ترجمة وتحرير: نون بوست
حين وصلتُ إلى بكين كمراسل في صيف سنة 2000، تحولت أول مقابلة أجريتها مع مسؤول صيني رفيع المستوى بسرعة إلى خطبة معادية للولايات المتحدة. على إثر ذلك، استدرك محاوري ضاحكا وقال بصوت عال: “لم يكن عليّ قول ذلك، فابنتي ستتزوج أميركيا الشهر المقبل”. كان ذلك قبل 18 سنة، ومن غير المرجح أن يسمح رجل في مكانته لنفسه بقول مزحة مماثلة اليوم أمام صحفي أجنبي.
في الحقيقة، يصعب العثور على الكلمة المناسبة لوصف العلاقة الحالية بين الولايات المتحدة والصين. وعند هذه النقطة، يُمكن أن تتبادر إلى الأذهان على الفور الإشارة إلى”الحرب الباردة”. لكن لا يمكن مقارنة التفاعل أو التواصل بين هذين العملاقين بالغياب شبه التام للعلاقات الاقتصادية والتبادلات الإنسانية التي ميزت التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
لكن، من المؤكد أنه من الضروري ابتكار اسم جديد لوصف طبيعة العلاقة بين الطرفين. مع ذلك، وفي الوقت الحالي، يُمكّن تشبيهها بالحرب الباردة من توضيح حجم المشكلة التي يطرحها تدهور العلاقات الصينية الأمريكية، على الأقل، كما يختص بإبراز مدى تأثير هذه العلاقات على السنوات القليلة القادمة، إن لم نقل العقود المقبلة. ومؤخرا، قدّر جاك ما، أغنى رجل في آسيا ورئيس علي بابا دوت كوم، أنه من الممكن أن تستمر الحرب التجارية التي أطلقتها واشنطن ضد بكين خلال العقدين المقبلين. وتجدر الإشارة إلى أن رجل الأعمال يُوشك على ترك منصبه من أجل تكريس نفسه “للعمل الخيري” على حد قوله.
يفرض تشابه العلاقات الحالية بين الصين والولايات المتحدة، بالحرب الباردة الحقيقية نفسها
في هذا الصدد، يُعتبر استمرار هذه الحرب أمرا مخيبا لآمال جاك ما بشكل خاص، الذي كان بعد أيام قليلة من انتخاب دونالد ترامب في تشرين الثاني / نوفمبر 2016 أول صيني يستقبله الرئيس المنتخب في برج ترامب. ومما لا شك فيه أن رجل الأعمال كان يحمل رسالة من طرف شي جين بينغ للرئيس الأمريكي. كما أعلن جاك ما، أنه في ظل السياق الحالي، لن يتمكن من الوفاء بالوعد الذي قدمه لدونالد ترامب بتوفير مليون وظيفة في الولايات المتحدة. وفي الواقع، لم يكن من الممكن التصديق بأنه سيتم الالتزام بهذا الوعد بالكامل. لكن الإشارة بدت واضحة: لن تُقدم الصين على الاستسلام.
الوقوف في وجه قوة المنافس المتنامية
يتميز التصعيد المنهجي الذي انتهجه الرئيس الأمريكي ببعدين إثنين، أولهما ملموس، وعملي تقريباً، يقوم على المظالم الاقتصادية والتجارية التي تشتكي الولايات المتحدة من ارتكاب العملاق الصيني لها. من جانبهم، يشتكي معظم الشركاء الاقتصاديين للصين من المسائل ذاتها. وللاقتناع بذلك، يكفي الإطلاع على التقارير السنوية الأخيرة، التي أصدرتها غرفة التجارة الأوروبية في الصين، التي تضم شركات من جميع دول الاتحاد الأوروبي، المتمركزة في البلاد. وسنجد في هذه التقارير الشكاوى ذاتها التي تقدم بها الأمريكيون.
