللغة الزناكية (لغة أمازيغية)، وهذه الأخيرة تكاد تكون مندثرة إذ لا يتحدث بها إلا القليل من السكان.
وعن هوية موريتانيا يقول الكاتب الحسين ولد محمد عمر “اتضح لي بما لا يدع مجالًا للشك أن العرب لا يعتبرون موريتانيا من ضمن الدول العربية، فكثيرًا ما ستجد أنهم يصنفون موريتانيا ضمن الدول الإفريقية، فلا حفظ القرآن ولا إتقان قواعد النحو والصرف شفعا لموريتانيا في تغيير صورتها عند العرب”، ويضيف قائلًا “يرجع الكثير من الناس وأنا من بينهم تعلق الموريتانيين بالعروبة لعقدة نتيجة الإقصاء الذي يعانيه الموريتانيون من الدول العربية نفسها، فتجدهم يغتنمون أي فرصة لإثبات عروبة أراها شخصيًا مزيفة ولا تهمني إطلاقًا لأن قضايا كثيرة ذات أولوية محلية أهم بكثير من العروبة ومتعلقاتها”.
ويختلف الكاتب حسن المختار مع رأي مواطنه محمد عمر فيقول الأول: “كَوْن موريتانيا دولة إفريقية هذا صحيح ومبعث فخر، ولكنه لا ينفي عنها أيضًا صفة الدولة العربية.. ولا يوجد أصلًا تعارض بين الانتماءين لو صفيت النوايا والطوايا، وحتى لو افترضنا وجود تعارض أو تناقض بين الهويتين، فموريتانيا في النهاية دولة عربية في المقام الأول، وهنالك فرق في درجة “الإفريقية” بين موريتانيا وبوتسوانا أو رواندا مثلًا”.
زهد إريتري وتشادي في الانضمام للجامعة العربية
ما سردناه بخصوص الصومال والسودان وباقي الدول الخمسة ربما يجعلنا نجد العذر لإريتريا التي أبدت قبل عقدين من الزمان رغبتها في الانضمام إلى جامعة الدول العربية حيث مُنحت عضوية بصفة مراقب، إلا إنها سرعان ما تراجعت عن خطوات نيل العضوية الكاملة، وأدلى رئيسها أسياس أفورقي عام 2002 بتصريحٍ مثير جاء فيه: “الجامعة العربية لا تمثل شيئًا في العالم العربي ولا في الإقليم الذي تقع فيه إرتريا فضلًا عن افتقارها لأي فعالية مما يؤكد عدم توافر مسببات الانضمام اليها ومهما بلغت العواطف التي تُثار بشأن الجامعة فإن أي مواطن عربي يدرك تمامًا أن هذه المؤسسة لا تملك أي دور من أي نوع وعدم تأثيرها يساوي عدم وجودها”.
وكلمات أسياس أفورقي رغم قسوتها تمثل الحقيقة المرة بحسب العديد من المراقبين، فالجامعة بشكلها الحاليّ لم تحقق أي إنجاز يذكر للإنسان العربي بدءًا من القضية الفلسطينية التي يفترض أن تتصدر اهتمامات أي مواطن عربي ومسلم، جدير بالذكر أن أفورقي يتحدث اللغة العربية بطلاقة شأنه شأن 70% من المواطنين الإرتريين وربما أكثر.
تشاد نأت بنفسها بعيدًا ولم تتجاوب مع مبادرة قمة سرت ولم تسع حتى للحصول على عضوية مراقب التي مُنحت لإريتريا عام 2000
ولا ننسى كذلك أن القمة العربية التي استضافتها مدينة سرت الليبية عام 2010، كانت قد اتخذت قرارًا بتكليف رئاسة القمة والأمين العام للجامعة العربية بإجراء اتصالات مع حكومة تشاد لجهة بحث انضمامها إلى الجامعة واستندت القمة في قرارها إلى العلاقات التاريخية والجغرافية والثقافية واللغوية التي تجمع الدول العربية مع تشاد، وأشار القادة العرب الذين تبنوا القرار إلى أن دستور تشاد ينص على أن اللغة العربية لغة رسمية إلى جانب الفرنسية التي خلفها المستمر.
لكن تشاد نأت بنفسها بعيدًا ولم تتجاوب مع مبادرة قمة سرت ولم تسع حتى للحصول على عضوية مراقب التي مُنحت لإريتريا عام 2000، فقضت أسمرة ونجامينا على حلم ضم المزيد من الدول الأعضاء للكيان العربي بهدف توسيع القوة البشرية وزيادة الرقعة الجغرافية للجامعة وتوطيد قدراتها الدفاعية، بل إن التحدي يكمن الآن في الإبقاء على الكيان العربي بحالته الراهنة موحدًا دون أن تفاجئ إحدى الدول الخمسة بخروجها من جامعة الدول العربية كما فعلت بريطانيا بانسحابها من الاتحاد الأوروبي.
ويمكننا أن نستخلص من هذا المقال والذي سبقه أن جزءًا لا يستهان به من مواطني الدول العربية الـ5 التي تعد مهمشة ومنسيّة مقارنة بشقيقاتها أصبحوا لا يأبهون بفكرة وجود بلدانهم داخل الجامعة العربية التي يرون أنها لم تضف لهم شيئًا، بل يذهب العديد من هؤلاء إلى دعم فكرة الانسلاخ عن الجامعة في ردة فعلٍ كما يبدو على تعامل بعض العرب من الجنسيات الأخرى مع مواطني الدول الخمسة “الصومال والسودان وجيبوتي وجزر القمر وموريتانيا”، وقصة الصحفي الموريتاني في مطار بيروت خير شاهد ودليل على ذلك. فهل يأتي اليوم الذي تتجاوز فيه الشعوب العربية حكوماتها وتتبادل الأهمية الحقيقية لذاتها، في الوقت الذي فشلت فيه الحكومات بصنع ذلك.