أما البعد الثاني، فيتمثل في مزيج خفي ودقيق بين الاستراتيجية وعلم النفس، ذلك أن موقف دونالد ترامب العقابي يعكس الرغبة في إعادة شاب متغطرس للغاية إلى مكانه المناسب. كما يعكس التعبير رغبة القوة العظمى الوحيدة في الوقوف أمام تنامي قوة المنافس.
حين نخص اهتمامنا برهان الحرب التجارية التي شنتها واشنطن على بكين، المتمثل في التكنولوجيا، سيتجلى هذا البعد بوضوح. ويرى العديد من المحللين أن الدافع الحقيقي لهذه “الحرب” الخاصة، يتمثل في إعلان بكين، (حتى قبل وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض)، عن خطة “الصين 2025″، التي تحدد القطاعات التكنولوجية ذات الأولوية الخاصة بالنسبة للسلطة الصينية، التي تعتزم أن تصبح القوة العالمية الرائدة في هذا المجال.
مع الصين، نحن نعيش”زمن سبوتنك”، خاصة مع ظهور قوة تكنولوجية كبرى، تُعتبر الوحيدة القادرة اليوم على منافسة الولايات المتحدة
زمن “السبوتنك”
يُعتبر التحدي الصيني للقيادة الأمريكية أمرا لا يطاق، كما يكشف أن كلا البلدين يميلان إلى الهيمنة في مواقفهما السياسية. عند هذا المستوى، يفرض تشابه العلاقات الحالية بين الصين والولايات المتحدة، بالحرب الباردة الحقيقية نفسها. ففي الرابع من تشرين الأول / أكتوبر من سنة 1957، أطلق الاتحاد السوفيتي “سبوتنك”، وهو أول قمر صناعي في مدار حول الأرض. حينها، أُصيبت الولايات المتحدة بصدمة، لم يكن سببها أنها لم تكن مكتشفة هذا الاختراع، وإنما لأنها اكتشفت مدى تقدم الأبحاث السوفيتية، التي سبق وأن قللت من شأنها.
كان رد فعل واشنطن على ذلك فوريا. ففي سنة 1958، أنشأ الرئيس دوايت أيزنهاور وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة، وهي مؤسسة أبحاث موهوبة ومكلفة بضمان تقدم الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيات الحديثة. وقد استفادت هذه الوكالة من زيادة كبيرة في الميزانية منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة، لحماية تقدم الولايات المتحدة في قطاع استراتيجي، تماما مثل تطبيق الذكاء الاصطناعي على الأسلحة المستقبلية.
مع الصين، نحن نعيش”زمن سبوتنك”، خاصة مع ظهور قوة تكنولوجية كبرى، تُعتبر الوحيدة القادرة اليوم على منافسة الولايات المتحدة. إذا كان هذا التحليل هو الأنسب، فمع دونالد ترامب، نحن لسنا محصنين ضد تقلبات مواقفه، كما حدث حين غيّر من لهجته مع كوريا الشمالية.
في الواقع، لا يهدف الهجوم الأمريكي ضد بكين إلى الحصول على بعض التنازلات التجارية فحسب، وإنما إلى تعطيل الصين وإبطاء نسق نموها، ومنح الوقت للولايات المتحدة لتعزيز تقدمها الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي. بناء على ذلك، تُوشك الولايات المتحدة على الحصول على عكس ما تسعى إليه، من خلال تشجيع الصين على تخفيض تبعيتها إلى أدنى حد ممكن للتكنولوجيا الغربية، حتى تحقق استقلاليتها التامة.
شي جين بينغ لا يرغب في “التواجد في موقف مهين”
خلال الربيع الماضي، شكلت “قضية زد.تي.إي” إشارة تحذيرية لبكين. وتُعتبر زد.تي.إي ثاني أكبر شركة صينية لخدمات الاتصالات والصناعات بعد شركة هواوي. ويتهمها الأمريكيون بانتهاك العقوبات المفروضة على إيران، لذلك تمت معاقبتها هي الأخرى. وحين أدرك الأميركيون أن هذه الشركة قد واصلت تسليم معدات تحتوي على مكونات أمريكية إلى إيران، عمدوا إلى حظرها من سوقهم وحرمانها من التزود بهذه بالمكونات الأساسية.
بسبب عدم قدرتها على تغطية إنتاجها، أوشكت زد.تي.إي على الإفلاس. لكن تم إنقاذها قُبيل ذلك من قبل دونالد ترامب، من خلال تغريدة “شهمة” أعلن فيها أنه يريد إنقاذ الوظائف الصينية! وقد ساعد هذا الحادث شي جين بينغ على إدراك نقاط ضعف الصين. ومنذ ذلك الحين، قرر علانية تحقيق استقلالية تكنولوجية للبلاد.
كما أثارت هذه القضية جدلا، نادرا ما تم الخوض فيه، في الأوساط الحاكمة في الصين. فقد انتقدت بعض الأصوات الموقف الاستفزازي للرئيس الصيني، وأعربت عن أسفها من قطعه مع سياسة الحذر التي كان قد أوصى دينج شياو بينج “مُنظّر الإصلاحات الاقتصادية” باتباعها في ذلك الوقت. لكن سرعان ما تم إنهاء هذا النقاش.
على المدى الطويل، ستكون نتيجة ذلك تقسيم العالم إلى منطقتين مختلفتين بوضوح، حيث ستنخفض نسبة التواصل بينهما، مقارنة بما هي عليه اليوم
توشك الحرب التجارية مع الولايات المتحدة أن تكون مكلفة على المدى القصير بالنسبة للصين. لكن لا يُمكن لهذه الدولة السماح لنفسها بالاستسلام، ذلك أن شي جين بينغ لن يرغب في “التواجد في موقف مهين”. في الأثناء، سيستمر الرئيس الصيني في المضي قُدما على طريق الاستقلالية الاستراتيجية، حتى وإن قدم أحيانا بعض التنازلات لتهدئة التوترات بين بلاده والولايات المتحدة.
على المدى الطويل، ستكون نتيجة ذلك تقسيم العالم إلى منطقتين مختلفتين بوضوح، حيث ستنخفض نسبة التواصل بينهما، مقارنة بما هي عليه اليوم. ونُلاحظ جيدا في الوقت الحاضر وجود شبكة إنترنت يُهيمن عليها الطرف الأمريكي، وأخرى صينية. هكذا، سيتواجه عمالقة الويب الأمريكيين (جوجل، وأمازون، وفيسبوك، وأبل) مع أولئك الصينيين (بايدو، وعلي بابا، وتينسنت، وشاومي). وتجدر الإشارة إلى أنه يتم حظر هواوي، الشركة المصنعة للأجهزة الصينية، بشكل متزايد في الولايات المتحدة، ومؤخرا في أستراليا أيضا.
على سبيل المثال، انضمت الصين في البداية إلى مشروع غاليليو الأوروبي للأقمار الصناعية لتحديد المواقع الجغرافية، المنافس لنظام جي بي أس الأمريكي. لكنها انسحبت منه بعد ذلك وابتكرت نظامها الخاص، وهو نظام بايدو للملاحة بالأقمار الصناعية، الذي أرسل بالفعل 38 قمرا صناعيا إلى الفضاء. ويتم اعتماد هذا النظام في كل من الصين وآسيا، وتهدف بكين إلى أن يُصبح عالميا بحلول سنة 2020. وبالتالي، يُمكن أن يختفي نظام جي بي أس من الهواتف الذكية والسيارات الصينية.
إذا لم تكن العلاقات بين الطرفين بمثابة حرب باردة حقا، فهي تبدو كذلك، لأن هذين العالمين المتوازيين والمتنافسين يمكن أن يصبحا عدائيين ويجبران بالتالي بقية دول العالم على “اختيار الطرف” التي تُريد الاصطفاف وراءه. لقد بدأ دونالد ترامب بفرض التعريفات الجمركية على الصلب وبعض المنتجات الأخرى. وهكذا، لا أحد يعلم مصير هذه المنافسة.
الصحيفة: نوفال أوبسرفاتور